فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَفِي ٱلۡأَرۡضِ قِطَعٞ مُّتَجَٰوِرَٰتٞ وَجَنَّـٰتٞ مِّنۡ أَعۡنَٰبٖ وَزَرۡعٞ وَنَخِيلٞ صِنۡوَانٞ وَغَيۡرُ صِنۡوَانٖ يُسۡقَىٰ بِمَآءٖ وَٰحِدٖ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلۡأُكُلِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (4)

{ وَفِى الأرض قِطَعٌ متجاورات } هذا كلام مستأنف مشتمل على ذكر نوع آخر من أنواع الآيات . قيل : وفي الكلام حذف ، أي : قطع متجاورات ، وغير متجاورات ، كما في قوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] أي : وتقيكم البرد . قيل : والمتجاورات : المدن وما كان عامراً ، وغير المتجاورات : الصحارى وما كان غير عامر ، وقيل : المعنى : متجاورات متدانيات ، ترابها واحد وماؤها واحد . وفيها زرع وجنات ، ثم تتفاوت في الثمار فيكون البعض حلواً والبعض حامضاً ، والبعض طيباً والبعض غير طيب ، والبعض يصلح فيه نوع والبعض الآخر نوع آخر { وجنات مّنْ أعناب } الجنات : البساتين ، قرأ الجمهور برفع { جنات } على تقدير : وفي الأرض جنات ، فهو معطوف على قطع متجاورات ، أو على تقدير : وبينها جنات . وقرأ الحسن بالنصب على تقدير : وجعل فيها جنات ، وذكر سبحانه الزرع بين الأعناب والنخيل ؛ لأنه يكون في الخارج كثيراً كذلك ، ومثله في قوله سبحانه { جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا } [ الكهف : 32 ] .

{ صنوان وَغَيْرُ صنوان } ، قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص { وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان } برفع هذه الأربع عطفاً على جنات ، وقرأ الباقون بالجرّ عطفاً على أعناب . وقرأ مجاهد والسلمي بضم الصاد من صنوان . وقرأ الباقون بالكسر ، وهما لغتان . قال أبو عبيدة : صنوان : جمع صنو ، وهو أن يكون الأصل واحداً ، ثم يتفرع فيصير نخيلاً ، ثم يحمل ، وهذا قول جميع أهل اللغة والتفسير . قال ابن الأعرابي : الصنو : المثل ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ( عم الرجل صنو أبيه ) ، فمعنى الآية على هذا : أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة وقد لا تكون . قال في الكشاف : والصنوان جمع صنو ، وهي النخلة لها رأسان وأصلها واحد ، وقيل : الصنوان المجتمع ، وغير الصنوان المتفرق . النحاس : وهو كذلك في اللغة ، يقال للنخلة إذا كانت فيها نخلة أخرى أو أكثر : صنوان ، والصنو : المثل ، ولا فرق بين التثنية والجمع إلاّ بكسر النون في المثنى ، وبما يقتضيه الإعراب في الجمع . { يسقى بِمَاء واحد } ، قرأ عاصم وابن عامر : { يسقى } بالتحتية ، أي : يسقى ذلك كله . وقرأ الباقون بالفوقية بإرجاع الضمير إلى جنات ، واختاره أبو حاتم وأبو عبيد وأبو عمرو ، قال أبو عمرو : التأنيث أحسن لقوله : { وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل } ولم يقل : بعضه . وقرأ حمزة والكسائي «يفضل » بالتحتية كما في قوله : { يُدَبّرُ الأمر يُفَصّلُ الآيات } [ الرعد : 2 ] وقرأ الباقون بالنون على تقدير : ونحن نفضل .

وفي هذا من الدلالة على بديع صنعه ، وعظيم قدرته ما لا يخفى على من له عقل ؛ فإن القطع المتجاورة والجنات المتلاصقة المشتملة على أنواع النبات مع كونها تسقى بماء واحد وتتفاضل في الثمرات في الأكل ، فيكون طعم بعضها حلواً والآخر حامضاً ، وهذا في غاية الجودة ، وهذا ليس بجيد ، وهذا فائق في حسنه ، وهذا غير فائق مما يقطع من تفكر واعتبر ونظر نظر العقلاء أن السبب المقتضي لاختلافها ليس إلاّ قدرة الصانع الحكيم جلّ سلطانه وتعالى شأنه ، لأن تأثير الاختلاف فيما يخرج منها ويحصل من ثمراتها لا يكون في نظر العقلاء إلاّ لسببين : إما اختلاف المكان الذي هو المنبت ، أو اختلاف الماء الذي تسقى به ، فإذا كان المكان متجاوراً ، وقطع الأرض متلاصقة ، والماء الذي تسقى به واحداً ، لم يبق سبب للاختلاف في نظر العقل إلاّ تلك القدرة الباهرة والصنع العجيب ، ولهذا قال الله سبحانه : { إِنَّ فِي ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : يعلمون على قضية العقل وما يوجبه غير مهملين لما يقتضيه من التفكر في المخلوقات والاعتبار في العبر الموجودات .

/خ4