{ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } استئناف يبين مآل دعائه وعبادته غير الله تعالى ويقرر كون ذلك ضلالاً بعيداً من إزاحة ما عسى أن يتوهم من نفي الضرر عن معبوده بطريق المباشرة نفيه عنه بطريق التسبب أيضاً فالدعاء هنا بمعنى القول كما في قول عنترة
: يدعون عنترة الرماح كأنها *** أشطان بئر في لبان الأدهم
واللام داخلة في الجملة الواقعة مقولاً له وهي لام الابتداء ومن مبتدأ و { ضَرُّهُ أَقْرَبُ } مبتدأ وخبر والجملة صلة له ، وقوله تعالى : { لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير } جواب قسم مقدر واللام فيه جوابية وجملة القسم وجوابه خبر { مِنْ } أي يقول الكافر يوم القيامة يرفع صوت وصراخ حين يرى تضرره بمعبوده ودخوله النار بسببه ولا يرى منه أثراً مما كان يتوقعه منه من النفع لمن ضره أقرب تحققاً من نفعه : والله لبئس الذي يتخذ ناصراً ولبئس الذي يعاشر ويخالط فكيف بما هو ضرر محض عار عن النفع بالكلية ، وفي هذا من المبالغة في تقبيح حال الصنم والإمعان في ذمه ما لا يخفى ، وهو سر إيثار من على ما وإيراد صيغة التفضيل ، وهذا الوجه من الإعراب اختاره السجاوندي والمعنى عليه مما لا إشكال فيه .
وقد ذهب إليه أيضاً جار الله ، وجوز أن يكون { يَدْعُو } هنا إعادة ليدعو السابق تأكيد له وتمهيداً لما بعد من بيان سوء حال معبوده إثر معبوده إثر بيان سوء حال عبادته بقوله تعالى : { ذلك هُوَ الضلال البعيد } [ الحج : 12 ] كأنه قيل من جهته سبحانه بعد ذكر عبادة الكافر ما لا يضره ولا ينفعه يدعو ذلك ثم قيل لمن ضره بكونه معبوداً أقرب من نفعه بكونه شفعياً والله لبئس المولى الخ ، ولا تناقض عليه أيضاً إذ الضر المنفي ما يكون بطريق المباشرة والمثبت ما يكون بطريق التسبب ، وكذا النفع المنفي هو الواقعي والمثبت هو التوقعي ، قيل ولهذا الإثبات عبر بمن فإن الضر والنفع من شأنهما أن يصدرا عن العقلاء ، وفي إرشاد العقل السليم أن يراد كلمة من وصيغة التفضيل على تقدير أن يكون ذلك إخباراً من جهته سبحانه عن سوء حال معبود الكفرة للتهكم به . ولا مانع عندي أن يكون ذلك كما في التقدير الأول للمبالغة في قبيح حال الصنم والإمعان في ذمه .
واعترض ابن هشام على هذا الوجه بأن فيه دعوى خلاف الأصل مرتين إذ الأصل عدم التوكيد والأصل أن لا يفصل المؤكد عن توكيده ولاسيما في التوكيد اللفظي ، وقال الأخفش : إن { يَدْعُو } بمعنى يقول واللام للابتداء ومن موصول مبتدأ صلته الجملة بعده وخبره محذوف تقديره إله أو إلهي ، والجملة محية بالقول .
واعترض بأنه فاسد المعنى لأن هذا القول من الكافر إنما يكون في الدنيا وهو لا يعتقد فيها أن الأوثان ضرها أقرب من نفعها .
وأجيب بأن المراد إنكار قولهم بألوهية الأوثان إلا أن الله تعالى عبر عنها بما ذكر للتهكم . نعم الأولى أن يقدر الخبر مولى لأن قوله تعالى : { لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير } أدل عليه ، ومع هذا لا يخفى بعد هذا الوجه ، وقيل : { يَدْعُو } مضمن معنى يزعم وهي ملحقة بأفعال القلوب لكون الزعم قولاً مع اعتقاد . واللام ابتدائية معلقة للفعل ومن مبتدأ وخبرها محذوف كما في الوجه السابق ، والجملة في محل نصب بيدعو ، وإلى هذا الوجه أشار الفارسي ولا يخفى عليك ما فيه .
وقال الفراء : إن الالم دخلت في غير موضعها والتقدير يدعو من لضره أقرب من نفعه فمن في محل نصب بيدعو . وتعقبه أبو حيان وغيره بأنه بعيد لأن ما في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول ، وقال ابن الحاجب : قيل اللام زائدة للتوكيد ومن مفعول يدعو وليس بشيء لأن اللام المفتوحة لا تزاد بين الفعل ومفعوله لكن قوي القول بالزيادة هنا بقراءة عبد الله { يَدْعُو } من ضره بإسقاط اللام ، وقيل : { يَدْعُو } بمعنى يسمى { وَمِنْ } مفعوله الأول ومفعوله الثاني محذوف أي إلهاً ، ولا يخف عليك ما فيه ، وقيل : إن يدعو ليست عاملة فيما بعدها وإنما هي عاملة في ذلك قبلها وهو موصول بمعنى الذي ، ونقل هذا عن الفارسي أيضاً ، وهو على بعده لا يصح إلا على قول الكوفيين إذ يجيزون في اسم الإشارة مطلقاً أن يكون موصولاً ، وأما البصريون فلا يجيزون إلا في ذا بشرط أن يتقدمها الاستفهام بما أومن ، وقيل هي عاملة في ضمير محذوف راجع إلى ذلك أي يدعوه ، والجملة في موضع الحال والتقدير { ذلك هُوَ الضلال البعيد } مدعواً وفيه مع بعده أن { يَدْعُو } لا يقدر بمدعو وإنما يقدر بداعياً والذي يقدر بمدعو إنما هو يدعى المبني للمفعول ، وقيل : { يَدْعُو } عطف على { يدعو } [ الحج : 12 ] الأول وأسقط حرف العطف لقصد تعداد أحوال ذلك المذبذب واللام زائدة و { مِنْ } مفعول { يَدْعُو } وهي واقعة على العاقل والدعاء في الموضعين إما بمعنى العبادة وإما بمعنى النداء ، والمراد إما بيان حال طائفة منهم على معنى أنهم تارة يدعون ما لا يضر ولا ينفع وتارة يدعون من ضره أقرب من نفعه ، وأما بيان حال الجنس باعتبار ما تحته على معنى أن منهم من يدعو ما لا يضر ولا ينفع ومنهم من يدعو من ضره أقرب من نفعه وهو كما ترى ، وبالجملة أحسن الوجوه أولها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.