{ بَلْ عَجِبْتَ } خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وجوز أن يكون لكل من يقبله . { *وبل } للاضراب إما عن مقدر يشعر به { فاستفتهم } [ الصافات : 11 ] الخ أي هم لا يقرون ولا يجيبون بما هو الحق بل مثلك ممن يذعن ويتعجب من تلك الدلائل أو عن الأمر بالاستفتاء أي لا تستفتهم فإنهم معاندون لا ينفع فيهم الاستفتاء ولا يتعجبون من تلك الدلائل بل مثلك ممن يتعجب منها { وَيَسْخُرُونَ } أي وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من الآيات ، وجوز أن يكون المعنى بل عجبت من إنكارهم البعث مع هذه الآيات وهم يسخرون من أمر البعث ، واختير أن يكون المعنى بل عجبت من قدرة الله تعالى على هذه الخلائق العظيمة وإنكارهم البعث وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث ، وزعم بعضهم أن المراد بمن خلقنا الأمم الماضية وليس بشيء إذ لم يسبق لهذه الأمم ذكر وإنما سبق الذكر للملائكة عليهم السلام وللسموات والأرض وما سمعت مع أن حرف التعقيب مما يدل على خلافه ، ومن قال كصاحب الفرائد عليه جمهور المفسرين سوى الإمام ووجهه بأنه لما احتج عليهم بما هم مقرون به من كونه رب السموات والأرض ورب المشارق وألزمهم بذلك وقابلوه بالعناد قيل لهم : فانتظروا الإهلاك كمن قبلكم لأنهكم لستم أشد خلقاً منهم فوضع موضعه { فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً } [ الصافات : 11 ] وقوله تعالى : { إِنَّا خلقناهم } [ الصافات : 11 ] تعليل لأنهم ليسوا أشد خلقاً أو دليل لاستكبارهم المنتج للعناد . وأيده بدلالة الإضراب واستبعاد البعث بعده لدلالته على أنه غير متعلق بما قبل الاضراب فقد ذهب عليه أن اللفظ خفي الدلالة على ما ذكر من العناد واستحقاق الاهلاك كسالف الأمم ؛ وتعليل نفي الأشدية بما علل ليس بشيء لوضوح أن السابقين أشد في ذلك ، وكم من ذلك في الكتاب العزيز ، وأما الاضراب فعن الاستفتاء إلى أن مثلك ممن يذعن ويتعجب من تلك الدلائل ولذا عطف عليه { وَيَسْخُرُونَ } وجعل ما أنكروه من البعث من بعض مساخرهم قاله صاحب الكشف فلا تغفل . وقرأ حمزة . والكسائي . وابن سعدان . وابن مقسم { عَجِبْتَ } بتاء المتكلم ورويت عن علي كرم الله تعالى وجهه . وابن عباس . وابن مسعود . والنخعي . وابن وثاب . وطلحة وشقيق . والأعمش .
وأنكر شريح القاضي هذه القراءة وقال : إن الله تعالى لا يعجب من شيء وإنما يعجب من لا يعلم ، وانكار هذا القاضي مما أفتى بعدم قبوله لأنه في مقابل بينة متواترة ، وقد جاء أيضاً في الخبر عجب ربكم من الكم وقنوطكم .
وأولت القراءة بأن ذلك من باب الفرض أي لو كان العجب مما يجوز عليّ لعجبت من هذه الحال أو التخييل فيجعل تعالى كأنه لانكاره لحالهم يعدها أمراً غريباً ثم يثبت له سبحانه العجب منها ، فعلى الأول تكون الاستعارة تخييلية تمثيلية كما في قولهم : قال الحائط للوتد لم تشقني فقال سل من يدقني ، وعلى الثاني تكون مكنية وتخييلية كما في نحن لسان الحال ناطق بكذا والمشهور في أمثاله الحمل على اللازم فيكون مجازاً مرسلاً فيحمل العجب على الاستعظام وهو رؤية الشيء عظيماً أي بالغا الغاية في الحسن أو القبح ، والمراد هنا رؤية ما هم عليه بالغا الغاية في القبح ، وليس استعظام الشيء مسبوقاً بانفعال يحصل في الروع عن مشاهدة أمر غريب كما توهم ليقال : إن التأويل المذكور لا يحسم مادة الاشكال .
وقال أبو حيان : يؤول على أنه صفة فعل يظهرها الله تعالى في صفة المتعجب منه من تعظيم أو تحقير حتى يصير الناس متعجبين منه فالمعنى بل عجبت من ضلالتهم وسوء نحلتهم وجعلتها للناظرين فيها وفيما اقترن بها من شرعي وهداي متعجباً ، وقال مكي . وعلي بن سليمان : ضمير { عَجِبْتَ } للنبي عليه الصلاة والسلام والكلام بتقدير القول أي قب بل عجبت ، وعندي لو قدر القول بعد بل كان أحسن أي بل قل عجبت ، والذي يقتضيه كلام السلف ان العجب فينا انفعال يحصل للنفس عند الجهل بالسبب ولذا قيل : إذ ظهر السبب بطل العجب وهو في الله تعالى بمعنى يليق لذاته عز وجل هو سبحانه أعلم به فلا يعينون المراد والخلف يعينون .
{ 12 - 21 } { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ * فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ * وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ }
{ بَلْ عَجِبْتَ } يا أيها الرسول وأيها الإنسان ، من تكذيب من كذب بالبعث ، بعد أن أريتهم من الآيات العظيمة والأدلة المستقيمة ، وهو حقيقة محل عجب واستغراب ، لأنه مما لا يقبل الإنكار ، { و } أعجب من إنكارهم وأبلغ منه ، أنهم { يَسْخَرُونَ } ممن جاء بالخبر عن البعث ، فلم يكفهم مجرد الإنكار ، حتى زادوا السخرية بالقول الحق .
قوله تعالى{ بل عجبت ويسخرون } اختلفت القراء في قراءة ذلك فقرأته عامة قراء الكوفة{ بل عجبت ويسخرون }بضم التاء من عجبت ، بمعنى : بل عظم عندي وكبر اتخاذهم لي شريكا . وقرأ ذلك عامة قراء البصرة وبعض قراء الكوفة { بل عجبت } بفتح التاء بمعنى : بل عجبت أنت يا محمد ، ويسخرون من هذا القرآن . إذن فهما قراءتان مشهورتان في قراء الأمصار ، فبأيهما قرأ القارئ فهو مصيب . وقال قتادة في هذه الآية{ بل عجبت ويسخرون }عجب محمد عليه الصلاة والسلام من هذا القرآن حين أعطيه وسخر منه أهل الضلالة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{بل عجبت} يا محمد من القرآن حين أوحي إليك...
{ويسخرون} يعني كفار مكة سخروا من النبي صلى الله عليه وسلم حين سمعوا منه القرآن...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ"، اختلفت القرّاء في قراءة ذلك؛ فقرأته عامة قرّاء الكوفة: «بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ» بضم التاء من عجبت، بمعنى: بل عظم عندي وكبر اتخاذهم لي شريكا، وتكذيبهم تنزيلي وهم يسخرون. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة "بَلْ عَجِبْتَ "بفتح التاء بمعنى: بل عجبتَ أنت يا محمد ويسخرون من هذا القرآن.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان في قرّاء الأمصار، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
فإن قال قائل: وكيف يكون مصيبا القارئ بهما مع اختلاف معنييهما؟ قيل: إنهما وإن اختلف معنياهما، فكلّ واحد من معنييه صحيح، قد عجب محمد مما أعطاه الله من الفضل، وسخر منه أهل الشرك بالله، وقد عجب ربنا من عظيم ما قاله المشركون في الله، وَسخِر المشركون بما قالوه.
فإن قال: أكان التنزيل بإحداهما أو بكلتيهما؟ قيل: التنزيل بكلتيهما، فإن قال: وكيف يكون تنزيل حرف مرّتين؟ قيل: إنه لم ينزل مرّتين، إنما أنزل مرّة، ولكنه أمر صلى الله عليه وسلم أن يقرأ بالقراءتين كلتيهما...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{بل عجبت ويسخرون} بالنصب يحتمل وجوها:
أحدها: عجبت منهم إنكارهم ما أنكروا بعد كثرة قيام الآيات والحجج عليهم في ذلك، وهم ينكرون، ويسخرون،
والثاني: يقول: عجبت، ويسخرون لما أنك بزعمهم؛ لعظيم ما ينزل بهم من العذاب والشدائد وما يستقبلهم من الأمور المهمة، وهم يسخرون.
والثالث: يقول: بل عجبت لما تدعوهم أنت إلى ما به نجاتهم وفلاحهم، وهم يسخرون.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
حقيقة التعجب تغير النفس مما لم تجر العادَةُ بحدوث مثله، وبالضم فكأن الحقّ يقول ذلك مِنْ قبلَ نفسه بل عجبتُ، وَيقال ذلك بمعنى إكبار ذلك الشيء، إما في القدر، أو الإكثار في الذمِّ أو في المدح.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{بل عجبت} يا محمد من تكذيبهم إياك و هم {ويسخرون} من تعجبك.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
عجبت: عظم حلمي عن ذنوبهم، والمتعجب هو الذي يرى ما يعظم عنده.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
«بل عجبت» من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة (و) هم {يسخرون} منك ومن تعجبك وما تريهم من آثار قدرة الله، أو من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث وقرئ: بضم التاء، أي: بلغ من عظم آياتي وكثرة خلائقي أني عجبت منها، فكيف بعبادي وهؤلاء بجهلهم وعنادهم يسخرون من آياتي أو عجبت من أن ينكروا البعث ممن هذه أفعاله، وهم يسخرون ممن يصف الله بالقدرة عليه.
فإن قلت: كيف يجوز العجب على الله تعالى، وإنما هو روعة تعتري الإنسان عند استعظامه الشيء، والله تعالى لا يجوز عليه الروعة؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يجرد العجب لمعنى الاستعظام، والثاني: أن يتخيل العجب ويفرض.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقرأ جمهور القراء «بل عجبتَ» بفتح التاء، أي عجبت يا محمد عن إعراضهم عن الحق وعماهم عن الهدى وأن يكونوا كافرين مع ما جئتهم به من عند الله، وقرأ حمزة والكسائي «بل عجبتُ» بضم التاء، ورويت عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن وثاب والنخعي وطلحة وشقيق والأعمش وذلك على أن يكون تعالى هو المتعجب، ومعنى ذلك من الله أنه صفة فعل، ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم «يعجب الله تعالى إلى قوم يساقون إلى الجنة في السلاسل»، وقوله عليه السلام «يعجب الله من الشاب ليست له صبوة»، فإنما هي عبارة عما يظهره تعالى في جانب المتعجب منه من التعظيم والتحقير حتى يصير الناس متعجبين منه، فمعنى هذه الآية بل عجبت من ضلالتهم وسوء نحلتهم، وجعلتها للناظرين، وفيما اقترن معها من شرعي وهداي متعجباً...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان من المعلوم قطعاً أن المراد بهذا الأمر بالاستفتاء إنما هو التبكيت لأن من المعلوم قطعاً أن الجواب: ليسوا أشد خلقاً من ذلك، فليس بعثهم ممتنعاً، وليست غلبتهم لرسول الواحد القهار -الذي حكمه في هذا الوحي بإظهاره على الدين كله- بجائزة أصلاً، نقلاً ولا عقلاً، بوجه من الوجوه، فلا شبهة لهم في إنكاره ولا في ظنهم أنهم يغلبون رسولنا، بل هم في محل عجب شديد في إنكاره وظنهم أنهم غالبون في الدنيا، عبر عن ذلك بقوله، مسنداً العجب إلى أجلّ الموجودات أو أجلّ المخلوقات تعظيماً له بمعنى أنه قول يستحق أن يقال فيه: أنه لا يدري ما الذي أوقع فيه وكان سبباً لارتكابه، فقال: {بل عجبت} بضم التاء على قراءة حمزة والكسائي لفتاً للقول من مظهر العظمة للتصريح بإسناد التعجب إليه سبحانه إشارة إلى تناهي هذا العجب إلى حد لا يوصف لإسناده إلى من هو منزه عنه، وبفتحها عند الباقين أي من جرأتهم في إنكارهم البعث ولا سيما وقد دل عليه القرآن في هذه الأساليب الغريبة والوجوه البديعة العجيبة التي لا يشك فيها من له أدنى تصور، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ظن كما هو اللائق أنه لا يسمع القرآن أحد إلا آمن به... ومثل هذا حديث الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال لأم سليم وأبي طلحة رضي الله عنهما:
" ضحك -وفي رواية: عجب- الله من فعالكما الليلة"، وحديث البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً: "عجب ربنا من أقوام يقادون إلى الجنة في السلاسل "ومثله كثير، والمعنى في الكل التنبيه على عظم الفعل وأنه خارق للعادة، ويجوز أن يكون المعنى أنهم لم ينكروه لقلة الدلائل عليه، بل قد أتى من دلائله ما يعجب إعجاباً عظيماً من كثرته وطول الأناة في مواترته {ويسخرون} أي حصل لك العجب والحال أنهم يجددون السخرية كلما جئتهم بحجة.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{بَلْ عَجِبْتَ} يا أيها الرسول وأيها الإنسان، من تكذيب من كذب بالبعث، بعد أن أريتهم من الآيات العظيمة والأدلة المستقيمة، وهو حقيقة محل عجب واستغراب، لأنه مما لا يقبل الإنكار، {و} أعجب من إنكارهم وأبلغ منه، أنهم {يَسْخَرُونَ} ممن جاء بالخبر عن البعث، فلم يكفهم مجرد الإنكار، حتى زادوا السخرية بالقول الحق.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم المخاطبِ بقوله: {فَاستَفْتِهِم} [الصافات: 11]، وفعل المضيّ مستعمل في معنى الأمر وهو من استعمال الخبر في معنى الطلب للمبالغة، كما يستعمل الخبر في إنشاء صيغ العقود نحو: بِعت. والمعنى: اعجَبْ لهم وجيء بالمضارع في {يسخرون} لإِفادة تجدد السخرية، وأنهم لا يرعوُون عنها. والسخرية: الاستهزاء.
معنى (بَلْ) إضراب عن الكلام السابق وبداية لكلام جديد (عَجِبْتَ) بالفتح أي: يا محمد. والعَجَبُ: هو استغراب وقوع شيء على خلاف نظائره، ومن ذلك قوله تعالى في العقائد: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ..} [البقرة: 28].
يعني: كيف يحدث منكم الكفر بعد أنْ فعلنا بكم ذلك؟ هذا شيء مُسْتغرب، ومسألة عجيبة. يعني: جاءت على خلاف ما يُنتظر منكم.
لكن من أيِّ شيء عجب النبي صلى الله عليه وسلم؟ عجب من إنكارهم ومن كفرهم، مع وضوح الأدلة الدامغة على صِدْق قضية الإيمان. وقد سُقْنا لهم الدليل تِلْو الدليل، ومع ذلك كذَّبوا...
وقوله تعالى: {وَيَسْخَرُونَ} السخرية هي الاستهزاء من الشيء، والمعنى أنك تعجب يا محمد من نكرانهم وتكذيبهم مع وضوح الأدلة، وهم يسخرون منك ومن تعجبك.