نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَفِي ٱلۡأَرۡضِ قِطَعٞ مُّتَجَٰوِرَٰتٞ وَجَنَّـٰتٞ مِّنۡ أَعۡنَٰبٖ وَزَرۡعٞ وَنَخِيلٞ صِنۡوَانٞ وَغَيۡرُ صِنۡوَانٖ يُسۡقَىٰ بِمَآءٖ وَٰحِدٖ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلۡأُكُلِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (4)

ولما كان الدليل - مع وضوحه - فيه بعض غموض ، شرع تعالى في{[43459]} شيء من تفصيل ما في الأرض من الآيات التي هي أبين من ذلك دليلاً ظاهراً جداً على إبطال قول الفلاسفة ، فقال : { وفي الأرض } أي التي{[43460]} أنتم سكانها ، تشاهدون ما فيها مشاهدة لا تقبل{[43461]} الشك { قطع متجاورات } فهي متحدة البقعة مختلفة الطبع{[43462]} ، طيبة إلى سبخة ، وكريمة إلى زهيدة ، وصلبة إلى رخوة ، وصالحة للزرع لا للشجر وعكسها{[43463]} ، مع انتظام الكل في الأرضية { وجنات } جمع جنة ، وهي البستان الذي{[43464]} تجنه الأشجار { من أعناب } وكأنه قدمها لأن أصنافها - الشاهدة{[43465]} بأن صانعها إنما هو الفعال لما يريد -{[43466]} لا تكاد تحصر{[43467]} حتى أنه في الأصل الواحد يحصل تنوع الثمرة{[43468]} ولذلك جمعها .

ولما كان تفاوت ما أصله الحب أعجب ، قال : { وزرع } أي منفرداً - في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحفص عن عاصم بالرفع ، وفي خلل الجنات - في قراءة الباقين بالجر .

ولما كان ما جمعه أصل واحد ظاهر أغرب أخر قوله : { ونخيل صنوان } فروع متفرقة على أصل واحد { وغير صنوان } باعتبار افتراق منابتها{[43469]} وأصولها ؛ قال أبو حيان{[43470]} : والصنو : الفرع يجمعه وآخر أصل واحد{[43471]} ، وأصله المثل ، ومنه قيل للعم : صنو{[43472]} وقال الرماني : والصنوان : المتلاصق ، يقال : هو ابن أخيه صنو أبيه{[43473]} أي لصيق أبيه في ولادته ، وهو جمع صنو{[43474]} ، وقيل : الصنوان : النخلات التي أصلها واحد - عن البراء بن عازب وابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم ؛ وقال الحسن رضي الله عنه : الصنوان : النخلتان أصلهما واحد - انتهى .

وهو تركيب لا فرق بين مثناه{[43475]} وجمعه إلا بكسر النون من غير تنوين وإعرابها مع التنوين ، وسيأتي في يس إن شاء الله تعالى سر تسمية الكرم بالعنب .

ولما كان الماء بمنزلة{[43476]} الأب والأرض بمنزلة{[43477]} الأم ، وكان الاختلاف مع اتحاد الأب والأم أعجب وأدل على الإسناد إلى الموجد المسبب ، لا إلى شيء من الأسباب ، قال : { تسقى{[43478]} } أي أرضها الواحدة كلها { بماء واحد } فتخرج{[43479]} أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا يتأخر عنه ولا يتقدم بعد أن يتصعد الماء فيها علوّاً ضد ما في طبعه من التسفل ، ثم يتفرق في كل من الورق والأغصان والثمار بقسطه مما فيه صلاحه { ونفضل } أي{[43480]} بما لنا من العظمة المقتضية للطاعة { بعضها } أي بعض تلك الجنات وبعض أشجارها { على بعض } ولما كان التفضيل على أنحاء مختلفة ، بين المراد بقوله : { في الأكل } أي الثمر المأكول ، ويخالف في المطعوم مع اتحاد الأرض وبعض الأصول ، وخص الأكل لأنه أغلب وجوه{[43481]} الانتفاع ، وهو منبه على اختلاف غيره من الليف والسعف{[43482]} واللون للمأكول والطعم والطبع والشكل والرائحة{[43483]} والمنفعة وغيرها مع أن نسبة{[43484]} الطبائع والاتصالات الفلكية إلى جميع الثمار على حد سواء{[43485]} لا سيما إذا رأيت العنقود الواحد جميع حباته حلوة نضيجة كبيرة إلا واحدة فإنها حامضة صغيرة يابسة .

ولما كان المراد في هذا السياق - كما تقدم - تفصيل ما نبه على كثرته بقوله : { وكأين من آية في السماوات والأرض } الآية ، قال : { إن في ذلك } أي الأمر العظيم الذي تقدم { لآيات } بصيغة الجمع فإنها بالنظر إلى تفصيلها بالعطف جمع وإن كانت بالنظر إلى الماء مفردة{[43486]} ، وهذا بخلاف ما يأتي في النحل{[43487]} لأن المحدث عنه هناك الماء ، وهنا ما ينشأ عنه ، فلما اختلف المحدث عنه كان الحديث بحسبه ، فالمعنى : دلالات واضحات على أن ذلك كله فعل واحد مختار عليم قادر على ما يريد من ابتداء الخلق ثم تنويعه بعد إبداعه{[43488]} ، فهو قادر على إعادته بطريق الأولى{[43489]} .

ولما كانت هذه المفصلة أظهر من تلك المجملة{[43490]} ، فكانت من الوضوح بحال لا يحتاج ناظره في الاعتبار به إلى غير العقل ، قال : { لقوم } أي ذوي قوة على ما يحاولونه { يعقلون } فإنه{[43491]} لا يمكن التعبير{[43492]} في وجه هذه الدلالة إلا بأن{[43493]} يقال{[43494]} هذه الحوادث السفلية حدثت بغير محدث ، فيقال للقائل : وأنت لا عقل لك ، لأن العلم بافتقار الحادث إلى المحدث ضرورة ، فعدم العلم بالضروري يستلزم عدم{[43495]} العقل .


[43459]:زيد عده في ظ: تفصيل.
[43460]:سقط من ظ و م ومد.
[43461]:من ظ ومد، وفي الأصل و م: لا يقبل.
[43462]:في م: للطبع.
[43463]:في ظ: يمسكها.
[43464]:في ظ: التي.
[43465]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: المشاهدة.
[43466]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: لا يكاد يحضر.
[43467]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: لا يكاد يحضر.
[43468]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: الشجرة.
[43469]:في ظ: نباتها.
[43470]:راجع النهر على هامش البحر 5/362؛ والعبارة من بعده إلى "قال الرماني" ساقطة من مد.
[43471]:من ظ و م والنهر، وفي الأصل: واحدة.
[43472]:من ظ و م والنهر، وفي الأصل: صنوه.
[43473]:زيد من ظ و م ومد.
[43474]:من ظ و م، وفي الأصل ومد: صنوه.
[43475]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: منتهاه.
[43476]:سقط ما بين الرقمين من مد.
[43477]:سقط ما بين الرقمين من مد.
[43478]:هذه قراءة الجماعة، وقراءة يعقوب وابن عامر وعاصم بالياء على التذكير.
[43479]:من ظ، وفي الأصل و م ومد: فنخرج.
[43480]:سقط من ظ.
[43481]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: وجود.
[43482]:في مد: الشعف.
[43483]:في ظ: الريحة.
[43484]:من ظ و م، وفي الأصل ومد: تشبه.
[43485]:في م: اسوا.
[43486]:في ظ ومد: مفرده.
[43487]:آية 11.
[43488]:في ظ: إبلاغه.
[43489]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: أولى.
[43490]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: الجملة.
[43491]:في ظ: لأنه.
[43492]:في م: التغبير.
[43493]:في مد: أن.
[43494]:زيد من ظ و م ومد.
[43495]:زيد من ظ و م ومد.