روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَفِي ٱلۡأَرۡضِ قِطَعٞ مُّتَجَٰوِرَٰتٞ وَجَنَّـٰتٞ مِّنۡ أَعۡنَٰبٖ وَزَرۡعٞ وَنَخِيلٞ صِنۡوَانٞ وَغَيۡرُ صِنۡوَانٖ يُسۡقَىٰ بِمَآءٖ وَٰحِدٖ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلۡأُكُلِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (4)

{ وَفِى الارض قِطَعٌ } جملة مستأنفة مشتملة على طائفة أخرى من الآيات أي في الأرض بقاع كثيرة مختلفة في الأوصاف فمن طيبة منبتة ومن سبخة لا تنبت ومن رخوة ومن صلبة ومن صالحة للزرع لا للشجر ومن صالحة للشجرء لا للزرع إلى غير ذلك { متجاورات } أي متلاصقة والمقصود الأخبار بتفاوت أجزاء الأرض المتلاصقة على الوجه الذي علمت وهذا هو المأثور عن الأكثرين ، وأخرج أبو الشيخ عن قتادة أن المعنى وفي الأرض قرى قريب بعضها من بعض ، وأخرج عن الحسن انه فسر ذلك بالاهواز . وفارس . والكوفة . والبصرة ، ومن هنا قيل في الآية اكتفاء على حد { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] والمراد قطع متجاورات وغير متجاورات ، وفي بعض المصاحف { قِطَعٌ متجاورات } بالنصب أي وجعل في الأرض قطعاً { وجنات } أي بساتين كثيرة( {[452]} ) { مّنْ أعناب } أي من أشجار الكرم { وَزَرْعٌ } من كل نوع من أنواع الحبوب ، وافراده لمراعاة أصله حيث كان مصدراً ، ولعل تقديم ذكر الجنات عليه مع كونه عمود المعاش لما أن في صنعة الأعناب مما يبهر العقول ما لا يخفى ، ولو لم يكن فيها إلا أنها مياه متجمدة في ظروف رقيقة حتى أن منها شفافاً لا يحجب البصر عن إدراك ما في جوفه لكفي ؛ ومن هنا جاء في بعض الأخبار القدسية أتكفرون بي وأنا خالق العنب . وفي إرشاد العقل السليم تعليل ذلك بظهور حال الجنن في اختلافها ومباينتها لسائرها ورسوخ ذلك فيها ، وتأخير قوله تعالى : { وَنَخِيلٌ } لئلا يقع بينها وبين صفتها وهي قوله تعالى : { صنوان وَنَخِيلٌ صنوان } فاصلة أو يطول الفصل بين المتعاطفين ، وصنوان جمع صنو وهو الفرع الذي يجمعه وآخر أصل واحد وأصله المثل ، ومنه قيل : للعم صنو ، وكثر الصاد في الجمع كالمفرد هو اللغة المشهورة وبها قرأ الجمهور ، ولغة تميم وقيس { صنوان } بالضم كذئب وذؤبان وبذلك قرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما . والسلمى . وابن مصرف ، ونقله الجعبري في شرح الشاطبية عن حفص .

وقرأ الحسن . وقتادة بالفتح ، وهو على ذلك اسم جمع كالسعدان لا جمع تكسير لأنه ليس من أبنيته ، وقرأ الحسن { جنات } بالنصب عطفاً عند بعض على { زَوْجَيْنِ } مفعول { جَعَلَ } و { وَمِن كُلّ الثمرات } [ الرعد : 3 ] حينئذ حال مقدمة لا صلة { جَعَلَ } لفساد المعنى عليه أي جعل فيها زوجين حال كونه من كل الثمرات وجنات من أعناب ، ولا يجب هنا تقييد العطوف بقيد المعطوف عليه .

وزعم بعضهم أن العطف على { رَوَاسِىَ } وقال أبو حيان : الأولى اضمار فعل لبعد ما بين المتعاطفين أو بالجر عطفاً على { كُلّ الثمرات } على أن يكون هو مفعولاً بزيادة { مِنْ } في الإثبات و { زَوْجَيْنِ اثنين } حالا منه ، والتقدير وجعل فيها من كل الثمرات حال كونها صنفين ، فلعل عدم نظم قوله تعالى : { وَفي الأرض * قِطَعٌ متجاورات } في هذا السلك من أن اختصاص كل من تلك القطع بما لها من الأحوال والصفات بمحض خلق الخالق الحكيم جلت قدرته حين مد الأرض ودحاها على ما قيل الإيماء إلى كون تلك الأحوال صفات راسخة لتلك القطع .

وقرأ جمع من السبعة { وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ } بالجر على أن العطف على { أعناب } وهو كما في الكشف من باب متقلداً سيفاً ورمحاً أو المراد أن في الجنات فرجاً مزروعة بين الأشجار وإلا فلا يقال للمزرعة وحدها جنة وهذا أحسن منظراً وأنزه . وادعى أبو حيان أن في جعل الجنة من الأعناب تجوزاً لأن الجنة في الحقيقة هي الأرض التي فيها الأعناب { يسقى } أي ما ذكر من القطع والجنات والزرع والنخيل وقرأ أكثر السبعة بالتأنيث مراعاة للفظ ؛ وهي قراءة الحسن . وأبي جعفر ، قيل : والأول أوفق بمقام بيان اتحاد الكل في حالة السقي { بِمَاء واحد } لا اختلاف في طبعه سواء كان السقي من ماء : الأمطار أو من ماء الأنهار ، وقيل : إن الثاني أوفق بقوله سبحانه : { وَنُفَضّلُ } أي مع وجود أسباب التشابه بمحض قدرتنا وإحساننا { بَعْضَهَا على بَعْضٍ } آخر منها { فِى الاكل } لمكان التأنيث ، وأمال فتحة القاف حمزة ، والكسائي ، والأكل بضم الهمزة والكاف وجاء تسكينها ما يؤكل ، وهو هنا الثمر والحب ، وقول بعضهم : أي في الثمر شكلاً وقدراً ورائحة وطعماً من باب التغليب ، وقرأ حمزة . والكسائي { *يفضل } بالياء على بناء الفاعل رداً على { وَمَن يُدَبّرُ } و { *يفصل } و { إِذْ يغشى } وقرأ يحيى بن يعمر وهو أول من نقط المصحف . وأبو حيوة . والحلبى عن عبد الوارث بالياء على بناء المفعول ورفع { بَعْضَهَا } وفيه ما لا يخفى من الفخامة والدلالة على أن عدم احتمال استناد الفعل إلى فاعل آخر معن عن بناء الفعل للفاعل { إِنَّ في ذَلِكَ } الذي فصل من أحوال القطع وغيرها { لايات } كثيرة عظيمة باهرة { لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } يعملون على قضية عقولهم فإن من عقل هاتيك الأحوال العجيبة وخروج الثمار المختلفة في الأشكال والألوان والطعوم والروائح في تلك القطع المتباينة المتلاصقة مع اتحاد ما تسقى به بل وسائر أسباب نموها لا يتلعثم في الجزم بأن لذلك صانعاً حكيماً قادراً مدبراً لها لا يعجزه شيء ، وقيل : المراد أن من عقل ذلك لا يتوقف في الجزم بأن من قدر على إبداع ما ذكر قادر على إعادة ما أبداه بل هي أهون في القياس ولعل ما ذكرناه أولى . ثم إنالأحوال وإن كانت هي الآيات أنفسها لا أنها فيها إلا أنها قد جردت عنها أمثالها مبالغة في كونه آية ففي تجريدية مثلها في قوله تعالى :

{ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ } [ فصلت : 28 ] على المشهور . وجوز أن يكون المشار إليه الأحوال الكلية ، والآيات افرادها الحادثة شيئاً فشيئاً في الأزمنة وآحادها الواقعة في الأقطار والأمكنة المشاهدة لأهلها ففي على معناها ؛ ومنهم من فسر الآيات بالدلالات لتبقى في على ذلك وهو كما ترى ، وحيث كانت دلالة هذه الأحوال على مدلولاتها أظهر مما سبق علق سبحانه كونها آيات بمحض التعقل كما قال أبو حيان وغيره ، ولذلك على ما قيل لم يتعرض جل شأنه أنه لغير تفضيل بعضها على بعض في الأكل الظاهر لكل عاقل مع تحقق ذلك في الخواص والكيفيات مما يتوقف العثور عليه على نوع تأمل وتفكر كأنه لا حاجة إلى التفكر في ذلك أيضاً ، وفيه تعريض بأن المشركين غير عاقلين ، ولبعض الرجاز فيما تشير إليه الآية :

والأرض فيها عبرة للمعتبر *** تخبر عن صنع مليك مقتدر

تسقى بماء واحد أشجارها *** وبقعة واحدة قرارها

والشمس والهواء ليس يختلف *** وأكلها مختلف لا يأتلف

لو أن ذا من عمل الطبائع *** أو أنه صنعة غير صانع

لم يختلف وكان شيئاً واحدا *** هل يشبه الأولاد إلا الوالدا

الشمس والهواء يا معاند *** والماء والتراب شيء واحد

فما الذي أوجب ذا التفاضلا *** الا حيكم لم يرده باطل

وأخرج ابن جرير عن الحسن في هذه الآية أنه قال : هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فسطحها وبطحها فصارت قطعاً متجاورة فينزل عليها الماء من السماء فتخرج هذه زهرتها وثمرها وشجرها وتخرج نباتها وتخرج هذه سبخها وملحها وخبثها وكلتاههما تسقى بماء واحد فلو كان الماء ملحاً قيل إنما استبسخت هذه من قبل الماء ، كذلك الناس خلقوا من آدم عليه السلام فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب فتخشع وتخضع ، وتقسو قلوب فتلهو وتسهو ، ثم قال : والله ما جالس القرآن أحد الاقام من عنده بزيادة أو نقصان قال الله تعالى : { وَنُنَزّلُ مِنَ القرءان مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا } [ الإسراء : 82 ] ا ه قال أبو حيان وهو شبيه بكلام الصوفية .

ومن باب الإشارة :{ وَفِى الأرض قِطَعٌ متجاورات } فقلوب المحبين مجاورة لقلوب المشتاقين وهي لقول العاشقين وهي لقلوب الوالهين وهي لقلوب الهائمين وهي لقلوب العارفين وهي لقلوب الموحدين ، وقيل : في أرض القلوب قطع متجاورات قطع النفوس وقطع الأرواح وقطع الأسرار وقطع العقول والأولى تنبت شوك الشهوات والثانية زهر المعارف والثالثة نبات كواشف الأنوار والرابعة أشجار نور العلم وفيها { جنات مّن أعناب } أي أعناب العشق { وَزَرْعٌ } أي زرع دقائق المعرفة { وَنَخِيلٌ } أي نخل الإيمان { صنوان } في مقام الفرق { وَنَخِيلٌ صنوان } في مقام الجمع ، وقيل : صنوان إيمان مع شهود وغير صنوان إيمان بدونه { يسقى بِمَاء واحد } وهو التجلي الذي يقتضيه الجود المطلق { وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ في الاكل } [ الرعد : 4 ] في الطعم الروحاني ، وقيل : أشير أيضاً إلى أن في أرض الجسد قطعاً متجاورات من العظم واللحم والشحم والعصب وجنات من أشجار القوى الطبيعية والحيوانية والإنسانية من أعناب القوى الشهوانية التي يعصر منها هوى النفس والقوى العقلية التي يعصر منها هوى النفس والقوى العقلية التي يعصر منها خمر المحبة والعشق وزرع القوى الإنسانية ونخيل سائر الحواس الظاهرة والباطنة صنوان كالعينين والاذنين وغير صنوان كاللسان وآلة الفكر والوهم يسقى بماء واحد وهو ماء الحياة ونفضل بعضها على بعض في أكل الإدراكات والملكات كتفضيل مدركات العقل على الحس والبصر على اللمس وملكة على العفة وهكذا


[452]:- التقييد بذلك من المقام اهـ منه.