الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗاۖ فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخۡتِمۡ عَلَىٰ قَلۡبِكَۗ وَيَمۡحُ ٱللَّهُ ٱلۡبَٰطِلَ وَيُحِقُّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (24)

وقوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً } ( أم ) هذه مقطوعةٌ مضمنة إضراباً عن كلام متقدِّم ، وتقريراً على هذه المقالة منهم .

وقوله تعالى : { فَإِن يَشَأِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ } معناه ؛ في قول قتادة وفرقة من المفسرين : ينسيك القرآن ، والمراد الرَّدُّ على مقالة الكُفَّار ، وبيانُ إبْطَالِهَا ، كأَنَّهُ يقُولُ : وكيف يَصِحُّ أنْ تكون مفترياً ، وأنت من اللَّه بمرأًى ومَسْمَعٍ ؟ هو قَادِرٌ لو شاء أَنْ يختم على قلبك ؛ فلا تَعْقِلُ ، ولا تنطق ، ولا يستمرُّ افتراؤك ؛ فمقصد اللفظ : هذا المعنى ، وحُذِفَ ما يَدُلُّ عليه الظاهر ؛ اختصاراً واقتصاراً ، وقال مجاهد : المعنى : فإن يشإ اللَّه يختمْ على قلبك بالصبر لأذى الكفار ، ويربطْ عليك بالجَلَدِ ، فهذا تأويل لا يتضمَّن الردَّ على مقالتهم ؛ قال أبو حَيَّان : وذكر القُشَيْرِيُّ أنَّ الخطاب للكفار ، أي : يختم على قلبك أَيُّهَا القائلُ ؛ فيكون انتقالاً من الغيبة للخطاب ، { وَيَمْحُ } : استئنافُ إخبارٍ ؛ لا داخل في الجواب ، وتسقط الواو من اللفظ ؛ لالتقاء الساكنين ، ومن المصحف ؛ حملاً على اللفظ ، انتهى .

وقوله تعالى : { وَيَمْحُ } فعل مستقبل ، خبر من اللَّه تعالى أَنَّهُ يمحو الباطل ، ولا بُدَّ إمَّا في الدنيا وإمَّا في الآخرة ، وهذا بحسب نازلة نازلة ، وكتب { يَمْحُ } في المصحف بحاء مرسلة ، كما كتبوا : { وَيَدْعُ الإنسان } إلى غير ذلك مِمَّا ذهبوا فيه إلى الحذف والاختصار .

وقوله : { بكلماته } معناه : بما سبق في قديم علمه وإرادته من كون الأشياء ، فالكلمات : المعاني القائمة القديمة التي لا تبديلَ لها ، ثم ذلك تعالى النعمة في تَفَضُّلِهِ بقبول التوبة من عباده ، وقبول التوبة فيما يستأنف العبد من زمانه وأعماله مقطوعٌ به بهذه الآية ، وأمَّا ما سلف من أعماله فينقسم ، فأمَّا التوبة من الكفر فَمَاحِيَةٌ كُلَّ ما تَقَدَّمَها من مظالم العباد الفائتة وغير ذلك ، وأمَّا التوبة من المعاصي فلأهل السُّنَّةِ فيها قولان : هل تُذْهِبَ المعاصيَ السالفةَ للعبد بينه وبين خالقه ؟ فقالت فرقة : هي مُذْهِبَةٌ لها ، وقالت فرقة : هي في مشيئة اللَّه تعالى ، وأجمعوا أَنَّها لا تُذْهِبُ مظالم العباد ، وحقيقةُ التوبة : الإقلاعُ عن المعاصِي ، والإقبالُ ، والرجوعُ إلى الطاعات ، ويلزمها النَّدَمُ على ما فَاتَ ؛ والعَزْمُ على ملازمة الخَيْرَات ، وقال سَرِيٌّ السِّقَطِيُّ : التوبة : العَزْمُ على ترك الذنوب ؛ والإقبالُ بالقَلْبِ على عَلاَّم الغيوب ، وقال يحيى بن مُعَاذٍ : التائبُ : مَنْ كَسَرَ شَبَابَهُ على رأسه ، وكَسَرَ الدنيا على رأسِ الشيطان ، ولزم الفِطام حتى أتاه الحِمَام .