روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{يسٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة يس

( صح من حديث الإمام أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه والطبراني وغيرهم عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( يس ) قلب القرآن وعد ذلك أحد أسمائها وبين حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة وجه إطلاق ذلك عليها بأن المدار على الإيمان وصحته بالاعتراف بالحشر والنشر وهو مقرر فيها على أبلغ وجه وأحسنه ولذا شبهت بالقلب الذي به صحة البدن وقوامه وأستحسنه الإمام الرازي وأورد على ظاهره أن كل ما يجب الإيمان به لا يصح الإيمان بدونه فلا وجه لاختصاص الحشر والنشر بذلك وأجيب بأن المراد بالصحة في كلام الحجة ما يقابل السقم والمرض ولا شك أن من صح إيمانه بالحشر يخاف من النار ويرغب في الجنة دار الأبرار فيرتدع عن المعاصي التي هي كأسقام الإيمان إذ بها يختل ويضعف ويشتغل بالطاعات التي هي كحفظ الصحة ومن لم يقو إيمانه به كان حاله على العكس فشابه الاعتراف به بالقلب الذي بصلاحه يصلح البدن وبفساده يفسد وجوز أن يقال وجه الشبه بالقلب أن به صلاح البدن وفساده وهو غير مشاهد في الحس وهو محل لانكشاف الحقائق والأمور الخفية وكذا الحشر من المغيبات وفيه يكون انكشاف الأمور والوقوف على حقائق المقدور وبملاحظته وإصلاح أسبابه تكون السعادة الأبدية وبالإعراض عنه وإفساد أسبابه يبتلي بالشقاوة السرمدية وفي الكشف لعل الإشارة النبوة في تسمية هذه السورة قلبا وقلب كل شيء عليه وأصله الذي ما سواه إما من مقدماته وإما من متمماته إلى ما أسلفناه في تسمية الفاتحة بأم القرآن من أن مقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب إرشاد العباد إلى غايتهم الكمالية في المعاد وذلك بالتحقق والتخلق المذكورين هنالك وهو المعبر عنه بسلوك الصراط المستقيم ومدار هذه السورة الكريمة على بيان ذلك أتم بيان ويعلم منه وجه اختصاص الحشر بما ذكر في كلام الحجة فلا وجه لقول البعض في الاعتراض عليه فلا وجه إلخ وسيأتي إن شاء الله تعالى آخر الكلام في تفسير السورة الإشارة إلى ما اشتملت عليه من أمهات علم الأصول والمسائل المعتبرة بين الفحول وتقريرها إياها بأبلغ وجه وأتمه ولعل هذا هو السر في الأمر الوارد في صحيح الأخبار بقراءتها على الموتى أي المحتضرين وتسمى أيضا العظيمة عند الله تعالى أخرج أبو نصر السجزي في الإبانة وحسنه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن في القرآن لسورة تدعى العظيمة عند الله تعالى ويدعى صاحبها الشريف عند الله تعالى يشفع صاحبها يوم القيامة في أكثر من ربيعة ومضر وهي سورة ( يس ) وذكر أنها تسمى أيضا المعمة والمدافعة القاضية أخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن حسان بن عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سورة يس تدعى في التوراة المعمة تعم صاحبها بخير الدنيا والآخرة وتكابد عنه بلوى الدنيا والآخرة وتدفع عنه أهاويل الدنيا والآخرة وتدعى المدافعة القاضية تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضي له كل حاجة الخبر وتعقبه البيهقي فقال : تفرد به محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الجدعاني عن سليمان بن دفاع وهو منكر وهي على ما أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس مكية وأستثنى منها بعضهم قوله تعالى : إنا نحن نحيي الموتى الآية مدعيا أنها نزلت بالمدينة لما أراد بنو سمة النقلة إلى قرب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا في ناحية المدينة فقال عليه الصلاة والسلام إن آثاركم تكتب فلم ينتقلوا وسيأتي إن شاء الله تعالى ما قيل في ذلك وقوله سبحانه وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله الآية لأنها نزلت في المنافقين فتكون مدنية وتعقب بأنه لا صحة له وأيها ثلاث وثمانون آية في الكوفي وإثنتان وثمانون في غيره وجاء مما يشهد بفضلها وعلو شأنها عدة أخبار وآثار وقد مر آنفا بعض ذلك وصح من حديث معقل بن يسار لا يقرؤها عبد يريد الله تعالى والدار الآخرة إلا غفر له ما تقدم من ذنبه وأخرج الترمذي والدارمي من حديث أنس من قرأ يس كتب الله تعالى له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات ولا يلزم من هذا تفضيل الشيء على نفسه إذ المراد بقراءة القرآن قراءته دون يس وقال الخفاجي : لا يلزم ذلك إذ يكفي في صحة التفضيل المذكور التغاير الإعتباري فإن يس من حيث تلاوتها فردة غير كونها مقروءة في جملته كما إذا قلت : الحسناء في الحلة الحمراء أحسن منها في البيضاء وقد يكون للشيء مفردا ما ليس له مجموعا مع غيره كما يشاهد في بعض الأدوية ورجا أن يكون أقرب مما قدمنا وأنا لا أرجو ذلك والظاهر أنه يكتب له الثواب المذكور مضاعفا أي كل حرف بعشرة حسنات ولا بدع في تفضيل العمل القليل على الكثير فلله تعالى أن يمن بما شاء على من شاء ألا ترى ما صح أن هذه الأمة أقصر الأمم أعمارا وأكثرها ثوابا وإنكار الخصوصيات مكابرة ولله تعالى در من قال : فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال وذكر بعضهم أن من قرأها أعطى من الأجر كمن قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي قلابة وهو من كبار التابعين أن من قرأها فكأنما قرأ القرآن إحدى عشرة مرة وعن أبي سعيد أنه قال من قرأ يس مرة فكأنما قرأ القرآن مرتين وحديث العشر مرفوع عن ابن عباس ومعقل بن يسار وعقبة بن عامر وأبي هريرة وأنس رضي الله تعالى عنهم فعليه المعول ووجه إتصالها بما قبلها على ما قاله الجلال السيوطي أنه لما ذكر في سورة فاطر قوله سبحانه ( وجاءكم النذير ) وقوله تعالى ( وأقسموا بالله جهد أيمانكم لئن جاءهم نذير ) إلى قوله سبحانه ( فلما جاءهم نذير ) وأريد به محمد صلى الله عليه وسلم وقد أعرضوا عنه وكذبوه أفتتح هذه السورة بالإقسام على صحة رسالته عليه الصلاة والسلام وأنه على صراط مستقيم لينذر قوما ما أنذر آباؤهم وقال سبحانه في فاطر ( وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل ) وفي هذه السورة ( والشمس تجري لمستقر لها والقمر قدرناه منازل ) إلى غير ذلك ولا يخفى أن أمر المناسبة يتم على تفسير النذير بغيره صلى الله عليه وسلم أيضا فتأمل .

{ يس } الكلام فيه كالكلام في { الم } [ البقرة : 1 ] ونحوه من الحروف المقطعة في أوائل السور إعراباً ومعنى عند كثير . وأخرج ابن أبي شيبة . وعبد بن حميد . وابن جرير . وابن المنذر . وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس أنه قال : يس يا انسان . وفي رواية أخرى عنه زيادة بالحبشية . وفي أخرى عنه أيضاً في لغة طي .

قال الزمخشري : إن صح هذا فوجهه أن يكون أصله يا أنيسين فكثر النداء به على ألسنهم حتى اقتصروا على شطره كما في القسم م الله في أيمن الله . وتعقبه أبو حيان بأن المنقول عن العرب في تصغير إنسان أنيسيان بياء قبل الألف وهو دليل على أن الإنسان من النسيان وأصله انسيان فلما صغر رده التصغير إلى أصله ولا نعلمهم قالوا في تصغيره انيسين ، وعلى تقدير أنه بقية أنيسين فلا يجوز ذلك إلا أن يبنى على الضم ولا يبقى موقوفاً لأنه منادى مقبل عليه ومع ذلك لا يجوز التصغير في أسماء الأنبياء عليهم السلام كما لا يجوز في أسماء الله عز وجل ، وما ذكره في م من أنه شطر أيمن قول ، ومن النحويين من يقول م حرف قسم وليس شطر أيمن انتهى .

قال الخفاجي : لزوم البناء على الضم مما لا كلام فيه فلعل من فسره بذلك يقرؤه بالضم على الأوجه فيه ، وأما الاعتراضان الآخران فلا ورود لهما أصلاً ، فأما الأول فلأن من يقول أنيسيان على خلاف القياس وهو الأصح لا يلزمه فيما غير منه أن يقدره كذلك وهو لم يلفظ به حتى يقال له : نطقت بما لم تنطق به العرب بل هو أمر تقديري ، فإذا قال : المقدر مفروض عندي على القياس هل يتوجه عليه السؤال ، وأما الأخير فلأن التصغير في نحو ذلك إنما يمتنع منا وأما من الله تعالى فله سبحانه أن يطلق على نفسه عز وجل وعظماء خلقه ما أراد ويحمل حينئذ على ما يليق كالتعظيم والتحبيب ونحوه من معاني التصغير كما قال ابن الفارض :

ما قلت حبيبي من التحقير *** بل يعذب اسم الشيء بالتصغير

والذي قاله أبو حيان في توجيه ذلك أنهم يقولون إيسان بمعنى إنسان ويجمعون على أياسين فهذا منه ولا يخفى أنه يحتاج إلى إثبات وبعده لا يخفى ما في التخريج عليه ، وقالت فرقة : يا حرف نداء والسين مقامة مقام إنسان انتزع منه حرف فأقيم مقامه ، ونظيره ما جاء في الحديث «كفى بالسيف شا » أي شاهداً ، وأيد بما ذهب إليه ابن عباس في { حم عسق } [ الشورى : 1 ، 2 ] ونحوه من أنها حروف من جملة أسماء له تعالى وهي رحيم وعليم وسميع وقدير ونحو ذلك .

وظاهر كلام بعضهم كابن جبير أن يس بمجموعه اسم من أسمائه عليه الصلاة والسلام وهو ظاهر قول السيد الحمري :

يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة *** على المودة إلا آل ياسينا

ولتسميته صلى الله عليه وسلم بهذين الحرفين الجليلين سر جليل عند الواقفين على أسرار الحروف ، وقد تكلمت ولله تعالى الحمد فيما تعلق بهذه الكلمة الشريفة ثلاثة أيام أشرع كل يوم منها بعد العصر وأختم قبيل المغرب وذلك في مجلس وعظي في المسجد الجامع الداودي واليوم لا أستطيع أن أذكر من ذاك بنت شفة بل لا أتذكر منه إلا رسماً هب عليه عاصف الزمان الغشوم فنسفه فحسبي الله عمن سواه فلا رب غيره ولا يرجى إلا خيره .

وقرئ بفتح الياء وإمالتها محضاً وبين بين .

وقرأ جمع بسكون النون مدغمة في الواو ، وآخرون بسكونها مظهرة والقراءتان سبعيتان ، وقرأ ابن أبي إسحاق . وعيسى بفتح النون ، قال أبو حاتم قياس قول قتادة : إنه قسم أن يكون على حد الله لأفعلن بالنصب .

ويجوز أن يكون مجروراً بإضمار باء القسم وهو ممنوع من الصرف . وقال الزجاج : النصب على تقدير أتل يس وهذا على قول سيبويه أنه اسم للسورة ، وقيل هو مبني والتحريك للجد في الهرب من التقاء الساكنين والفتح للخفة كما في أين ، وسبب البناء غير خفي عليك إذا أحطت خبراً بما قرروا في { الم } أول سورة البقرة .

ولا تغفل عما قالوا في النصب بإضمار فعل القسم من أنه لا يسوغ لما فيه من جمع قسمين على مقسم عليه واحد وهو مستكره ، ولا سبيل إلى جعل الواو بعد للعطف لا للقسم لمكان الاختلاف إعراباً .

وقرأ الكلبي بضم النون وخرج على أنه منادى مقصود بناءً على أنه بمعنى إنسان أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف ، ويقدر هذه إذا كان اسماً للسورة وهذا إن كان اسماً للقرآن وهو يطلق على البعض كما يطلق على الكل ، وجعله مبتدأ محذوف الخبر وهو قسم أي يس قسمي نحو أمانة الله لأفعلن بالرفع لا يخفى حاله ، وقيل الضمة فيه ضمة بناءً كما في حيث .

وقرأ أبو السمال . وابن أبي إسحاق أيضاً بكسرها ، وخرج على أنه للجد في الهرب عن الساكنين بما هو الأصلي فتأمل وتذكر .

ومن باب الإشارة : قيل إن قوله سبحانه يس إشارة إلى سيادته عليه الصلاة و السلام على جميع المخلوقات فالسيد المتولي للسواد أي الجماعة الكثيرة وهي ههنا جميع الخلق فكأنه قيل : يا سيد الخلق وتوليته عليه الصلاة و السلام عاليهم لأنه الواسطة العظمى في الإفاضة والإمداد وفي الخبر الله تعالى المعطي وأنا القاسم فمنزلته صلى الله تعالى عليه وسلم بأسره بمنزلة القلب من البدن فما ألطف افتتاح قلب القرآن بقلب الأكوان وفي السين بيناتها وزبرها أسرار لا تحصى وكذا في مجموع يس والقرآن قد يكون إشارة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم فقد ذكر الصوفية أنه يشار إلى الإنسان الكامل وكذا الكتاب المبين وعلى ذلك جاء قول الشيخ الأكبر قدس سره : أنا القرآن والسبع المثاني وروح الروح لا روح الأواني ولا أحد أكمل من النبي عليه الصلاة و السلام

   
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{يسٓ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة يس مكية.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

مكية في قول الجميع، إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا إلا آية منها وهي قوله: {وإذا قيل لهم أنفقوا} الآية...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

السورة مكية بإجماع، إلا أن فرقة قالت إن قوله "ونكتب ما قدموا وآثارهم "[يس: 12] نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم (دياركم تكتب آثاركم) وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعروا المدينة، وعلى هذا فالآية مدنية وليس الأمر كذلك؛ وإنما نزلت الآية بمكة، ولكنه احتج بها عليهم في المدينة، ووافقها قول النبي صلى الله عليه وسلم في المعنى فمن هنا قيل ذلك.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه السورة المكية ذات فواصل قصيرة. وإيقاعات سريعة. ومن ثم جاء عدد آياتها ثلاثاً وثمانين، بينما هي أصغر وأقصر من سابقتها -سورة فاطر- وعدد آياتها خمس وأربعون.

وقصر الفواصل مع سرعة الإيقاع يطبع السورة بطابع خاص، فتتلاحق إيقاعاتها، وتدق على الحس دقات متوالية، يعمل على مضاعفة أثرها ما تحمله معها من الصور والظلال التي تخلعها المشاهد المتتابعة من بدء السورة إلى نهايتها. وهي متنوعة وموحية وعميقة الآثار.

والموضوعات الرئيسية للسورة هي موضوعات السور المكية. وهدفها الأول هو بناء أسس العقيدة. فهي تتعرض لطبيعة الوحي وصدق الرسالة منذ افتتاحها: (يس. والقرآن الحكيم. إنك لمن المرسلين. على صراط مستقيم. تنزيل العزيز الرحيم...). وتسوق قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، لتحذر من عاقبة التكذيب بالوحي والرسالة؛ وتعرض هذه العاقبة في القصة على طريقة القرآن في استخدام القصص لتدعيم قضاياه. وقرب نهاية السورة تعود إلى الموضوع ذاته: (وما علمناه الشعر -وما ينبغي له- إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين)..

كذلك تتعرض السورة لقضية الألوهية والوحدانية. فيجيء استنكار الشرك على لسان الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة ليحاج قومه في شأن المرسلين وهو يقول: وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون؟ أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون؟ إني إذاً لفي ضلال مبين.. وقرب ختام السورة يجيء ذكر هذا الموضوع مرة أخرى: (واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون. لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون)..

والقضية التي يشتد عليها التركيز في السورة هي قضية البعث والنشور، وهي تتردد في مواضع كثيرة في السورة. تجيء في أولها: (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين).. وتأتي في قصة أصحاب القرية، فيما وقع للرجل المؤمن. وقد كان جزاؤها العاجل في السياق: (قيل: ادخل الجنة. قال: يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين).. ثم ترد في وسط السورة: (ويقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون).. ثم يستطرد السياق إلى مشهد كامل من مشاهد القيامة. وفي نهاية السورة ترد هذه القضية في صورة حوار (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه. قال: من يحيي العظام وهي رميم؟ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم..

هذه القضايا المتعلقة ببناء العقيدة من أساسها، تتكرر في السور المكية. ولكنها تعرض في كل مرة من زاوية معينة، تحت ضوء معين، مصحوبة بمؤثرات تناسب جوها، وتتناسق مع إيقاعها وصورها وظلالها.

هذه المؤثرات منتزعة في هذه السورة من مشاهد القيامة -بصفة خاصة- ومن مشاهد القصة ومواقفها وحوارها. ومن مصارع الغابرين على مدار القرون. ثم من المشاهد الكونية الكثيرة المتنوعة الموحية: مشهد الأرض الميتة تدب فيها الحياة. ومشهد الليل يسلخ منه النهار فإذا هو ظلام. ومشهد الشمس تجري لمستقر لها. ومشهد القمر يتدرج في منازله حتى يعود كالعرجون القديم. ومشهد الفلك المشحون يحمل ذرية البشر الأولين. ومشهد الأنعام مسخّرة للآدميين. ومشهد النطفة ثم مشهدها إنساناً وهو خصيم مبين! ومشهد الشجر الأخضر تكمن فيه النار التي يوقدون!

وإلى جوار هذه المشاهد مؤثرات أخرى تلمس الوجدان الإنساني وتوقظه: منها صورة المكذبين الذين حقت عليهم كلمة الله بكفرهم فلم تعد تنفعهم الآيات والنذر: (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون؛ وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون). ومنها صورة نفوسهم في سرهم وفي علانيتهم مكشوفة لعلم الله لا يداريها منه ستار.. ومنها تصوير وسيلة الخلق بكلمة لا تزيد: (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن. فيكون).. وكلها مؤثرات تلمس القلب البشري وهو يرى مصداقها في واقع الوجود.

ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في ثلاثة أشواط:

يبدأ الشوط الأول بالقسم بالحرفين: يا. سين وبالقرآن الحكيم، على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه على صراط مستقيم. يتلو ذلك الكشف عن النهاية البائسة للغافلين الذين يكذبون. وهي حكم الله عليهم بألا يجدوا إلى الهداية سبيلاً، وأن يحال بينهم وبينها أبداً. وبيان أن الإنذار إنما ينفع من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب؛ فاستعد قلبه لاستقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان.. ثم يوجه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى أن يضرب لهم مثلاً أصحاب القرية، فيقص قصة التكذيب وعاقبة المكذبين. كما يعرض طبيعة الإيمان في قلب الرجل المؤمن وعاقبة الإيمان والتصديق..

ومن ثم يبدأ الشوط الثاني بنداء الحسرة على العباد الذين ما يفتأون يكذبون كل رسول ويستهزئون به. غير معتبرين بمصارع المكذبين، ولا متيقظين لآيات الله في الكون وهي كثير.. وهنا يعرض تلك المشاهد الكونية التي سبقت الإشارة إليها في تقديم السورة، كما يعرض مشهداً مطولاً من مشاهد القيامة فيه الكثير من التفصيل.

والشوط الثالث يكاد يلخص موضوعات السورة كلها. فينفي في أوله أن ما جاء به محمد [صلى الله عليه وسلم] شعر، وينفي عن الرسول كل علاقة بالشعر أصلاً. ثم يعرض بعض المشاهد واللمسات الدالة على الألوهية المتفردة، وينعى عليهم اتخاذ آلهة من دون الله يبتغون عندهم النصر وهم الذين يقومون بحماية تلك الآلهة المدعاة!. ويتناول قضية البعث والنشور فيذكرهم بالنشأة الأولى من نطفة ليروا أن إحياء العظام وهي رميم كتلك النشأة ولا غرابة! ويذكرهم بالشجر الأخضر الذي تكمن فيه النار وهما في الظاهر بعيد من بعيد! وبخلق السماوات والأرض وهو شاهد بالقدرة على خلق أمثالهم من البشر في الأولى والآخرة.. وأخيراً يجيء الإيقاع الأخير في السورة: (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن. فيكون. فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون).

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

سميت هذه السورة يس بمسمى الحرفين الواقعين في أولها في رسم المصحف لأنها انفردت بها فكانا مميزين لها عن بقية السور، فصار منطوقهما علما عليها. وكذلك ورد اسمها عن النبي صلى الله عليه وسلم.

روى أبو داود عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأوا يس على موتاكم. وبهذا الاسم عنون البخاري والترمذي في كتابي التفسير.

أغراض هذه السورة:

التحدي بإعجاز القرآن بالحروف المقطعة، وبالقسم بالقرآن تنويها به، وأدمج وصفه بالحكيم إشارة إلى بلوغه أعلى درجات الإحكام. والمقصود من ذلك تحقيق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتفضيل الدين الذي جاء به في كتاب منزل من الله لإبلاغ الأمة الغاية السامية وهي استقامة أمورها في الدنيا والفوز في الحياة الأبدية، فلذلك وصف الدين بالصراط المستقيم كما تقدم في سورة الفاتحة.

وأن القرآن داع لإنقاذ العرب الذين لم يسبق مجيء رسول إليهم، لأن عدم سبق الإرسال إليهم لنفوسهم لقبول الدين إذ ليس فيها شاغل سبق يعز عليهم فراقه أو يكتفون بما فيه من هدى.

ووصف إعراض أكثرهم عن تلقي الإسلام، وتمثيل حالهم الشنيعة، وحرمانهم من الانتفاع بهدي الإسلام وأن الذين اتبعوا دين الإسلام هم أهل الخشية وهو الدين الموصوف بالصراط المستقيم.

وضرب المثل لفريقي المتبعين والمعرضين من أهل القرى بما سبق من حال أهل القرية الذين شابه تكذيبهم الرسل تكذيب قريش.

وكيف كان جزاء المعرضين من أهلها في الدنيا وجزاء المتبعين في درجات الآخرة.

ثم ضرب المثل بالأعم وهم القرون الذين كذبوا فأهلكوا.

والرثاء لحال الناس في إضاعة أسباب الفوز كيف يسرعون إلى تكذيب الرسل.

وتخلص إلى الاستدلال على تقريب البعث وإثباته بالاستقلال تارة وبالاستطراد أخرى.

مدمجا في آياته الامتنان بالنعمة التي تتضمنها تلك الآيات.

ورامزا إلى دلالة تلك الآيات والنعم على تفرد خالقها ومنعمها بالوحدانية إيقاظا لهم.

ثم تذكيرهم بأعظم حادثة حدثت على المكذبين للرسل والمتمسكين بالأصنام من الذين أرسل إليهم نوح نذيرا، فهلك من كذب، ونجا من آمن.

ثم سيقت دلائل التوحيد المشوبة بالامتنان للتذكير بواجب الشكر على النعم بالتقوى والإحسان وترقب الجزاء.

والإقلاع عن الشرك والاستهزاء بالرسول واستعجال وعيد العذاب.

وحذروا من حلوله بغتة حين يفوت التدارك.

وذكروا بما عهد الله إليهم مما أودعه في الفطرة من الفطنة.

والاستدلال على عداوة الشيطان للإنسان.

واتباع دعاة الخير.

ثم رد العجز على الصدر فعاد إلى تنزيه القرآن عن أن يكون مفترى صادرا من شاعر بتخيلات الشعراء.

وسلى الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يحزنه قولهم وأن لهم بالله أسوة إذ خلقهم فعطلوا قدرته عن إيجادهم مرة ثانية ولكنهم راجعون إليه.

فقامت السورة على تقرير أمهات أصول الدين على أبلغ وجه وأتمه من إثبات الرسالة، ومعجزة القرآن، وما يعتبر في صفات الأنبياء وإثبات القدر، وعلم الله، الحشر، والتوحيد، وشكر المنعم، وهذه أصول الطاعة بالاعتقاد والعمل، ومنها تتفرع الشريعة. وإثبات الجزاء على الخير والشر مع إدماج الأدلة من الآفاق والأنفس بتفنن عجيب، فكانت هذه السورة جديرة بأن تسمى « قلب القرآن» لأن من تقاسيمها تتشعب شرايين القرآن كله، وإلى وتينها ينصب مجراها.

قال الغزالي: إن ذلك لأن الإيمان صحته باعتراف بالحشر، والحشر مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه، كما سميت الفاتحة أم القرآن إذ كانت جامعة لأصول التدبر في أفانيه كما تكون أم الرأس ملاك التدبر في أمور الجسد.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

محتوى السورة:

هذه السورة من السور المكّية، لذا فهي من حيث النظرة الإجمالية لها نفس المحتوى العام للسور المكّية، فهي تتحدّث عن التوحيد والمعاد والوحي والقرآن والإنذار والبشارة، ويلاحظ في هذه السورة أربعة أقسام رئيسيّة:

تتحدّث السورة أوّلا عن رسالة النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن المجيد والهدف من نزول ذلك الكتاب السماوي العظيم وعن المؤمنين به، وتستمر بذلك حتّى آخر الآية الحادية عشرة.

قسم آخر من هذه السورة يتحدّث عن رسالة ثلاثة من أنبياء الله، وكيف كانت دعوتهم للتوحيد، وجهادهم المتواصل المرير ضدّ الشرك، وهذا في الحقيقة نوع من التسلية والمواساة لرسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوضيح الطريق أمامه لتبليغ رسالته الكبرى.

قسم آخر منها، والذي يبدأ من الآية 33 وحتّى الآية 44، مملوء بالنكات التوحيدية الملفتة للنظر، وهو عرض معبّر عن الآيات والدلائل المشيرة إلى عظمة الله في عالم الوجود، كذلك فإنّ أواخر السورة أيضاً تعود إلى نفس هذا البحث التوحيدي والآيات الإلهية.

قسم مهمّ آخر من هذه السورة، يتحدّث حول المواضيع المرتبطة بالمعاد والأدلّة المختلفة عليه، وكيفية الحشر والنشر، والسؤال والجواب في يوم القيامة، ونهاية الدنيا، ثمّ الجنّة والنار، وهذا القسم يتضمّن مطالب مهمّة ودقيقة جدّاً.

وخلال هذه البحوث الأربعة ترد آيات محرّكة ومحفّزة لأجل تنبيه وإنذار الغافلين والجهّال، لها الأثر القوي في القلوب والنفوس.

الخلاصة، أنّ الإنسان يواجه في هذه السورة بمشاهد مختلفة من الخلق والقيامة، الحياة والموت، الإنذار والبشارة، بحيث تشكّل بمجموعها نسخة الشفاء ومجموعة موقظة من الغفلة.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"يس"؛ فقال بعضهم: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله.

وقال آخرون: معناه: يا رجل...

وقال آخرون: هو مفتاح كلام افتتح الله به كلامه...

وقال آخرون: بل هو اسم من أسماء القرآن...

وقد بيّنا القول فيما مضى في نظائر ذلك من حروف الهجاء بما أغنى عن إعادته وتكريره في هذا الموضع.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

عن معاذ بن جبل وكعب رضي الله عنهما أنهما قالا: {يس} قسم، أقسم الله به، يا محمد.

دل أن الخطاب به على إثر قوله: {يس} على أنه هو المراد بقوله: {يس} إذ لا يستقيم الخطاب بقوله: {إنك لمن المرسلين} إلا على سبق خطاب له وذكر اسم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{يس} إن كان المعنى: يا إنسان، فهو قلب الموجودات المخلوقات كلها وخالصها وسرها ولبابها، وإن أريد: يا سيد، فهو خلاصة من سادهم.

وإن أريد: يا رجل، فهو خلاصة البشر، وإن أريد: يا محمد، فهو خالصة الرجال الذين هم لباب البشر...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

القول فيه كالقول في الحروف المقَطَّعة الواقعة في أوائل السور، ومن جملتها أنه اسم من أسماء الله تعالى، رواه أشهب عن مالك قاله ابن العربي، وفيه عن ابن عباس أنه: يا إنسان، بلسان الحبشة. وعنه أنها كذلك بلغة طيء، ولا أحسب هذا يصح عنه لأن كتابتها في المصاحف على حرفين تنافي ذلك.

ومن الناس من يدعي أن يس من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم.

ولعله أخذه من قوله تعالى في سورة الصافات (130) {سلام على آل ياسين} فقد قيل إنه يعني آل محمد صلى الله عليه وسلم.

ومن الناس من قال: إن يس اختزال: يا سيد، خطابا للنبيء صلى الله عليه وسلم ويوهنه نطق القراء بها بنون.

ومن الناس من يسمّي ابنه بهذه الكلمة وهو كثير في البلاد المصرية والشامية...