السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَفِي ٱلۡأَرۡضِ قِطَعٞ مُّتَجَٰوِرَٰتٞ وَجَنَّـٰتٞ مِّنۡ أَعۡنَٰبٖ وَزَرۡعٞ وَنَخِيلٞ صِنۡوَانٞ وَغَيۡرُ صِنۡوَانٖ يُسۡقَىٰ بِمَآءٖ وَٰحِدٖ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلۡأُكُلِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (4)

ثم أنه تعالى ذكر دليلاً ظاهراً جدًّا بقوله تعالى : { وفي الأرض } ، أي : التي أنتم سكانها تشاهدون ما فيها مشاهدة لا تقبل الشك { قطع } ، أي : بقاع مختلفة { متجاورات } ، أي : متقاربات يقرب بعضها من بعض واحدة طيبة ، والأخرى سبخة لا تنبت وأخرى صالحة للزرع لا للشجر ، وأخرى بالعكس ، وأخرى قليلة الريع ، وأخرى كثيرته مع انتظام الكل في الأرضية ، وهو من دلائل قدرته تعالى { وجنات } ، أي : بساتين فيها أنواع الأشجار من نخيل وأعناب وغير ذلك كما قال تعالى : { من أعناب وزرع ونخيل صنوان } جمع صنو وهي النخلات يجمعها أصل واحد وتتشعب فروعها ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس : «عمّ الرجل صنو أبيه » يعني أنهما من أصل واحد { وغير صنوان } ، أي : متفرقات مختلفة الأصول وسمي البستان جنة ؛ لأنه يستر بأشجاره الأرض .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص برفع العين واللام والنون الثانية من صنوان والراء من غير مع التنوين في العين واللام والنون ، وعدم التنوين في الراء ، والباقون بالخفض في الأربعة وعدم التنوين في الراء . ولما كان الماء بمنزلة الأب والأرض بمنزلة الأم وكان الاختلاف مع اتحاد الأب والأم أعجب وأدل على الإسناد إلى الواحد المسبب لا إلى شيء من الأسباب قال : { تسقى } قراءة ابن عامر وعاصم بالياء على التذكير ، أي : المذكور ، وقراءة الباقين بالتاء على التأنيث ، أي : الجنات وما فيها { بماء واحد } فتخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا تتأخر عنه ، ولا تتقدّم ، والماء جسم رقيق مائع به حياة كل نام ، وقيل في حدّه : جوهر سيال به قوام الأرواح { ونفضل بعضها على بعض في الأكل } ، أي : في الطعم ما بين حلو وحامض وغير ذلك . وفي الشكل والرائحة والمنفعة وغير ذلك ، وذلك أيضاً مما يدل على القادر الحكيم ، فإنّ اختلافها مع اتحاد الأصول والأسباب لا يكون إلا بتخصيص قادر مختار ، قال مجاهد : وذلك كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد . وقال الحسن : هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم وكانت الأرض طينة واحدة في يد ، أي : في قدرة الرحمن فسطحها فصارت قطعاً متجاورات ، فينزل عليها الماء من السماء ، فتخرج هذه زهرتها وشجرها وثمرها ونباتها ، وتخرج هذه سبخها وملحها وخبيثها وكل يسقى بماء واحد ، وكذلك الناس خلقوا من آدم ، فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب قوم فتخشع وتخضع ، وتقسو قلوب قوم فتلهو ولا تسمع .

وقال الحسن : والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان قال تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } [ الإسراء ، 82 ] وقرأ حمزة والكسائي بالياء ليطابق قوله تعالى : { يدبر الأمر } والباقون بالنون وقرأ نافع وابن كثير بسكون الكاف ، والباقون بالرفع { إن في ذلك } ، أي : الأمر العظيم الذي ذكرناه { لآيات } ، أي : دلالات { لقوم يعقلون } ، أي : يستعملون عقولهم بالتدبر والتفكر في الآيات الدالة على وحدانيته تعالى .