البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَفِي ٱلۡأَرۡضِ قِطَعٞ مُّتَجَٰوِرَٰتٞ وَجَنَّـٰتٞ مِّنۡ أَعۡنَٰبٖ وَزَرۡعٞ وَنَخِيلٞ صِنۡوَانٞ وَغَيۡرُ صِنۡوَانٖ يُسۡقَىٰ بِمَآءٖ وَٰحِدٖ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلۡأُكُلِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (4)

الصنو : الفرع يجمعه ، وآخر أصل واحد ، وأصله المثل ومنه قيل : للعم صنو ، وجمعه في لغة الحجاز صنوان بكسر الصاد كقنو وقنوان ، ويضمها في لغة تميم وقيس ، كذئب وذؤبان . ويقال : صنوان بفتح الصاد وهو اسم جمع لا جمع تكسير ، لأنه ليس من أبنيته .

قطع جمع قطعة وهي الجزء .

ومتجاورات متلاصقة متداينة ، قريب بعضها من بعض .

قال ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية ، والضحاك : أرض طيبة وأرض سبخة ، نبتت هذه ، وهذه إلى جنبها لا تنبت .

وقال ابن قتيبة وقتادة : يعني القرى المتجاورة .

وقيل : متجاورة في المكان ، مختلفة في الصفة ، صلبة إلى رخوة .

وسحراً إلى مرد أو مخصبة إلى مجدبة ، وصالحة للزرع لا للشجر ، وعكسها مع انتظام جميعها في الأرضية .

وقيل : في الكلام حذف معطوف أي : وغير متجاورات .

والمتجاورات المدن وما كان عامراً ، وغير المتجاورات الصحاري وما كان غير عامر .

قال ابن عطية : والذي يظهر من وصفه لها بالتجاور إنما هو من تربة واحدة ، ونوع واحد .

وموضع العبرة في هذا أبين ، لأنها مع اتفاقها في الترب والماء تفضل القدرة والإرادة بعض أكلها على بعض ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن هذه الآية فقال : «الدقل ، والقارس ، والحلو ، والحامض » وقال ابن عطية : وقيد منها في هذه المثال ما جاور وقرب بعضه من بعض ، لأن اختلاف ذلك في الأكل أغرب .

وفي بعض المصاحف : قطعاً متجاورات بالنصب على جعل .

وقرأ الجمهور : وجنات بالرفع ، وقرأ الحسن : بالنصب ، بإضمار فعل .

وقيل : عطفاً على رواسي .

وقال الزمخشري : بالعطف على زوجين اثنين ، أو بالجر على كل الثمرات انتهى .

والأولى إضمار فعل لبعد ما بين المتعاطفين في هذه التخاريج ، والفصل بينهما بجمل كثيرة .

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص : وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان بالرفع في الجميع على مراعاة قطع .

وقال ابن عطية : عطفاً على أعناب ، وليست عبارة محررة أيضاً ، لأن فيها ما ليس بعطف وهو قوله : صنوان .

وقرأ باقي السباعة : بخفض الأربعة على مراعاة من أعناب قال : وجعل الجنة من الأعناب من رفع الزرع ، والجنة حقيقة إنما هي الأرض التي فيها الأعناب ، وفي ذلك تجوز ومنه قول الشاعر :

كأن عيني في غربي مقبلة *** من النواضح تسقي جنة سحقه

أي نخيل جنة إذ لا يوصف بالسحق إلا النخل .

ومن خفض الزرع فالجنات من مجموع ذلك لا من الزرع وحده ، لأنه لا يقال للمزرعة جنة إلا إذا خالطها ثمرات .

وقرأ الجمهور : صنوان بكسر الصاد فيهما ، وابن مصرف والسلمي وزيد بن علي : بضمها ، والحسن وقتادة بفتحها ، وبالفتح هو اسم للجمع ، كالسعدان .

وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وزيد بن علي : يسقى بالياء ، أي : يسقى ما ذكر .

وباقي السبعة بالتاء ، وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وأهل مكة .

أنثوا لعود الضمير على لفظ ما تقدم ، ولقوله : ونفضل بالنون .

وحمزة والكسائي بالياء ، وابن محيصن بالياء في تسقي ، وفي نفضل .

وقرأ يحيى بن يعمر ، وأبو حيوة ، والحلبي عن عبد الوارث : ويفضل بالياء ، وفتح الضاد بعضها بالرفع .

قال أبو حاتم : وجدته كذلك في مصحف يحيى بن يعمر ، وهو أول من نقط المصاحف .

وتقدم في البقرة خلاف القراء في ضم الكاف من الأكل وسكونها .

والأكل بضم الهمزة المأكول كالنقض بمعنى المنقوض ، وبفتحها المصدر .

والظاهر من تفسير أكثر المفسرين للصنوان أن يكون قوله : صنوان ، صفة لقوله : ونخيل .

ومن فسره منهم بالمثل جعله وصفاً لجميع ما تقدم أي : أشكال ، وغيره إشكال .

قيل : ونظير هذه الكلمة قنو وقنوان ، ولا يوجد لهما ثالث ونص على الصنوان لأنها بمثال التجاور في القطع ، فظهر فيها غرابة اختلاف الأكل .

ومعنى بماء واحد : ماء مطر ، أو ماء بحر ، أو ماء نهر ، أو ماء عين ، أو ماء نبع لا يسيل على وجه الأرض .

وخص التفضيل في الأكل وإن كانت متفاضلة في غيره ، لأنه غالب وجوه الانتفاع من الثمرات .

ألا ترى إلى تقاربها في الأشكال ، والألوان ، والروائح ، والمنافع ، وما يجري مجرى ذلك ؟ قيل : نبه الله تعالى في هذه الآية على قدرته وحكمته ، وأنه المدبر للأشياء كلها ، وذلك أن الشجرة تخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا تتأخر عنه ولا تتقدم ، ثم يتصعد الماء في ذلك الوقت علواً علواً وليس من طبعه إلا التسفل ، يتفرق ذلك الماء في الورق والأغصان والثمر كل بقسطه وبقدر ما فيه صلاحه ، ثم تختلف طعوم الثمار والماء واحد ، والشجر جنس واحد .

وكل ذلك دليل على مدبر دبره وأحكمه ، لا يشبه المخلوقات .

قال الراجز :

والأرض فيها عبرة للمعتبر *** تخبر عن صنع مليك مقتدر

تسقى بماء واحد أشجارها *** وبقعة واحدة قرارها

والشمس والهواء ليس يختلف *** وأكلها مختلف لا يأتلف

لو أن ذا من عمل الطبائع *** أو أنه صنعة غير صانع

لم يختلف وكان شيئاً واحداً *** هل يشبه الأولاد إلا الوالدا

الشمس والهواء يا معاند *** والماء والتراب شيء واحد

فما الذي أوجب ذا التفاضلا *** إلا حكيم لم يرده باطلا

وقال الحسن : هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم ، كانت الأرض طينة واحدة فسطحها ، فصارت قطعاً متجاورات ، فنزل عليها ماء واحد من السماء فتخرج هذه زهرة وثمرة ، وتخرج هذه سبخة وملحاً وخبثاً .

وكذلك الناس خلقوا من آدم .

فنزلت عليهم من السماء مذكرة ، قربت قلوب وخشعت قلوب ، وقست قلوب ولهت قلوب .

وقال الحسن : ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان .

قال تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } انتهى ، وهو شبيه بكلام الصوفية .

إنّ في ذلك قال ابن عباس : في اختلاف الألوان والروائح والطعوم ، لآيات : لحججاً ودلالات لقوم يعقلون : يعلمون الأدلة فيستدلون بها على وحدانية الصانع القادر .

ولما كان الاستدلال في هذه الآية بأشياء في غاية الوضوح من مشاهدة تجاور القطع ، والجنات وسقيها وتفضيلها ، جاء ختمها بقوله : لقوم يعقلون ، بخلاف الآية التي قبلها ، فإن الاستدلال بها يحتاج إلى تأمل ومزيد نظر جاء ختمها بقوله لقوم يتفكرون .