المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{بَلۡ عَجِبۡتَ وَيَسۡخَرُونَ} (12)

وقرأ جمهور القراء «بل عجبتَ » بفتح التاء ، أي عجبت يا محمد عن إعراضهم عن الحق وعماهم عن الهدى وأن يكونوا كافرين مع ما جئتهم به من عند الله ، وقرأ حمزة والكسائي «بل عجبتُ » بضم التاء ، ورويت عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن وثاب والنخعي وطلحة وشقيق والأعمش وذلك على أن يكون تعالى هو المتعجب ، ومعنى ذلك من الله أنه صفة فعل ، ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم «يعجب الله تعالى إلى قوم يساقون إلى الجنة في السلاسل »{[9834]} ، وقوله عليه السلام «يعجب الله من الشاب ليست له صبوة »{[9835]} ، فإنما هي عبارة عما يظهره تعالى في جانب المتعجب منه من التعظيم والتحقير حتى يصير الناس متعجبين منه ، فمعنى هذه الآية بل عجبت من ضلالتهم وسوء نحلتهم ، وجعلتها للناظرين ، وفيما اقترن معها من شرعي وهداي متعجباً ، وروي عن شريح أنه أنكر هذه القراءة وقال إن الله تعالى لا يعجب ، وقال الأعمش : فذكرت ذلك لإبراهيم ، فقال إن شريحاً كان معجباً بعلمه وإن عبد الله أعلم منه{[9836]} ، وقال مكي وعلي بن سليمان في كتاب الزهراوي : هو إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه كأن المعنى قل بل عجبت ، وقوله { يسخرون } أي وهم يسخرون من نبوءتك والحق الذي عندك .


[9834]:أخرجه أحمد في مسنده(2-302، 406، 448، 457، 5-249)، وأخرجه البخاري في الجهاد، وكذلك أبو داود، واللفظ في المسند، عن أبي هريرة رضي الله عنه:(عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل)، قال البيهقي: قد يكون هذا الحديث وما ورد من أمثاله أنه يعجّب ملائكته من كرمه ورأفته بعباده، حين حملهم على الإيمان به بالقتال والأسر في السلاسل، حتى إذا آمنوا أدخلهم الجنة.
[9835]:أخرجه أحمد في مسنده(4-151)، عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الله عز وجل ليعجب من الشاب ليست له صبوة).والصبوة: الميل إلى اللهو، وفي التنزيل العزيز:{وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن}.
[9836]:عبد الله المقصود هنا هو ابن مسعود رضي الله عنه. قال أبو زكريا الفراء في كتابه (معاني القرآن):"والرفع أحب إلي؛ لأنها قراءة علي، وابن مسعود، وعبد الله بن عباس، قال شقيق: قرأت عند شريح:{بل عجبت ويسخرون}، فقال: إن الله لا يعجب من شيء، إنما يعجب من لا يعلم، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال: إن شريحا شاعر يعجبه علمه، وعبد الله أعلم بذلك". ثم قال الفراء:"والعجب وإن أسند إلى الله فليس معناه من الله كمعناه من العباد، ألا ترى أنه قال:{فيسخرون منهم سخر الله منهم} وليس السخري من الله كمعناه من العباد، وكذلك قوله:{الله يستهزئ بهم} ليس ذلك من الله كمثله من العباد، ففي ذا بيان لِكسر قول شريح وإن كان جائزا؛ لأن المفسرين قالوا: بل عجبت يا محمد ويسخرون هم، فهذا وجه النصب".