روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{لِلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُۥ لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لَٱفۡتَدَوۡاْ بِهِۦٓۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ سُوٓءُ ٱلۡحِسَابِ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ} (18)

وبعد ما بين تعالى شأنه شأن كل من الحق والباطل حالاً ومآلا أكمل بيان شرع في بيان حال أهل كل منهما مآلا تكميلا للدعوة ترغيباً وترهيباً فقال سبحانه : { لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبّهِمُ } إذ دعاهم إلى الحق بفنون الدعوة التي من جملتها ضرب الأمثال فإن له لما فيه من تصوير المعقول بصورة المحسوس تأثيراً بليغاً في تسخير والنفوس ، والجار والمجرور خبر مقدم ، وقوله سبحانه : { الحسنى } أي المثوبة الحسنى وهي الجنة كما قال قتادة . وغيره ، وعن مجاهد الحياة الحسنى أي الطيبة التي لا يشوبها كدر أصلا . وعن ابن عباس أن المراد جزاء الكلمة الحسنى وهي لا إله إلا الله وفيه من البعد ما لا يخفى مبتدأ مؤخر { والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ } سبحانه وعاندوا الحق الجلي { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا في الارض } من أصناف الأموال { جَمِيعاً } بحيث لم يشذ منه شاذ في أقطارها أو مجموعاً غير متفرق بحسب الأزمان { وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ } أي بالمذكور مما في الأرض ومثله معه جميعاً ليتخلصوا عما بهم ، وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيط به البيان ، والموصول مبتدأ والجملة الشرطية خبره وهي على ما قيل واقعة موقع السوأي المقابلة للحسنى الواقعة في القرينة الأولى فكأنه قيل : وللذين لم يستجيبوا له السوأى . وتعقب بأن الشرطية وان دلت على سوء حالهم لكنها بمعزل عن القيام مقام لفظ السوأى مصحوباً باللام الجارة الداخلة على الموصول أو ضميره وعليه يدور حصول المرام ؛ فالذي ينبغي أن يعول عليه أن الواقع في تلك المقابلة سوء الحساب في قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوء الحساب } وحيث كان اسم الإشارة الواقع مبتدأ في هذه الجملة عبارة عن الموصول الواقع مبتدأ في الجملة السابقة كان خبره أعني الجملة الظرفية خبراً عن الموصول في الحقيقة ومبيناً لإبهام مضمون الشرطية الواقعة خبراً عنه أولا ولذلك ترك العطف فكأنه قيل : والذين لم يستجيبوا له لهم سوء الحساب وذلك في قوة أن يقال : وللذين لم يستجيبوا له سوء الحساب مع زيادة تأكيد فتم حسن المقابلة على أبلغ وجه وآكده . واعتذر بأنه يمكن أن يكون المراد أن { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا في الأرض جَمِيعاً } إلى آخر الآية واقع موقع ذلك على معنى أن رعاية حسن المقابلة لقوله تعالى : { لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبّهِمُ الحسنى } تقتضي أن يقال : وللذين لم يستجيبوا له السوأى ولا يزاد على ذلك لكنه جيىء بقوله سبحانه : { لَوْ أَنَّ لَهُمْ } الخ بدل ما ذكر ، ولعل في كلام الطيبي ما يستأنس به لذلك . وإلى اعتبار السوأى في المقابلة ذهب أيضاً صاحب الكشف قال : إن قوله تعالى : { لَوْ أَنَّ لَهُمْ } في مقابلة الحسنى يدل السوأى مع زيادة تصوير وتحسير ، وأوثر الأجمال في الأول دلالة على أن جزاء المستجيبين لا يدخل تحت الوصف فتدبر ، والمراد بسوء الحساب أي الحساب السيء على ما روي عن إبراهيم النخعي .

والحسن أن يحاسبوا بذنوبهم كلها لا يغفر لهم منها شيء وهو المعنى بالمناقشة . وعن ابن عباس هو أن يحاسبوا فلا تقبل حسناتهم ولا تغفر سيآتهم { وَمَأْوَاهُمُ } أي مرجعهم { جَهَنَّمَ } بيان لمؤدي ما تقدم وفيه نوع تأييد لتفسير الحسنى بالجنة { وَبِئْسَ المهاد } أي المستقر ، والمخصوص بالذم محذوف أي مهادهم أو جهنم .

وقال الزمخشري : اللام في قوله تعالى : { لِلَّذِينَ استجابوا } متعلقة { يَضْرِبُ الله الامثال } [ الرعد : 17 ] وقوله سبحانه : { الحسنى } صفة للمصدر أي استجابوا الاستجابة الحسنى ، وقوله عز وجل : { والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ } معطوف على الموصول الأول ، وقوله جل وعلا : { لَوْ أَنَّ لَهُمْ } الخ كلام مستأنف مسوق لبيان ما أعد لغير المستجيبين من العذاب ، والمعنى كذلك يضرب الله تعالى الأمثال للمؤمنين المستجيبين والكافرين المعاندين أي هما مثلا الفريقين انتهى ، قال أبو حيان : والتفسير الأول أولى لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين ، والله تعالى قد ضرب أمثالاً كثيرة في هذين وفي غيرهما ولأن فيه ذكر ثواب المستجيبين بخلاف هذا ولأن تقدير الاستجابة الحسنى مشعر بتقييد الاستجابة ومقابلها ليس نفي الاستجابة مطلقاً وإنما هو نفى الاستجابة الحسنى والله تعالى قد نفى الاستجابة مطلقاً ولأنه حينئذ يكون { لَوْ أَنَّ لَهُمْ } الخ كلاماً مفلتاً أو كالمفلت إذ يصير المعنى كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين والكافرين لو أن لهم الخ ، ولو كان هناك حرف يربط { لَوْ } بما قبلها زال التفلت ، وأيضاً أنه يوهم الإشراك في الضمير وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوماً : وتعقب بأنه لا كلام في أولوية التفسير الأول لكن كون ما ذكر وجهاً لها محل كلام إذ لا مقتضى في التفسير الثاني لتقييد الأمثال عموماً بمثل هذين ، ألا ترى قوله تعالى : { كذلك } ثم إن فيه تفهيم ثواب المستجيبين أيضاً ألا يرى إلى القصر المستفاد من تقديم الظرف ، وأيضاً قوله تعالى : { الحسنى } صفة كاشفة لا مفهوم لها فإن الاستجابة لله تعالى لا تكون إلا حسنى وكيف يكون قوله سبحانه : { لَوْ أَنَّ لَهُمْ } الخ مفلتاً وقد قالوا : إنه كلام مبتدأ لبيان حال المستجيبين يعنون انه استئناف بياني جواب للسؤال عن مآل حالهم ثم كيف يتوهم الإشتراك مع كون تخصيصه بالكافرين معلوماً انتهى . قال بعض المحققين : إن ما ذكر متوجه بحسب بادىء الرأي والنظرة الأولى أما إذا نظر بعين الانصاف بعد تسليم أن ذاك أولى وأقوى علم أن ما قاله أبو حيان وارد فإن قوله تعالى : { كذلك } يقتضي أن هذا شأنه وعادته عز شأنه في ضرب الأمثال فيقتضي أن ما جرت به العادة القرآنية مقيد بهؤلاء وليس كذلك ، وما ذكره المتعقب ولو سلم فهو خلاف الظاهر .

وأما قوله : إن المستجيبين معلوم مما ذكره ففرق بين العلم ضمناً والعلم صراحة ، وأما أن الصفة مؤكدة أو لا مفهوم لها فخلاف الأصل أيضاً ، وكون الجملة غير مرتبطة بما قبلها ظاهر ، والسؤال عن حال أحد الفريقين مع ذكرهما ملبس ، وعود الضمير على ما قبله مطلقاً هو المتبارد وما ذكر لا يدفع الإيهام . وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل التفسير الأخير وحمل الأمثال فيه على الأمثال السابقة : وأنت خبير بأن عنوان الاستجابة وعدمها لا مناسبة بينه وبين ما يدور عليه أمر التمثيل وأن الاستعمال المستفيض دخول اللام على من يقصد تذكيره بالمثل . نعم قد يستعمل في هذا المعنى أيضاً كما في قوله تعالى : { ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ ءامنوا امرأة فِرْعَوْنَ إِذْ } [ التحريم : 11 ] ونظائره ، على أن بعض الأمثال المضروبة لا سيما المثل الأخير الموصول بالكلام ليس مثل الفريقين بل مثل للحق والباطل ولا مساغ لجعل الفريقين مضروباً لهم أيضاً بأن يجعل في حكم أن يقال : كذلك يضرب الله الأمثال للناس إذ لا وجه حينئذ لتنويعهم إلى المستجيبين وغير المستجيبين ؛ ويؤيد هذا ما في الكشف حيث قال : إن جعل { لِلَّذِينَ استجابوا } من تتمة الأمثال لا من صلة يضرب متكلف لأنهما مثلا الحق والباطل بالاصالة ومن صلة { يَضْرِبُ } [ الرعد : 17 ] أبعد لأن الأمثال إنما ضربت لمن يعقل .

ثم إن كون المراد بالأمثال الأمثال السابقة مبني على أن ما تقدم كان أمثالاً والمشهور أنه مثلان ، نعم أخرج ابن جرير . وغيره عن قتادة أنه قال في الآية : هذه ثلاثة أمثال ضربها الله تعالى في مثل واحد ، وبعد هذا كله لا شك في سلامة التفسير الأول من القيل والقال وانه الذي يستدعيه النظم الجليل لأن تمام حسن الفاصلة أن تكون كاسمها ولهذا انحط قول امرىء القيس :

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى *** بصبح وما إلا صباح منك بأمثل

عن قول المتنبي :

إذا كان مدحاً فالنسيب المقدم *** أكل فصيح قال شعراً متيم

وهو الذي فهمه السلف من الآية ، ومن هنا كان أكثر الشيوخ يقفون على الأمثال ويتبدءون بقوله تعالى : { لِلَّذِينَ استجابوا } وقال صاحب المرشد : إنه وقف تام والوقف على { الحسنى } حسن وكذا على { لاَفْتَدَوْاْ بِهِ } والعجب من الزمخشري كيف اختار خلاف ذلك مع وضوحه والله تعالى أعلم .

ومن باب الإشارة :{ للذين استجابوا لربهم } بتصفية الاستعداد عن كدورات صفات النفس { الحسنى } المثوبة الحسنى وهو الكمال الفائض عليهم عند الصفاء { والذين لم يستجيبوا له } تعالى وبقوا في الرذائل البشرية والكدورات الطبيعية { لو أن لهم ما في الأرض } الجهة السفلية من الأموال والأسباب التي انجذبوا إليها بالمحبة فأهلكوا أنفسهم بها { ومثله معه لافتداو به } ما ينالهم من الحجاب والحرمان { أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوء الحساب } لوقوفهم مع الأفعال في مقام النفس { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } الحرمان { وَبِئْسَ المهاد } [ الرعد : 18 ] جهنم والعياذ بالله تعالى ونسأله العفو والعافية .