قوله : { وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } العامة على رفع : " قِطَعٌ " " وجَنَّاتٌ " إمَّا على الابتداء ، وإما على الفاعلية بالجار قبله .
وقرىء " قِطَعاً متَجَاورَاتٍ " بالنصب ، وكذلك هي في بعض المصاحف على إضمار جعل . وقرأ الحسن : " وجَنَّاتِ " بكسر التَّاءِ وفيها أوجهٌ :
أحدها : أنه جر عطفاً على " كُلِّ الثَّمراتِ " .
الثاني : أنه نصب نسقاً على : " زَوحَيْنِ اثْنَينِ " قاله الزمخشري .
الثالث : أنه نصبه نسقاً على : " رَواسِيَ " .
الرابع : أنه نصبه بإضمار جعل ، وهو أولى لكثرة الفواصل في الأوجه قبله .
قال أبو البقاء : ولم يقرأ أحد منهم " وزَرْعاً " بالنصب " .
قوله : { وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } قرأ ابن كثيرٍن وأبو عمرو ، وحفص : بالرفع في الأربعة ، والباقون بالخفض ، فالرفع في " زَرْعٌ ونَخِيلٌ " للنسق على " قِطَعٌ " وفي " صِنْوانٌ " لكونه تابعاً ل " نَخِيلٌ " ، و " غَيْرُ " لعطفه عليه .
وعاب أبو حيَّان على ابن عطيَّة قوله : " عطفاً على : قِطَعٌ " . قال : وليست عبارة محررة ؛ لأنَّ فيها ما ليس بعطفٍ ، وهو " صِنوانٌ " " .
قال شهابُ الدين : " ومثل هذا [ غير معيب ] ؛ لأنَّه عطف محقق غاية ما فيه أنَّ بعض ذلك تابع ، فلا يقدحُ في هذه العبارة ، والخفض مراعاة ل " أعنابٍ " " .
وقال ابن عطيَّة : " عطفاً على " أعْنابٍ " ، وعابها أبو حيان بما تقدَّم وجوابه ما تقدَّم .
وقد طعن قومٌ على هذه القراءة ، وقالوا : ليس الزَّرعُ من الجنَّات ، وروي لك عن أبي عمر .
وقد أجيب عن ذلك : بأنَّ الجنَّة احتوت على النَّخيل ، والأعناب ، لقوله تعالى { جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } [ الكهف : 32 ] .
وقال أبو البقاءِ : " وقيل : المعنى ، ونبات زرع فعطفه على المعنى " .
قال شهاب الدين : " ولا أدري ما هذا الجوابُ ؛ لأنَّ الذي يمنعُ أن يكون الجنة من الزَّرعِ بمعنى أن يكون من نبات الزَّرعِ ، وأي فرق " . والصنوان : جمع صنوٍ كقنوان جمع قنو ، وقد تقدَّم تحقيق هذا التّنبيه في الأنعام .
و " الصِّنْوُ " : الفرع يجمعه وفرعاً آخر أصل واحد ، وأصله المثل ، وفي الحديث : " عمَّ الرَّجل صِنْوُ أبيه " ، أي : مثله ؛ أو لأنهما يجمعهما أصل واحدٌ والعامة على كسر الصاد .
وقرأ السلميُّ ، وابن مصرف ، وزيد بن عليٍّ : بضمها ، وهي لغة قيسٍ ، وتميم كذئب ، وذُؤبان .
وقرأ الحسنُ ، وقتادة : بفتحها ، وهو اسم جمعٍ لا جمع تكسير ؛ لأنه لس من أبنية " فعلان " ، ونظير " صنْوان " بالفتح " السَّعْدَان " هذا جمعه في الكثرةِ ، وأمَّا القلَّة ، فيجمع على " أصْنَاء " ك " جَمَل ، وأجْمَال " .
قوله : { يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ } قرأ ابنُ عامرٍ ، وعاصمٌ " يُسْقَى " بالياء من تحت أي يسقى بما ذكرنا ، والباقون بالتاء من فوق مراعاة للفظ ما تقدَّم ، وللتأنيث في قوله " وجَنَّاتٍ " ، ولقوله : " بَعْضَهَا " .
قوله " ونُفَصِّلُ " قرأة بالياء من تحت مبنيًّا للفاعل : الأخوان ، والباقون بنون العظمة ، ويحيى بن يعمر ، وأبو حيوة : " يُفَضَّلُ " بالياء مبنيًّا للمفعول و " بَعضُهَا " رفعاً .
وقال أبو حاتم : وجدته كذلك في مصحف يحيى بن يعمر ، وهو أوَّل من نقط المصاحف ، وتقدَّم [ الخلاف ] في الأكل في البقرةِ .
أظهرهما : أنَّه ظرفٌ [ ل " نُفَضِّلُ " ] .
والثاني : أنه حال من " بَعْضِهَا " ، أي : نُفَضِّلُ بعضها مأكولاً ، أي : وفيه الأكل ، قاله أبو البقاءِ .
وفيه بعد جهة المعنى ، والصناعة .
قوله : { وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } قال الأصمُّ : أرضٌ قريبةٌ من أرض أخرى واحدة طيبة ، وأخرى سبخة ، وأخرى رملة ، وأخرى حصباء وحصى ، وأخرى تكون حمراء ، وأخرى تكونُ سوداء .
وبالجملة : فاختلافُ بقاع الأرضِ في الارتفاع ، والانخفاضِ ، والطبعِ ، والخاصيةِ أمر معلوم .
" وجَنَّاتٍ " بساتين : { مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } تقدَّم الكلام على الصنو ، والصنوان ، وهي النخلات يجمعهن أصلٌ واحد ، " وغيْرُ صِنْوانٍ " هي النَّخلةُ المنفردةُ بأصلها .
قال المفسريون : الصنوان : المجتمع ، وغير الصنوان متفرق ، ولا فرق في الصنوانِ ، والقنوان بين التثنية والجمع إلاَّ في الإعرابِ ، وذلك أنَّ النُّونَ في التثنية مكسورةٌ غير منونة وفي الجمع منونة .
{ يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ } والماء : جسم رقيق مائع به حياة كلِّ نامٍ .
{ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل } في الثَّمر ، والطَّعم ، جاء في الحديث : " ونُفصِّلُ بعضهَا على بَعْضٍ في الأكلِ " قال : " الفارسي والدقلُ الحلوُ والحَامضُ " .
قال مجاهد : كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد .
وحكى الواحديُّ عن الزجاج : أنَّ الأكل : الثَّمر الذي يؤكل ، وحكى عن غيره أنَّ الأكل : المهيّأ للأكل .
قال ابنُ الخطيب : " وهاذ أولى ؛ لقوله تعالى في صفة الجنة : { أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا } [ الرعد : 35 ] : وهو عامٌّ في جميع المطعومات " .
قال الحسن : هذا مثلٌ ضرب لقلوب بني آدم ، كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمن ، فسطحها ؛ فصارت قطعاً متجاورات ، فينزل عليها الماءُ من السَّماءِ فتخرج هذه زهرتها ، وشجرتها ، ونباتها ، وثمرها ، وتخرجُ هذه سبخها وملحها وخبيثها ، وكلٌّ يسقى بماء واحد ، كذلك النًّاسُ خلقوا من آدم عليه الصلاة والسلام فتنزل عليهم من السَّماءِ تذكرة ، فترق قلوب قوم ، فتخشع ، وتقْسُو قلوب قوم فتلهو .
قال الحسنُ : والله ما جالس القرآن أحدٌ ، إلاَّ قام من عنده بزيادة ، أو نقصان ، قال الله تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] { إِنَّ فِي ذلك } الذي ذكر : { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } .
قال ابنُ الخطيب : المقصُودُ من هذه الآية : إقامة الدَّلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث في هذا العالم لأجل الاتصالات الفلكية الحركات الكوكبية من وجهين :
الأول : أنه جعل الأرض قطعاً مختلفة في الماهيَّة والطبيعة ، وهي مع ذلك متجاورةٌ ، فبعضها سبخةٌ ، وبضعها طيِّبةٌ ، وبعضها صلبة وبعضها حجريةٌ ، وبعضها رمليةٌ ، وتأثير الشمس ، وتأثير الكواكب في تلك القطع على السَّويَّة ؛ فدلَّ ذلك على أن اختلافها في صفاتها بتقدير العليم القدير .
الثاني : أنَّ القطعة الواحدة من الأرض تسقى بماءٍ واحدٍ ، ويكون تأثير الشمس فيها [ متساوياً ] ، ثمَّ إنَّ تلك الثمار تجيءُ مختلفة في اللَّون ، والطَّعم ، والطَّبيعة ، والخاصية ؛ حتى أنَّك قد تأخذ عنقوداً واحداً من العنب ، فتكون جميع حبَّاته ناضحة حلوة إلاَّ حبة واحدة منه ، فإنها تبقى حامضة يابسة ، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة الطبائع والأفلاك إلى الكل على السوية ، بل نقول ههنا ما هو أعجب منه ، وهو أنَّه يوجد في بعض أنواع الورد ما يكون في أحد وجهيه في غاية الحمرة ، والوجه الثاني في غاية السَّواد ، مع أنَّ ذلك الورد يكون في غاية الرقة والنُّعومة ، ويستحيل أن يقال : وصل تأثير الشمس إلى أحد طرفيه دون الثاني ، وهذا يدلُّ دلالة [ قطعية ] على أنَّ الكل بتقدير الفاعل المختار لا بسبب الأتصالات الفلكيَّة ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : { يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل } ، ولهذا قال : { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } .
قال القرطبي : وهذا الآية تدلُّ على بطلان القول بالطبع ، إذا لو كان ذلك بالماء ، والتراب ، والفاعل له الطبيعة ؛ لما وقع الاختلاف .
وذهب الكفرةُ لعنهم الله إلى أنَّ كلَّ حادث يحدث من نفسه لا من صانع وادعوا ذلك في الثِّمار الخارجة من الأشجار ، وأقرُّوا بحدوثها ، وأنكروا الأعراض ، وقالت فرقةُ بحصول الثِّمار لا من صانع ، وأثبتوا للأعراض فاعلاً .
والدَّليل على أنَّ الحادث لا بد له من محدثٍ : أنَّه يحدثُ في وقت ، ويحدث ما هو من جنسه في وقت آخر ، فلو كان حدوثه في وقته لاختصاصه به ؛ لوجب أن يحدث في وقته كل ما هو من جنسه ، وإذا بطل اختصاصه بوقته صح أنَّ اختصاصه لأجل مخصص خصصه به ، لولا تخصيصه إيَّاه لم يكن حدوثه في وقته أولى من حدوثه قبل ذلك أو بعده .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.