روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ سَدّٗا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدّٗا فَأَغۡشَيۡنَٰهُمۡ فَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ} (9)

{ وَجَعَلْنَا } عطف على { جَعَلْنَا } السابق { مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } من قدامهم { سَدّا } عظيماً وقيل نوعاً من السد { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } من ورائهم { سَدّا } كذلك والقدام والوراء كناية عن جميع الجهات { فأغشيناهم } فغطينا بما جعلناه من السد أبصارهم ، وعن مجاهد { فأغشيناهم } فألبسنا أبصارهم غشاوة { فَهُمُ } بسبب ذلك { لاَّ يُبْصِرُونَ } لا يقدرون على إبصار شيء ما أصلاً .

وقرأ جمع من السبعة وغيرهم { سَدّا } بضم السين وهي لغة فيه ، وقيل ما كان من عمل الناس فهو بالفتح وما كان من خلق الله تعالى فهو بالضم ، وقيل بالعكس . وقرأ ابن عباس . وعمر بن عبد العزيز . وابن يعمر . وعكرمة . والنخعي . وابن سيرين . والحسن . وأبو رجاء . وزيد بن علي . وأبو حنيفة . ويزيد البربري . ويزيد بن المهلب . وابن مقسم { *فأغشيانهم } بالعين من العشا وهو ضعف البصر ، ومجموع المتعاطفين من قوله تعالى : { تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا } الخ تأكيد وتقرير لما دل عليه قوله سبحانه : { لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ } [ يس : 7 ] الخ من سوء اختيارهم وقبح حالهم فإن جعل الله تعالى إياهم بما أظهر فيهم من الإعجاب العظيم بأنفسهم مستكبرين عن اتباع الرسل عليهم السلام شامخين برؤوسهم غير خاضعين لما جاؤوا به وسد أبواب النظر فيما ينفعهم عليهم بالكلية ليس إلا لأنهم سيئو الاختيار وقبيحو الأحوال قد عشقت ذواتهم ما هم عليه عشقاً ذاتياً وطلبته طلباً استعدادياً فلم تكن لها قابلية لغيره ولم تلتفت إلى ما سواه ، وإذا قايست بين ذواتهم وما هم عليه وبين الجسم والحيز أو الثلاثة والفردية مثلاً لم تكد تجد فرقاً { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 33 ] ففي الكلام تشبيهات متعددة كما لوحنا إليه ، وهذا الوجه هو الذي يقتضيه ما عليه كثير من الأجلة وإن لم يذكروه في الآية ؛ وفي الانتصاف إذا فرق التشبيه كان تصميمهم على الكفر مشبهاً بالأغلال وكان استكبارهم عن قبول الحق والتواضع لاستماعه مشبهاً بالإقماح لأن المقمح لا يطأطأ رأسه ، وقوله تعالى : { فَهِىَ إِلَى الاذقان } [ يس : 8 ] تتمة للزوم الإقماح لهم وكان عدم النظر في أحوال الأمم الخالية مشبهاً بسد من خلقهم وعدم النظر في العواقب المستقبلة مشبهاً بسد من قدامهم وفي التيسير جمع الأيدي إلى الأذقان بالأغلال عبارة عن منع التوفيق حتى استكبروا عن الحق لأن المتكبر يوصف برفع العنق والمتواضع بضده كما في قوله تعالى : { فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين } [ الشعراء : 4 ] ولم يذكر المراد بجعل السد ، وذكر الإمام أن المانع عن النظر في الآيات قسمان قسم يمنع عن النظر في الأنفس فشبه ذلك بالغل الذي يجعل صاحبه مقمحاً لا يرى نفسه ولا يقع بصره على بدنه وقسم يمنع عن النظر في الآفاق فشبه ذلك بالسد المحيط فإن المحاط بالسد لا يقع نظره على الآفاق فلا يظهر له ما فيها من الآيات فمن ابتلي بهما حرم عن النظر بالكية ، واختار بعضهم كون { إِنَّا جَعَلْنَا } الخ تمثيلاً مسوقاً لتقرير تصميمهم على الكفر وعدم ارعوائهم عنه فيكون قد مثل حالهم في ذلك بحال الذين غلت أعناقهم ، وجوز في قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا } الخ أن يكون تتمة لذلك وتكميلاً له وأن يكون تمثيلاً مستقلاً فإن جعلهم محصورين بين سدين هائلين قد غطيا أبصارهم بحيث لا يبصرون شيئاً قطعاً كاف في «الكشف » عن كمال فظاعة حالهم وكونهم محبوسين في مطمورة الغي والجهالات .

وقال أبو حيان الظاهر أن قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا } الآية على حقيقتها لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون أخبر سبحانه عن شيء من أحوالهم في الآخرة إذا دخلوا النار ، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع ، ولا يضعف هذا كما زعم ابن عطية قوله تعالى : { فأغشيناهم فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } لأن بصر الكافر يومئذٍ حديد يرى قبح حاله ، ألا ترى إلى قوله سبحانه : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا } [ الإسراء : 7 9 ] وقوله سبحانه : { قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أعمى } [ طه : 125 ] فإما أن يكون ذلك حالين وإما أن يكون قوله تعالى : { فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ } [ ق : 22 ] كناية عن إدراكه ما يؤول إليه حتى كأنه يبصره ، واعترض بعضهم عليه بأنه يلزم أن يكون الكلام أجنبياً في البين وتوجيهه بأنه كالبيان لقوله تعالى : { لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ } [ يس : 7 ] قد دغدغ فيه ، والإنصاف أنه خلاف الظاهر ، وقال الضحاك : والفراء في قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا فِى أعناقهم أغلالا } [ يس : 8 ] استعارة لمنعهم من النفقة في سبيل الله تعالى كما قال سبحانه : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ } [ الإسراء : 9 2 ] ولعله جعل الجملة الثانية استعارة لمنعهم عن رؤية الخير والسعي فيه ، ولا يخفى أن كون الكلام على هذا أجنبياً في البين في غاية الظهور ، وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة فتأذى به ناس من قريش حتى قاموا ليأخذوه فإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم وإذا هم لا يبصرون فجاؤا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : ننشدك الله تعالى والرحم يا محمد قال : ولم يكن بطن من بطون قريش إلا وللنبي صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة فدعا النبي عليه الصلاة والسلام حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت يس { والقرآن الحكيم } إلى قوله سبحانه : { أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ يس : 1-10 ] فلم يؤمن من ذلك النفر أحد ، وروي أن الآيتين نزلتا في بني مخزوم وذلك أن أبا جهل حمل حجراً لينال بهاما يريد برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فأثبتت يده إلى عنقه حتى عاد إلى أصحابه والحجر قد لزق بيده فما فكوه إلا بجهد فأخذه مخزومي آخر فلما دنا من الرسول صلى الله عليه وسلم طمس الله تعالى بصره فعاد إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه فقام ثالث فقال : لأشدخن أنا رأسه ثم أخذ الحجر وانطلق فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشياً عليه فقيل له : ما شأنك ؟ قال : عظيم رأيت الرجل فلما دنوت منه فإذا فحل ما رأيت فحلاً أعظم منه حال بيني وبينه فواللات والعزى لو دنوت منه لأكلني فجعل الغل يكون استعارة عن منع من أراد أذاه عليه الصلاة والسلام وجعل السد استعارة عن سلب قوة الإبصار كما قيل ، وقال السدي : السد ظلمة حالت فمنعت الرؤية ، وجاء في الآثار غير ذلك مما يقرب منه والربط عليها غير ظاهر ، ولعله باعتبار إشارة الآيتين إلى ما هو عليه من التصميم على الكفر وشدة العناد ؛ ومع هذا الأرجح في نظر البليغ حمل الكلام على غير ما تقتضيه ظواهر الآثار مما سمعت وليس فيها ما ينافيه عند التحقيق فتأمل .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ سَدّٗا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدّٗا فَأَغۡشَيۡنَٰهُمۡ فَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ} (9)

{ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا } أي : حاجزا يحجزهم عن الإيمان ، { فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ } قد غمرهم الجهل والشقاء من جميع جوانبهم ، فلم تفد فيهم النذارة .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ سَدّٗا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدّٗا فَأَغۡشَيۡنَٰهُمۡ فَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ} (9)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"وَجَعَلْنا مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ سَدّا" يقول تعالى ذكره: وجعلنا من بين أيدي هؤلاء المشركين سدّا، وهو الحاجز بين الشيئين، إذا فتح كان من فعل بني آدم، وإذا كان من فعل الله كان بالضمّ. وبالضمّ قرأ ذلك قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين. وقرأه بعض المكيين وعامة قرّاء الكوفيين بفتح السين سَدّا في الحرفين كلاهما، والضم أعجب القراءتين إليّ في ذلك، وإن كانت الأخرى جائزة صحيحة.

وعنى بقوله: "وَجَعَلْنا مِن بينِ أيْدِيهِمْ سَدّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّا "أنه زيّن لهم سوء أعمالهم، فهم يَعْمَهون، ولا يبصرون رشدا، ولا يتنبهون حقا...

وقوله: "فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ" يقول: فأغشينا أبصار هؤلاء: أي جعلنا عليها غشاوة فهم لا يبصرون هدى ولا ينتفعون به...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

أغرقناهم اليومَ في بحار الضلالة وأحْطنا بهم سرادقات الجهالة. وفي الآخرة سنُغْرِقُهم في النار والأنكال، ونضيِّقُ عليهم الحال، بالسلاسل والأغلال. {فَأَغْشَيْنَاهُمْ}: أعميناهم اليومَ عن شهود الحُجَّة، ونُلَبِّسُ في الآخرة سبيلَ المَحَجَّة، فَيتَعَثَّرُون في وَهَدَاتِ جهنم داخرين، ويبقون في حُرُقَاتها مهجورين، مطرودين ملعونين، لا نَقْطَعُ عنهم ما به يُعَذَّبُون، ولا نَرْحمهم مما منه يَشْكُون؛ تَمَادَى بهم حِرْمانُ الكفر، وأحاطت بهم سرادقاتُ الشقاء، وَوقعت عليهم السِّمَةُ بالفراق.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

..."فأغشيناهم" فأغشينا أبصارهم أي: غطيناها وجعلنا عليها غشاوة عن أن تطمح إلى مرئي وعن مجاهد: فأغشيناهم: فألبسنا أبصارهم غشاوة.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{وجعلنا من بين أيديهم سدا}؛ مسائل:

المسألة الأولى: السد من بين الأيدي ذكره ظاهر الفائدة، فإنهم في الدنيا سالكون وينبغي أن يسلكوا الطريقة المستقيمة ومن بين أيديهم سدا فلا يقدرون على السلوك، وأما السد من خلفهم، فما الفائدة فيه؟

فنقول الجواب عنه من وجوه؛

الأول: هو أن الإنسان له هداية فطرية، والكافر قد يتركها، وهداية نظرية، والكافر ما أدركها، فكأنه تعالى يقول: جعلنا من بين أيديهم سدا، فلا يسلكون طريقة الاهتداء التي هي نظرية، {وجعلنا من خلفهم سدا} فلا يرجعون إلى الهداية الجبلية التي هي الفطرية.

الثاني: هو أن الإنسان مبدأه من الله ومصيره إليه، فعمى الكافر لا يبصر ما بين يديه من المصير إلى الله ولا ما خلفه من الدخول في الوجود بخلق الله.

الثالث: هو أن السالك إذا لم يكن له بد من سلوك طريق، فإن انسد الطريق الذي قدامه يفوته المقصد، ولكنه يرجع، وإذا انسد الطريق من خلفه ومن قدامه، فالموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة لأنه مهلك فقوله: {وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم} إشارة إلى إهلاكهم.

المسألة الثانية: قوله تعالى: {فأغشيناهم} بحرف الفاء يقتضي أن يكون للإغشاء بالسد تعلق، ويكون الإغشاء مرتبا على جعل السد فكيف ذلك؟

فنقول ذلك من وجهين؛

أحدهما: أن يكون ذلك بيانا لأمور مترتبة يكون بعضها سببا للبعض فكأنه تعالى قال: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا} فلا يبصرون أنفسهم لإقماحهم وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فلا يبصرون ما في الآفاق وحينئذ يمكن أن يروا السماء وما على يمينهم وشمالهم فقال بعد هذا كله: وجعلنا على أبصارهم غشاوة فلا يبصرون شيئا أصلا.

وثانيهما: هو أن ذلك بيان لكون السد قريبا منهم بحيث يصير ذلك كالغشاوة على أبصارهم فإن من جعل من خلفه ومن قدامه سدين ملتزقين به بحيث يبقى بينهما ملتزقا بهما تبقى عينه على سطح السد فلا يبصر شيئا، أما غير السد فللحجاب، وأما عين السد فلكون شرط المرئي أن لا يكون قريبا من العين جدا.

مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :

" لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون.

إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون.

وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون.

وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون.

إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم".

(سورة يس – الآيات: 7، 8، 9،10)

المناسبة:

علم الله أن نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم – يقوم بالنذارة لقومه ويبذل غاية جهده في تنبيههم من الغفلة، وإنقاذهم من الهلكة.

وعلم أنهم لا يؤمن به إلا أقلهم، وعلم أن ذك يكون من أعظم ما يؤلم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم – لشدة حرصه على إيمانهم، و عظيم شفقته عليهم، ولعدم ظهوره ثمرة ما بذل من جهد في هدايتهم.

فأراد – تعالى – أن يقوي قلب نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم – على تحمل ذك بإعلامه به من أول الأمر، إذ ليس المؤلم المتوقع كالمؤلم الذي يصدم عن مفاجأة،وأعظم منه الذي يصدم مع توقع ضده، كما هنا: فإن المتوقع منهم بعد الإنذار البالغ بالبرهان الساطع. هو إيمان أكثرهم لا كفره...

المعنى:

لقد وجد وثبت ما سبق في علم الله، في أكثرهم، وما كان في قوله بعدم إيمانهم؛ فلا يرجى من ذلك الأكثر – الذي سبق في علم الله عدم إيمانه – إيمان...

حجة الله على الخلق:

قامت حجة الله على خلقه بما ركب فيهم من عقل، وما مكنهم من اختيار وما نصب له من آيات مشاهدات، وما أرسل إليهم من رسل بآيات بينات.

وهذه كلها أمور معلومة لديهم، ضرورية عندهم، لا يستطيعون أن ينكروا شيئا منها؛ فلا يمكنهم أن يجحدوا ما عندهم من عقل ومن اختيار ولا أن ينفوا ما يشاهدونه من الآيات في المخلوقات، ولا أن ينكروا مجيء الرسل إليهم وما تلو عليهم من آيات.

وبهذه الأشياء قامت حجة الله عليهم، كان جزاؤهم على ما اختاروه بعدها لأنفسهم.

فأما ما سبق من علم الله فهو أمر مغيب عنهم، غير مؤثر فيهم؛ لأن العلم ليس من صفات التأثير ولا دافع لهم، فليس لهم أن يحتجوا به لأنفسهم؛ لأنهم لم يعملوا لأجله، كيف وهو مغيب منهم؟ وإنما عملوا باختيارهم الذي يجدونه بالضرورة من أنفسهم.

توجيه للترتيب:

دقيقة في التوحيد:

تقوم حجة الله على العبد أولا. ويعمل هو – كاسبا ومكتسبا – باختياره ثانيا، ويظهر لنا مما سبق من علم الله فيه بعد أن اختار ما اختار ثالثا.

ولهذا قدمت النذارة وما يرتبط بها على هذه الآية فيها بيان ما سبق من علم الله فيهم...

عدل الله:

لله المثل الأعلى، فقد أحاط بكل شيء علما، فعلم من سيطيعه: ومن سيعصي.

ولكنه الحكم العدل، فلم يكن ليجازيهم على سابق علمه فيهم، الذي لا دخل لهم فيه.

بل جعل جزاءهم بعد إقامة الحجة عليهم بما يكون من اختيارهم، ليكون جزاءهم على ما عملوا، وما قدمت أيديهم وما لهم دخل فيه بالكسب والاكتساب.

تعليم:

المجازاة بعد العمل:

أرأيت كيف أن الله – تعالى – لم يجاز الخلق على مقتضى علمه فيهم، وهو العلم الذي لا يتخلف، وإنما جعل جزاءهم على أعمالهم.

فهذا تعليم لنا: كيف تكون معاملتنا بعضنا لبعض؟ فلا نجازي على مجرد الظن، بل ولا على مجرد اليقين. وإنما تكون المجازاة بعد صدور الأعمال.

فرب شخص قدرت فيه الخير أو الشر، ففعل ضد ما قدرت! فلو جازيته قبل الفعل لما طابق جزاؤك موضعه، ولنال كل ما لا يستحقه.

فالحكمة والعدل والمصلحة في ربط المجازاة بالأعمال، وهذا ما كان من الله في مجازاة خلقه، وهذا ما ينبغي أن نربط به المجازاة بيننا.

تمثيل حال المعرضين عن الحق المعاندين فيه:

"إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون.

وجعلنا من بين أيديهم سدا، ومن خلفهم سدا، فأغشيناهم فهم لا يبصرون".

المناسبة:

لما ذكر عدم إيمانهم، وكان مبدأ ذلك بإعراضهم عن الحق واختيارهم الكفر على الإيمان، ذكر ما عاقبهم الله به من منعهم عن الخير ودوام الإعراض عنه...

المعنى:

إنا جعلنا في أعناق هؤلاء الذين لا يؤمنون أغلالا ضيقة عريضة، تركتهم رافعين رؤوسهم عن مناهل الإيمان، لا يستطيعون أن يطأطئوا رؤوسهم إليها فيرتووا.

وجعلنا أمامهم حجابا وخلفهم حجابا محيطين و ملتزقين بهم و مغطيين لجميع ذواتهم، فلا يستطيعون معها تحريكا و لا إبصارا.

توجيه التمثيل:

الإدراك بالفطرة والنظر:

دعوا إلى الإيمان والتوحيد ومكارم الأخلاق، وهذه أمور مدرك حسنها بالفطرة السليمة، فهي كالماء الذي تقبل عليه الحيوانات بفطرتها، فلما أعرضوا عنها؛ شبهوا بالإبل المقمحة عن الماء.

ثم إن هذه الأمور كما يدرك حسنها بالفطرة السليمة، تدرك باستعمال النظر فيما بين الإنسان من الآيات التي يراها ويشاهدها، وما خلفه من أيام الله في الأمم التي بلغته أخبارها وأنباؤها.

فلما أعرضوا عما يرون وما قد سمعوا شبهوا بمن جعل بين سدين ملتزقين و محيطين به، فجمد في مكانه؛ فلا هو يتحرك إلى ناحية ولا هو يبصر شيئا.

ترهيب:

كل ما دعا إليه الإسلام من عقائد وأخلاق وأعمال، فهو مما تقبله الفطر السليمة، وتدركه العقول بالنظر الصحيح.

فمن قابل دعوة الإسلام بالإعراض والعناد، وخالف فطرته، وعاكس عقله، كان حقيقا بهذا العقاب الشديد من طمس البصيرة، والطبع على القلب؛ فذكر الله لنا هذه العقوبة بهذا التمثيل البليغ، الذي صورها في أبشع وأفظع صورة؛ ليحذرنا من الإعراض عن الحق والعناد له، ويخوفنا بعاقبة ذلك على أهله.

تعليم:

عرض الأمور على الفطرة والعقل:

لكل إنسان فطرته وعقله، فعلينا إذا دعينا إلى شيء أن نعرضه عليهما راجعين إلى الفطرة الإنسانية، وإلى العقل البشري منزهين عن الأغراض والأهواء والأوهام والشبهات.

فإذا كان هلاك هؤلاء بعدم الاستفادة منهما، فإن النجاة عن ما تعرض الأمور بالرجوع إليهما.

ونجد القرآن العظيم يخاطب العقل والفطرة؛ ليعلمنا الرجوع إليهما والاستفادة منهما.

من استوى عنده الإنذار وعدم الإنذار لا يرجى منه إيمانا:

" وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون".

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

مع عنف هذا المشهد الحسي وشدته فإن الإنسان ليلتقي بأناس من هذا النوع، يخيل إليه وهم لا يرون الحق الواضح ولا يدركونه أن هنالك حائلاً عنيفاً كهذا بينهم وبينه. وأنه إذا لم تكن هذه الأغلال في الأيدي، وإذا لم تكن الرؤوس مقمحة ومجبرة على الارتفاع، فإن نفوسهم وبصائرهم كذلك. مشدودة عن الهدى قسراً وملفوتة عن الحق لفتاً. وبينها وبين دلائل الهدى سد من هنا وسد من هناك. وكذلك كان أولئك الذين واجهوا هذا القرآن بمثل ذلك الإنكار والجحود. وهو يصدع بالحجة، ويدلي بالبرهان وهو بذاته حجة ذات سلطان لا يتماسك لها إنسان.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً}.

هذا ارتقاء في حرمانهم من الاهتداء لو أرادوا تأملاً بأنّ فظاظة قلوبهم لا تقبل الاستنتاج من الأدلة والحجج بحيث لا يتحولون عما هم فيه، فمُثّلت حالهم بحالة من جُعلوا بين سدَّيْن، أي جدارين: سداً أمامهم، وسداً خلفهم، فلو راموا تحوّلاً عن مكانهم وسعيهم إلى مرادهم لما استطاعوه كقوله تعالى: {فما استطاعوا مضياً ولا يرجعون} [يس: 67]

وإعادة فعل {وجعلنا} على الوجه الأول في معنى قوله: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً} [يس: 8] الآية، تأكيد لهذا الجعل، وأما على الوجه الثاني في معنى {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً} فإعادة فعل {وجعلنا} لأنه جَعْل حاصل في الدُّنيا فهو مغاير للجعل الحاصل يوم القيامة.

وقرأ الجمهور {سداً} بالضم وهو اسم الجدار الذي يَسُدّ بين داخل وخارج.

وقرأ حمزة والكسائي وحفص وخلف بالفتح وهو مصدر سمي به ما يُسد به.

{فأغشيناهم فَهُمْ لا يبصرون}: تفريع على كلا الفعلين {جعلنا في أعناقهم أغلالاً} [يس: 8] و {جعلنا من بين أيديهم سُدّاً ومن خلفهم سداً} لأن في كلا الفعلين مانعاً من أحوال النظر.

وفي الكلام اكتفاء عن ذكر ما يتفرع ثانياً على تمثيلهم بمن جعلوا بين سُدين من عدم استطاعة التحول عمّا هم عليه.

{فهم لا يبصرون} وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي لإِفادة تقوي الحكم، أي تحقيق عدم إبصارهم.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

هل معنى هذا أن الله تعالى يساعدهم، ويُعينهم على الكفر؟ قالوا: نعم لأن عبدي حين أناديه فيتأبَّى عليَّ في ندائي، ولا يُقبِل عليَّ بعبوديته لي أعينه على كفره؛ لأنني رَبٌّ غني عنه، فإنْ أحب الكفر وعشقه ولم يَعُدْ هناك أمل في هدايته أختم على قلبه، فلا يدخله إيمان، ولا يخرج منه الكفر. لذلك مَنْ تجنَّى عليك وصَدَّ عنك فأعِنْه على ذلك، ولا تُذكِّره بنفسك.

إذن: ما كفر أحد غَصْباً عن الله، إنما كفر بما أودع الله فيه من اختيار، ولأنه سبحانه رَبٌّ وهو خالق العباد، فعليه سبحانه أنْ يُعينهم، كلاً على ما يريد، فالذي أراد الإيمان وأحبَّه أعانه على الإيمان، والذي أراد الكفر وعَشِقه أيضاً أعانه عليه وساعده.

لذلك ختم الله على قلوب الكافرين، وهنا يقول: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} يعني: أمامهم {سَدّاً} حاجزاً ومانعاً {ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً}.

هذا مانع مادي خارج عن تكوين الإنسان {فَأغْشَيْنَاهُمْ} يعني: جعلنا على أبصارهم غشاوة وغطاءً، فهم مصدودون عن الحق لأشياء. أولاً: في ذواتهم أغشينا أبصارهم فلا يروْنَ ولا يهتدون؛ لأنهم بذواتهم لم يذكروا عهد الفطرة الأولى التي فطر اللهُ الناس عليها.

أما الخارج عنهم، ففي المنهج الذي لم يلتفتوا إليه، لا فيما أمامهم، ولا فيما وراءهم؛ لأن هناك سَدّاً يمنعهم، فلو تذكَّروا ما ينتظرهم لارتدعوا عن غَيِّهم، ولو تأملوا ما نزل بمَنْ سبقهم من المكذِّبين، وما حاق بهم من عذاب الله لرجعوا.

لكن جعل الله من أمامهم سَدّاً، فلا يعرفون ما ينتظرهم، ومن خَلفهم سَدّاً فلا يتدبرون ما حاق بأسلافهم، ممَّن قال الله فيهم:

{فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا..} [العنكبوت: 40].

فإنْ قُلْتَ: الحق سبحانه جعل سَدّاً يمنعهم من الجهة الأمامية، وسَدّاً يمنعهم من الجهة الخلفية، فماذا لو ساروا على جنب إلى اليمين، أو إلى اليسار؟ قالوا: لو ساروا وتوجهوا إلى اليسار مثلاً لَصَار اليسار بالنسبة لهم أمام، واليمين صار خلفاً، فهم إذن مُحَاصرون بالموانع، بحيث لا أمل لهم في الرجوع إلى منهج الحق، وإلى الصواب.

ويصح أن يكون المعنى {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} أي: مانعاً يمنعهم من التأمل والنظر في الأدلة العقلية المنصوبة أمامهم ليؤمنوا {ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} يمنعهم، فلم ينتهوا إلى الفطرة الإيمانية المُودَعة فيهم.