روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗاۖ فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخۡتِمۡ عَلَىٰ قَلۡبِكَۗ وَيَمۡحُ ٱللَّهُ ٱلۡبَٰطِلَ وَيُحِقُّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (24)

{ أَمْ يَقُولُونَ } بل أيقولون { افترى } محمد عليه الصلاة والسلام { عَلَى الله كَذِبًا } بدعوى النبوة أو القرآن ، والهمزة للإنكار التوبيخي وبل للإضراب من غير إبطال وهو إضراب أطم من الأول فأطم فإن إثبات ما هم عليه من الشرع وإن كان شراً وشركاً أقرب من جعل الحق الأبلج المعتضد بالبرهان النير من أوسطهم فضلاً ودعة وعقلاً افتراء ثم افتراء على الله عز وجل فكأنه قيل : أيتما لكون التفوه بنسبة مثله عليه الصلاة والسلام إلى الافتراء ثم إلى الافتراء على الله عز وجل الذي هو أعظم الفرى وأفحشها ولا تحترق ألسنتهم .

وفي ذلك أتم دلالة على بعده صلى الله عليه وسلم من الافتراء كيف وقد أردف بقوله تعالى : { فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ } فإن هذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله عليه الصلاة والسلام وأنه في البعد مثل الشرك بالله سبحانه والدخول في جملة المختوم على قلوبهم فكأنه قيل : فإن يشأ الله سبحانه يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفتري عليه الكذب فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله تعالى إلا من كان في مثل حالهم وهو في معنى فإن يشأ يجعلك منهم لأنهم هم المفترون الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله تعالى ، وما أحسن هذا التعريض بأنهم المفترون وأنهم في نفس هذه المقالة عن افترائهم مفترون ، ونظير الآية فيما ذكر قول أمين نسب إلى الخيانة : لعل الله تعالى خذلني لعل الله تعالى أعمى قلبي وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم ، فالكلام تعليل لإنكار قولهم ، وأتى بإن مع أن عدم مشيئته تعالى مقطوع به قيل إرخاء للعنان ، وقيل : إشعار بعظمته تعالى وأنه سبحانه غني عن العالمين ، ثم ذيل بقوله تعالى : { وَيَمْحُ الله الباطل وَيُحِقُّ الحق بكلماته } تأكيداً للمفهوم من السابق من أنه ليس من الافتراء في شيء أي كيف يكون افتراء ومن عادته تعالى محو الباطل ومحقه وإثبات الحق بوحيه أو بقضائه وما أتى به عليه الصلاة والسلام يزداد كل يوم قوة ودحوا فلو كان مفترياً كما يزعمون لكشف الله تعالى افتراءه ومحقه وقذف بالحق على باطله فدمغه .

والفعل المضارع للاستمرار . والكلام ابتدائي فيمح مرفوع لا مجزوم بالعطف على { يَخْتِمْ } وأسقطت الواو في الرسم في أغلب المصاحف تبعاً لإسقاطها في اللفظ لالتقاء الساكنين كما في { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] { وَيَدْعُ الإنسان بالشر } [ الإسراء : 11 ] وكان القياس إثباتها رسماً لكن رسم المصحف لا يلزم جريه على القياس ، ويؤيد الاستئناف دون العطف على { يَخْتِمْ } إعادة الاسم الجليل ورفع { يُحِقَّ } وهذا ما ذكره جار الله في الجملتين وبيان ارتباطهما بما قبلهما ، وقد دقق النظر في ذلك وأتى بما استحسنه النظار حتى قال العلامة الطيبي : لو لم يكن في كتابه إلا هذا لكفاه مزية وفضلاً ، وجوز هو أيضاً في قوله تعالى : { وَيَمْحُ } الخ أن يكون عدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر أي يمحو الله تعالى باطلهم وما بهتوك به ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مرد له ، وحينئذٍ يكون اعتراضاً يؤكد ما سبق له الكلام من كونهم مبطلين في هذه النسبة إلى من هو أصدق الناس لهجة بأصدق حديث من أصدق متكلم ، وقال في إرشاد العقل السليم في الجملة الأولى : إنها استشهاد على بطلان ما قالوه ببيان أنه عليه الصلاة والسلام لو افترى على الله تعالى كذباً لمنعه من ذلك قطعاً ، وتحقيقه أن دعوى كون القرآن افتراء عليه تعالى قول منهم إنه سبحانه لا يشاء صدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم بل يشاء عدم صدوره عنه ومن ضرورياته منعه عنه قطعاً فكأنه قيل : لو كان افتراء عليه تعالى لشاء عدم صدوره عنك وإن يشأ ذلك يختم على قلبك بحيث لم يخطر ببالك معنى من معانيه ولم تنطق بحرف من حروفه وحيث لم يكن الأمر كذلك بل تواتر الوحي حيناً فحيناً تبين أنه من عند الله عز وجل ، وذكر في الجملة الثانية ما ذكره جار الله من الوجهين ، ولا يخفي عليك ما يرد على كلامه من المنع مع أن فيه جعل مفعول المشيئة غير ما يدل عليه الجواب وهو ذلك المشار به إلى عدم الصدور ، والمتبادر كون المفعول الختم على ما هو المعروف في نظائر هذا التركيب أي فإن يشأ الله تعالى الختم على قلبك يختم ، وإيهام كون القرآن ناشئاً منه صلى الله عليه وسلم لا منزلاً عليه عليه الصلاة والسلام ، وقال السمرقندي : المعنى إن يشأ يختم على قلبك كما فعل بهم فهو تسلية له عليه الصلاة والسلام وتذكير لإحسانه إليه وإكرامه له صلى الله عليه وسلم ليشكر ربه سبحانه ويترحم على من ختم على قلبه فاستحق غضب ربه ولولا ذلك ما اجترأ على نسبته لما ذكر ، فالتفريع بالنظر إلى المعنى المكنى عنه ، وحاصله أنهم اجترؤا على هذا لأنهم مطبوعون على الضلال انتهى ، وفيه شمة مما ذكره الزمخشري .

وعن قتادة . وجماعة يختم على قلبك ينسك القرآن ، والمراد على ما قال ابن عطية الرد على مقالة الكفار وبيان بطلانها كأنه قيل : وكيف يصح أن تكون مفترياً وأنت من الله تعالى بمرأى ومسمع وهو سبحانه قادر ولو شاء لختم على قلبك فلا تعقل ولا تنطق ولا يستمر افتراؤك ، وفيه أن اللفظ ضيق عن أداء هذا المعنى ، وذكر القشيري أن المعنى فإن يشأ الله تعالى يختم على قلوب الكفار وعلى ألسنتهم ويعاجلهم بالعذاب ، وعدل عن الغيبة إلى الخطاب ومن الجمع إلى الإفراد ، وحاصله يختم على قلبك أيها القائل إنه عليه الصلاة والسلام افترى على الله تعالى كذباً ، وفيه من البعد ما فيه مع أن الكفار مختوم على قلوبهم ، وقال مجاهد ، ومقاتل : المعنى فإن يشأ يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يشق عليك قولهم إنك مفتر ، ولا مانع عليه من عطف { *يمح } على جواب الشرط بل هو الظاهر فيكون سقوط الواو للجازم ، و { أَن يُحِقَّ } حينئذٍ مستأنف أي وإن يشأ يمح باطلهم عاجلاً لكنه سبحانه لم يفعل لحكمة أو مطلقاً وقد فعل جل وعلا بالآخرة وأظهر دينه ، وقيل : لا مانع من العطف على بعض الأقوال السابقة أيضاً أي إن يشأ يمح افتراءك لو افتريت وهو كما ترى ، وكذا جوز كون الجملة حالية وإن أحوج ذلك إلى تقدير المبتدأ وفيه تكلف مستغنى عنه ؛ وربما يقال : إن جملة { فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ } من تتمة قولهم مفرعاً على { افترى } كأنه قيل : افترى على الله كذباً فإن يشأ الله يختم على قلبه بسبب افترائه فلا يعقل شيئاً أو كأنه قيل : افتريت على الله فإن يشأ يختم على قلبك جزاء ذلك إلا أن نكتة اختيار الغيبة في إحدى الجملتين والخطاب في الأخرى غير ظاهرة ، وكونها الإشارة إلى أن من افترى يحق أن يواجه بالجزاء ليس مما يهش له السامع فيما أرى ، ولعل الأولى أن يكون { فَإِن يَشَإِ } الخ مفرعاً على كلامهم خارجاً مخرج التهكم بهم ، ولا بأس حينئذٍ بعطف يمح على جواب الشرط ويراد بالباطل ما هو باطل بزعمهم كأنه قيل : أم يقولون افترى على الله فإذن إن يشأ الله يختم على قلبك ويمح ما يزعمون أنه باطل ، وهذا كما تقول لمن أخبرك أن زيداً افترى عليك وأنت تعلم أنه لم يفتر وإنما أدى عنك ما أمرته به فإذن نؤدبه وننتقم منه ونمحو افتراءه تقصد بذلك التهكم بالقائل فتأمل ، فهذه الآية كما قال الخفاجي من أصعب ما مر في كلامه تعالى العظيم وفقنا الله تعالى وإياكم لفهم معانيه والوقوف على سره وخافيه { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } فيعلم سبحانه ما في صدرك وصدورهم فيجري جل وعلا الأمر على حسب ذلك .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗاۖ فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخۡتِمۡ عَلَىٰ قَلۡبِكَۗ وَيَمۡحُ ٱللَّهُ ٱلۡبَٰطِلَ وَيُحِقُّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (24)

{ 24 } { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }

يعني أم يقول المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم جرأة منهم وكذبا : { افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } فرموك بأشنع الأمور وأقبحها ، وهو الافتراء على الله بادعاء النبوة والنسبة إلى الله ما هو بريء منه ، وهم يعلمون صدقك وأمانتك ، فكيف يتجرأون على هذا الكذب الصراح ؟

بل تجرأوا بذلك على الله تعالى ، فإنه قدح في الله ، حيث مكنك من هذه الدعوة العظيمة ، المتضمنة -على موجب زعمهم- أكبر الفساد في الأرض ، حيث مكنه الله من التصريح بالدعوة ، ثم بنسبتها إليه ، ثم يؤيده بالمعجزات الظاهرات ، والأدلة القاهرات ، والنصر المبين ، والاستيلاء على من خالفه ، وهو تعالى قادر على حسم هذه الدعوة من أصلها ومادتها ، وهو أن يختم على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يعي شيئا ولا يدخل إليه خير ، وإذا ختم على قلبه انحسم الأمر كله وانقطع .

فهذا دليل قاطع على صحة ما جاء به الرسول ، وأقوى شهادة من الله له على ما قال ، ولا يوجد شهادة أعظم منها ولا أكبر ، ولهذا من حكمته ورحمته ، وسنته الجارية ، أنه يمحو الباطل ويزيله ، وإن كان له صولة في بعض الأوقات ، فإن عاقبته الاضمحلال .

{ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } الكونية ، التي لا تغير ولا تبدل ، ووعده الصادق ، وكلماته الدينية التي تحقق ما شرعه من الحق ، وتثبته في القلوب ، وتبصر أولي الألباب ، حتى إن من جملة إحقاقه تعالى الحق ، أن يُقَيِّضَ له الباطل ليقاومه ، فإذا قاومه ، صال عليه الحق ببراهينه وبيناته ، فظهر من نوره وهداه ما به يضمحل الباطل وينقمع ، ويتبين بطلانه لكل أحد ، ويظهر الحق كل الظهور لكل أحد .

{ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بما فيها ، وما اتصفت به من خير وشر ، وما أكنته ولم تبده .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗاۖ فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخۡتِمۡ عَلَىٰ قَلۡبِكَۗ وَيَمۡحُ ٱللَّهُ ٱلۡبَٰطِلَ وَيُحِقُّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (24)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{أم يقولون} كفار مكة إن محمدا {افترى على الله كذبا}، حين زعم أن القرآن من عند الله، فشق على النبي صلى الله عليه وسلم تكذيبهم إياه، يقول الله تعالى:

{فإن يشأ الله يختم على قلبك}: يربط على قلبك، فلا يدخل في قلبك المشقة من قولهم بأن محمدا كذاب مفتر.

{ويمح الله} إن شاء {الباطل} الذي يقولون أنك كذاب مفتر من قلبك.

{ويحق} الله {الحق}، وهو الإسلام، {بكلماته}، يعني القرآن الذي أنزل عليه.

{إنه عليم بذات الصدور}، يعني القلوب، يعلم ما في قلب محمد صلى الله عليه وسلم من الحزن من قولهم بتكذيبهم إياه...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

أم يقول هؤلاء المشركون بالله: افْتَرَى محمد على اللّهِ كَذِبا فجاء بهذا الذي يتلوه علينا اختلاقا من قِبَل نفسه.

"فَإنْ يَشأِ اللّهُ" يا محمد يطبع على قلبك، فتنس هذا القرآن الذي أُنزل إليك.

"ويَمْحُ اللّهُ الباطِلَ": ويذهب الله بالباطل فيمحقه "ويُحِقّ الحَقّ بكَلِماتِهِ" التي أنزلها إليك يا محمد فيثبته...

"إنّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصّدُورِ": إن الله ذو علم بما في صدور خلقه، وما تنطوي عليه ضمائرهم، لا يخفى عليه من أمورهم شيء، يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: لو حدّثت نفسك أن تفتري على الله كذبا، لطبعت على قلبك، وأذهبت الذي آتيتك من وحيي؛ لأني أمحو الباطل فأذهبه، وأحقّ الحقّ، وإنما هذا إخبار من الله الكافرين به، الزاعمين أن محمدا افترى هذا القرآن من قِبل نفسه، فأخبرهم أنه إن فعل لفعل به ما أخبر به في هذه الآية.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{فإن يشأ الله يختم على قلبك}... يُخرّج على وجهين:

...

.

والثاني: {فإن يشأ الله يختم على قلبك} كما ختم على قلوب أولئك الكفرة حتى لا تفهم، ولا تعقل الحق من الباطل كما فعل بأولئك. يذكّره إحسانه إليه وفضله بما أكرمه بأنواع الكرامات التي أكرمه بها ليشكُر ربه على ذلك، ويرحّم على أولئك بما ختم على قلوبهم وما ينزل بهم من أنواع العذاب...

{ويمح الله الباطل ويُحق الحق بكلماته} هذا يخرّج على وجهين:

أحدهما: أي يُظهر، ويظفر أهل الحق على أهل الباطل وينصُرهم، حتى يصير أهل الحق ظاهرين قاهرين على أهل الباطل، فذلك محو الباطل وإحقاق الحق.

والثاني: يُحق الحق بالحُجج والبراهين حتى يعرف كل أحد الحق من الباطل بالحُجج التي أقامها إذا تأمل فيها حق التأمل، وهو كقوله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كله ولو كره المشركون} [التوبة: 33] والله أعلم.

{بكلماته} أي براهينه.

{إنه عليم بذات الصدور} قال أهل التأويل: أي عليم بما في الصدور، ولكن قوله {بذات الصدور} عبارة عمن له الصدور عن الرأي والتدبير، وهم البشر.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

معنى الآية أنَّ اللَّهَ يتصرَّف في عباده بما يشاء: مِنْ إبعادٍ وتقريب، وإدناء وتبعيد.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{أَمْ} منقطعة. ومعنى الهمزة فيه التوبيخ، كأنه قيل: أيتمالكون أن ينسبوا مثله إلى الافتراء، ثم إلى الافتراء على الله الذي هو أعظم الفرى وأفحشها... وهذا الأسلوب مؤدّاه استبعاد الافتراء من مثله، وأنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في جملة المختوم على قلوبهم...

ومن عادة الله أن يمحو الباطل ويثبت الحق {بكلماته} بوحيه أو بقضائه كقوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء: 18] يعني: لو كان مفترياً كما تزعمون لكشف الله افتراءه ومحقه وقذف بالحق على باطله فدمغه. ويجوز أن يكون عدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب، يثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مردّ له من نصرتك عليهم.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

المراد الرد على مقالة الكفار وبيان إبطالها، وذلك كأنه يقول: وكيف يصح أن تكون مفترياً وأنت من الله بمرأى ومسمع، وهو قادر لو شاء على أن يختم على قلبك فلا تعقل ولا تنطق ولا يستمر افتراؤك، فمقصد اللفظ هذا المعنى وحذف ما يدل عليه الظاهر اختصاراً واقتصاراً...

{بكلماته} معناه: بما سبق في قديم علمه وإرادته من كون الأشياء بالكلمات المعاني القائمة التي لا تبديل لها.

{إنه عليم بذات الصدور} خبر مضمنه وعيد...

أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :

{فإن يشأ الله يختم على قلبك} استبعاد للافتراء عن مثله بالإشعار على أنه إنما يجترئ عليه من كان مختوما على قلبه جاهلا بربه، فأما من كان ذا بصيرة ومعرفة فلا.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان التقدير كما دل عليه السياق: ولكنه لم يشأ ذلك، بل شاء جعله قابلاً لروح الوحي واعياً لفنون العلم فهو يقذف بأنواع المعارف، ويهتف بتلقي أعاجيب اللطائف، ويثبت الله ذلك كله من غير مانع ولا صارف، عطف عليه قوله: {ويمحُ الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {الباطل} وهو قولهم "افترى "وكل كذب فلا يدع له أثراً، وهنالك يظهر خسران الجاحد وينقطع لسان الألد المعاند، ولم يذكر أن آلة المحو الكلمات وغيرها استهانة به بالإشارة إلى أنه تارة يمحوه بنفسه بلا سبب وتارة بأضعف الأسباب وتارة بأعلى منه، وحذفت واوه في الخط في جميع المصاحف مع أنه استئناف غير داخل في الجواب؛ لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقاً إيماء إلى أنه سبحانه يمحق رفعه وعلوه وغلبته التي دلت عليها الواو مطابقة بين خطه ولفظه، ومعناه تأكيداً للبشارة يمحوه محواً لا يدع له عيناً ولا أثراً لمن ثبت لصولته: وصبر كما أمر لحولته، اعتماداً على صادق وعد الله إيماناً بالغيب وثقة بالرسل عليهم الصلاة والسلام، وفي الحذف أيضاً تشبيه له بفعل الأمر، إيماء إلى أن إيقاع هذا المحو أمر لا بد من كونه على أتم الوجوه وأحكمها وأعلاها وأتقنها كما يكون المأمور به من الملك المطاع، وأما الحق فإنه ثابت شديد مضاعف فلذا قال: {ويحق} أي يثبت على وجه لا يمكن زواله {الحق} أي كل من شأنه الثبات لأنه أذن فيه وأقره، وعظم الحق وإحقاقه بذكر آلة الفعل فقال: {بكلماته} أي التي لو كان البحر مداداً} [الكهف: 109] الآية التي يقولون إن ما أتاهم من العبارة عنها افتراء للكذب، والحاصل أنه سبحانه أثبت صفاء لبه ونورانية قلبه وسداد قوله وصواب أمره، وظلام قلوبهم وبطلان أقوالهم إثباتاً مقروناً بدليله؛ أما لأهل البصائر فبعجزهم عن معارضته، وأما للأغبياء فإثبات قوله ومحو قولهم.

ولما كانوا يعلمون أنه على حق وهم على باطل، وكان من أحاط علمه بشيء قدر على ما يريده من ذلك الشيء، بين ذلك بقوله معللاً على وجه التأكيد؛ لأن عملهم عمل من يظن أن الله لا يعلم مكرهم: {إنه عليم} أي بالغ {بذات الصدور} أي ما هو فيها مما يعلمه صاحبه ومما لا يعلمه، فيبطل باطله ويثبت حقه وإن كره الخلائق ذلك {ولتعلمن نبأه بعد حين} [ص: 88] ولقد صدق الله فأثبت ببركة هذا القرآن كل ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم وأبطل بسيف هذا البرهان كل ما كانوا يخالفونه فيه، ومن أصدق من الله قيلاً.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

يعني أم يقول المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم جرأة منهم وكذبا: {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فرموك بأشنع الأمور وأقبحها، وهو الافتراء على الله بادعاء النبوة والنسبة إلى الله ما هو بريء منه، وهم يعلمون صدقك وأمانتك، فكيف يتجرؤون على هذا الكذب الصراح؟

بل تجرأوا بذلك على الله تعالى، فإنه قدح في الله، حيث مكنك من هذه الدعوة العظيمة، المتضمنة -على موجب زعمهم- أكبر الفساد في الأرض، حيث مكنه الله من التصريح بالدعوة، ثم بنسبتها إليه، ثم يؤيده بالمعجزات الظاهرات، والأدلة القاهرات، والنصر المبين، والاستيلاء على من خالفه، وهو تعالى قادر على حسم هذه الدعوة من أصلها ومادتها، وهو أن يختم على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يعي شيئا ولا يدخل إليه خير، وإذا ختم على قلبه انحسم الأمر كله وانقطع.

فهذا دليل قاطع على صحة ما جاء به الرسول، وأقوى شهادة من الله له على ما قال، ولا يوجد شهادة أعظم منها ولا أكبر، ولهذا من حكمته ورحمته، وسنته الجارية، أنه يمحو الباطل ويزيله، وإن كان له صولة في بعض الأوقات، فإن عاقبته الاضمحلال.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هنا يأتي على الشبهة الأخيرة، التي قد يعللون بها موقفهم من ذلك الوحي، الذي تحدث عن مصدره وعن طبيعته وعن غايته في الجولات الماضية: (أم يقولون: افترى على الله كذبا؟).. فهم من ثم لا يصدقونه، لأنهم يزعمون أنه لم يوح إليه، ولم يأته شيء من الله؟ ولكن هذا قول مردود. فما كان الله ليدع أحدا يدعي أن الله أوحى إليه، وهو لم يوح إليه شيئاً، وهو قادر على أن يختم على قلبه، فلا ينطق بقرآن كهذا. وأن يكشف الباطل الذي جاء به ويمحوه. وأن يظهر الحق من ورائه ويثبته: (فإن يشأ الله يختم على قلبك، ويمح الله الباطل، ويحق الحق بكلماته) وما كان ليخفى عليه ما يدور في خلد محمد [صلى الله عليه وسلم] حتى قبل أن يقوله: (إنه عليم بذات الصدور).. فهي شبهة لا قوام لها. وزعم لا يقوم على أساس. ودعوى تخالف المعهود عن علم الله بالسرائر، وعن قدرته على ما يريد وعن سنته في إقرار الحق وإزهاق الباطل.. وإذن فهذا الوحي حق، وقول محمد صدق؛ وليس التقول عليه إلا الباطل والظلم والضلال.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

إضراب انتقالي عطفاً على قوله: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}

[الشورى: 21] وهو الكلام المضرَب عنه والمنتقل منه، والمراد الانتقال إلى توبيخ آخر، فالهمزة المقدرة بعد {أم} للاستفهام التوبيخي، فإنهم قالوا ذلك فاستحقوا التوبيخ عليه. والمعنى: أم قالوا افترى ويقولونه.

وجيء بفعل {يقولون} بصيغة المضارع ليتوجه التوبيخ لاستمرارهم على هذا القول الشنيع مع ظهور دلائل بطلانه. فإذا كان قولهم هذا شنعاً من القول فاستمرارهم عليه أشنع.

وفُرع على توبيخهم على ذلك قوله: {فإن يشأ الله يختم على قلبك} وهو تفريع فيه خفاء ودقّة؛ لأن المتبادر من التفريع أنّ ما بعد الفاء إبطال لما نسبوه إليه من الافتراء على الله وتوكيد للتوبيخ فكيف يستفاد هذا الإبطال من الشرط وجوابِه المفرعين على التوبيخ.

وللمفسرين في بيان هذا التفريع وترتبه على ما قبله أفهام عديدة لا يخلو معظمها عن تكلف وضعف اقتناع. والوجه في بيانه: أن هذا الشرط وجوابَه المفرَّعين في ظاهر اللفظ على التوبيخ والإبطال هما دليل على المقصود بالتفريع المناسب لتوبيخهم وإبطالِ قولهم، وتقديرُ المفرع هكذا: فكيف يَكون الافتراء منك على الله والله لا يُقِر أحداً أن يكذب عليه فلو شاء لختم على قلبك، أي سلبك العقل الذي يفكر في الكذب، فتفحم عن الكلام فلا تستطيع أن تتقول عليه، أي وليس ثمة حائل يحول دون مشيئة الله ذلك لو افتريت عليه، فيكون الشرط كناية عن انتفاء الافتراء؛ لأن الله لا يقرّ من يكذب عليه كلاماً، فحصل بهذا النظم إيجاز بديع، وتكون الآية قريباً من قوله تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لَقَطَعْنَا منه الوتِين} [الحاقة: 44 -46].

ولابن عطية كلمات قليلة يؤيد مغزاها هذا التقرير مستندة لقول قتادة محمولاً على ظاهر اللفظ من كون ما بعد الفاء هو المفرع، ويكون الكلام كناية عن الإعراض عن قولهم: {افترى على الله

كذباً}، أي أن الله يخاطب رسوله بهذا تعريضاً بالمشركين. والمعنى: أن افتراءه على الله لا يهمكم حتى تناصبوا محمداً صلى الله عليه وسلم العداء، فالله أولى منكم بأن يغار على انتهاك حرمة رسالته وبأن يذب عن جلاله فلا تجعلوا هذه الدعوى همكم؛ فإن الله لو شاء لختم على قلبك فسلبك القدرة على أن تنسب إليه كلاماً. وهذان الوجهان هما المناسبان لموقع الآية ولفاء التفريع، ولما في الشرط من الاستقبال، ولوقوع فعل الشرط مضارعاً، فالوقف على قوله: {على قلبك} وهو انتهاء كلام.

وجملة {ويمح الله الباطل} معطوفة على التفريع، وهي كلام مستأنف، مراد منه أن الله يمحو باطل المشركين وبهتانهم ويحقق ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم.

وهذا هو المتبادر من رفع {ويحقُّ} باتفاق القراء على رفعه، والمراد بالمحو على هذا: الإزالةُ. والمراد بالباطلِ: الباطل المعهود وهو دين الشرك. وبالحق: الحق المعهود، وهو الإسلام.

أو يكون المعنى أن من شأن الله تعالى أن يزيل الباطل ويفضحه بإيجاد أسباب زواله، وأن يوضح الحقّ بإيجاد أسباب ظهوره، حتى يكون ظهوره فاضحاً لبطلان الباطل فلو كان القرآن مفترى على الله لفضح الله بطلانه وأظهر الحق، فالمراد بالباطل: جنس الباطل، وبالحق جنس الحق، وتكون الجملة كالتذييل للتفريع. والمعنى الأول أنسب بالاستئناف، ولإفادته الوعيد بإزالة ما هم عليه ونصر المسلمين عليهم.

وعلى كلا المعنيين فقوله: {ويمح الله الباطل} كلامٌ مستأنف ليس معطوفاً على جزاء الشرط إذ ليس المعنى على: إنْ يشأ الله يمحُ الباطل، بل هو تحقيق لمحوه للباطل كقوله تعالى: {إن الباطل كان زهوقاً} [الإسراء: 81]، كما دل عليه رفع {ويحقُّ الحق بكلماته}، ففعل {يمحُ} مرفوع وحقه ظهور الواو في آخره، ولكنها حذفت تخفيفاً في النطق، وتبع حذفَها في النطق حذفُها في الرسم اعتباراً بحال النطق كما حذف واو {سندعُ الزبانية} [العلق: 18] وواو {ويدْع الإنسان بالشر دعاءه بالخير} [الإسراء: 11]. وذكر في « الكشاف» أن الواو ثبتت في بعض المصاحف ولم يعيّنه ولا ذكره غيره فيما رأيت.

وإظهار اسم الجلالة في قوله: {ويمح الله الباطل} دون أن يقول: ويمحُ الباطل، لتقوية تمكن المسند إليه من الذهن ولإظهار عناية الله بمحو الباطل. وإنما عُدل على الجملة الاسمية في صوغ {ويمح الله الباطل} فلم يقل: والله يمحو الباطل؛ لأنه أريد أن ما في إفادة المضارع من التجدد والتكرير إيماء إلى أن هذا شأن الله وعادته لا تتخلف، ولم يقصد تحقيق ذلك وتثبيته؛ لأن إفادة التكرير تقتضي ذلك بطريق الكناية فحصل الغرضان.

والباء في {بكلماته} للسببية، والكلمات هي: كلمات القرآن والوحي كقوله {يريدون أن يبدّلوا كلام الله} [الفتح: 15]، أو المراد: كلمات التكوين المتعلقة بالإيجاد على وفق علمه كقوله: {لا مبدل لكلماته} [الكهف: 27]. وإنما جاء هذا الرد عليهم بأسلوب الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك أقوى في الاعتناء بتلقينه جواب تكذيبهم؛ لأن المقام مقام تفظيع لبهتانهم، وهذا وجه التخالف بين أسلوب هذه الآية وأسلوب قوله تعالى: {قل لو شاء الله ما تلوتهُ عليكم ولا أدْرَاكُم به} [يونس: 16] لأن ذلك لم يكن مسوقاً لإبطال كلام صدر منهم.

وجملة {إنه عليم بذات الصدور} تعليل لمجموع جملتي {فإن يشإ الله} إلى قوله: {بكلماته}، أي لأنه لا يخفى عليه افتراء مُفترٍ ولا صدقُ محقَ. و (ذات الصدور): النوايا والمقاصد التي يضمرها الناس في عقولهم. والصدور: العقول، أطلق عليها الصدور على الاستعمال العربي.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

الكلام هنا عن كفار مكة الذين اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه كذب القرآن من عند نفسه ونسبه إلى الله {أَمْ يَقُولُونَ..} أي الكفار {افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِباً..} يعني: جاء بالقرآن من عنده. والافتراء منهم هم، فهم أهل الكلام وأصحاب القصائد والخطب، وما عرفوا عن محمد -وقد عاش بينهم- أنَّ له ريادة في هذا المجال.

إذن: أنتم أصحاب هذا الفن ولسانكم طويل، فلماذا لم تأتوا بمثل ما جاء به؟ ولو حتى بسورة واحدة؟ فلو أن الافتراء وارد في حق محمد فأنتم أوْلَى، فلماذا تحداكم القرآن ولم تأتوا بشيء؟ لا بعشر سور ولا بسورة واحدة.

وفي موضع آخر يرد القرآن عليهم بالمنطق وبالحسنى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 35].

لذلك ينتقل سياق الآية من الحديث عن الكافرين وافترائهم على رسول الله إلى مخاطبة الرسول {فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ} يعني: إنْ حدث منك أن افتريت القرآن وجئتَ به من عند نفسك، فالله قادر أنْ يختم على قلبك يا محمد فتنسى الذي تحفظه، وهل حدث ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا بل ظل القرآنُ في صدره يتلوه آناء الليل وأطراف النهار ويُعلِّمه للناس.

إذن: محمد لم يكذب القرآن، ولم يفتر على الله بل أنتم المفترون. والقرآن في مواضع كثيرة يكشف افتراءهم ويردُّ عليهم بالعقل وبالمنطق وبالتي هي أحسن، فيحكى كيف يتمحكون في هذه المسألة: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ..} [النحل: 103] فقد اتهموا رسول الله أنه يختلف إلى رجل أعجمي يُعلِّمه القرآن، فيرد عليهم الحق سبحانه: {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103].

فالرجل الذي تقولون إن محمداً يتردد عليه ليُعلمه القرآن رجل أعجمي والقرآن بلسان عربي واضح، فأين عقولكم، وإنْ كنتَ كذوباً فكُنْ ذَكُوراً حتى لا ينكشفَ زيفُك وباطلك.

ويحكي القرآن عنهم لوناً آخر من التعنت والعناد: {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـٰذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِيۤ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىۤ إِلَيَّ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 15-16].

نعم جاء محمد بالقرآن بعد الأربعين، وهو بين أظهرهم، وما رأوه خطيباً ولا شاعراً، ولم يُعرف عنه شيء من ذلك.

فلما يئسوا قالوا: القرآن لا بأس به، لكن يعيبه أنه نزل على محمد بالذات: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].

ثم يفضح الحق سبحانه موقفهم ويُبيِّن غباءهم ولَدَدهم في الباطل، وأن هذه الخصومة ما هي إلا عناد وتكبُّر عن قبول الحق، فيقول: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، فهل هذا كلام عقلاء، أم هو الحقد على محمد بذاته؟

ثم يقول سبحانه: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} الفعل يمحو وحُذِفت الواو تخفيفاً، والذي يُمحَى هو الباطل الذي قالوه، والافتراء الذي كذبوه على رسول الله، هذا يمحوه الله وفي المقابل {وَيُحِقُّ الْحَقَّ..} يثبته ويُقويه {بِكَلِمَاتِهِ..} أي المنزلة على قلب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم.

أو يُراد بالكلمات كلمة كُنْ فيكون {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} يعني: عليم بخفايا والذي لا يستطيع الإنسان التعبير عنه باللسان فيكتمه في نيته وفي نفسه، كما قال سبحانه: {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].

إذن: ظلَّ هؤلاء القوم يعاندون رسول الله ويحقدون عليه ويصادمون دعوته ويتهمونه، إلى أن كشف الله باطلهم وأزهقه، وانتهى أمرهم إما بالإسلام أو الهزيمة أو شملهم عفو رسول الله يوم فتح مكة يوم أنْ قال لهم:"ما تظنون أني فاعل بكم" قالوا: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".

إذن: جاء نصر الله والفتح، وزهق الباطل، وثبت الحق، وعلا وانتصر، وهل يُعقل أنْ يرسل الله رسولاً لهداية الخلق، ثم يُسلمه لأعدائه أو يخذله في مواجهته للباطل؟

قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171-173].

وأخيراً نلحظ على هذه الآية أن البعض ظنَّ أن الفعل يمحو معطوف على (يشأ) وأنه مجزوم مثله بعد إنْ الشرطية وهذا غير صحيح، لأن الفعل "يمحو "جاء كلاماً جديداً مستقلاً بدليل تكرار لفظ الجلالة ورفع "ويحقُّ"، فهو فعل مرفوع وحُذِف الواو تخفيفاً أو لالتقاء ساكنين.