الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَدۡعُواْ لَمَن ضَرُّهُۥٓ أَقۡرَبُ مِن نَّفۡعِهِۦۚ لَبِئۡسَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَلَبِئۡسَ ٱلۡعَشِيرُ} (13)

قوله : { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } : فيه عشرةُ أوجه ، وذلك أنَّه : إمَّا بجَعْلِ " يَدْعُو " متسلِّطاً على الجملة مِنْ قولِه : { لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } أو لا . فإنْ جَعَلْنَاه مُتَسَلِّطاً عليها كان في سبعةُ أوجه ، أحدها : أنَّ " يَدْعُو " بمعنى يَقُوْل ، واللامُ للابتداء ، و " مَنْ " موصولةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتدء . و " ضَرُّه " مبتدأ ثانٍ و " أقربُ " خبرُه . وهذه الجملةُ صلةٌ للموصول ، وخبرُ الموصولِ محذوفٌ تقديرُه : يقول لَلَّذي ضَرُّه أقربُ من نَفْعِه إلهٌ أو إلهي أو نحوُ ذلك . والجملةُ كلُّها في محلٍّ نصبٍ ب " يَدْعُو " لأنَّه بمعنى يَقُول ، فهي محكيَّةٌ به . وهذا قولُ أبي الحسنِ . وعلى هذا فيكون قولُه : { لَبِئْسَ الْمَوْلَى } مستأنفاً ليس داخلاً في المَحْكيِّ قبلَه ؛ لأنَّ الكفار لا يقولون في أصنامِهم ذلك . وقد رَدَّ بعضُهم هذا القولَ بأنه فاسدُ المعنى ، والكافرُ لا يَعتقد في الأصنامِ أنَّ ضَرَّها أقربُ مِنْ نفعِها البتةَ .

الثاني : أنَّ " يَدْعُو " مُشَبَّهٌ بأفعالِ القلوب ؛ لأنَّ الدعاءَ لا يَصْدُرُ إلاَّ عن اعتقادٍ ، وأفعال القلوب تُعَلَّق ، ف " يَدْعُو " مُعَلَّقٌ أيضاً باللام . و " مَنْ " مبتدأٌ موصولٌ . والجملةُ بعده صلةٌ ، وخبرُه محذوفٌ على ما مَرَّ في الوجهِ قبلَه .

والجملة في محلِّ نصبٍ ، كما تكون كذلك بعد أفعالِ القلوب . الثالث : أَنْ يُضَمَّن يَدْعُو معنى يزعم ، فيُعَلَّق كما يُعَلَّقُ ، والكلامُ فيه كالكلامِ في الوجهِ الذي قبله . الرابع : أن الأفعالَ كلَّها يجوزُ أَنْ تُعَلَّق قلبيةً كانت أو غيرَها فاللامُ معلِّقَةٌ ل " يَدْعوا " ، وهو مذهبُ يونسَ . فالجملةُ بعده الكلامُ فيها كما تقدَّم .

الخامس : أنَّ " يَدْعُوا " بمعنى يُسَمِّي ، فتكونَ اللامُ مزيدةً في المفعولِ الأولِ وهو الموصولُ وصلتُه ، ويكون المفعولُ الثاني محذوفاً تقديرُه : يُسَمِّي الذي ضَرُّه أقربُ مِنْ نفعِه إلهاً ومعبوداً ونحو ذلك . السادس : أنَّ اللامَ مُزالَةٌِنْ موضِعها . والأصلُ : يَدْعُو مَنْ لَضَرُّه أقربُ . فقُدِّمَتْ مِنْ تأخيرٍ . وهذا قولُ الفراء . وقد رَدُّوا هذا بأنَّ ما في صلةِ الموصولِ لا يتقدَّمُ على الموصولِ . السابع : أنَّ اللامَ زائدةٌ في المفعول به وهو " مَنْ " . والتقديرُ : يَدْعُو مَنْ ضَرُّه أقرب . ف " مَنْ " موصولٌ ، والجملةُ بعدَها صلتُها ، والموصولُ هو المفعولُ ب " يَدْعُو " زِيْدتْ فيه اللامُ كزيادتِها في قولِه { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] في أحدِ القولين . وقد رُدَّ هذا بأنَّ زيادةَ اللام إنما تكونُ إذا كان العاملُ فَرْعاً ، أو بتقديم المعمول . وقرأ عبد الله " يَدْعُو مَنْ ضَرُّه " بعيرِ لامِ ابتداءٍ ، وهي مؤيدةٌ لهذا الوجهِ .

وإنْ لم تجعَلْه متسلِّطاً على الجملةِ بعدَه كان فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنَّ " يَدْعُو " الثاني توكيدٌ ل " يَدْعو " الأولِ فلا معمولَ له ، كأنه قيل : يَدْعو يَدْعو مِنْ دونِ الله الذي لا يَضُرُّه ولا ينفعه .

وعلى هذا فتكونُ الجملةُ مِنْ قولِه { ذلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ } معترضةً بين المؤكَّدِ والتوكيدِ ؛ لأنَّ فيها تَسْديداً وتأكيداً للكلام ، ويكون قولُه { لَمَنْ ضَرُّهُ } كلاماً مستأنفاً . فتكونُ اللامُ للابتداء و " مَنْ " موصولةٌ ، و " ضَرُّه " مبتدأ و " أقربُ " خبرُه . والجملةُ صلةٌ ، و " لَبِئْسَ " جوابٌ قسمٍ مقدر . وهذا القسمُ المقدرُ وجوابُه خبرُ المبتدأ الذي هو الموصول .

الثاني : أن يُجْعَلَ " ذلك " موصولاً بمعنى الذي . و " هو " مبتدأ ، و " الضلالُ " خبره والجملةُ صلةٌ . وهذا الموصولُ مع صلتِه في محلِّ نصبٍ مفعولاً ب " يَدْعو " أي : يدعو الذي هو الضلالُ . وهذا منقولٌ عن أبي علي الفارسي ، وليس هذا بماشٍ على رأي البصريين ؛ إذ لا يكونُ عندهم من أسماءِ الإِشارةِ موصولٌ إلاَّ " ذا " بشروطٍ ذكرْتُها فيما تقدَّم . وأمَّا الكوفيون فيُجيزون في أسماءِ الإِشارة مطلقاً أن تكونَ موصولةً ، وعلى هذا فيكونُ " لَمَنْ ضَرُّه أَقْرَبُ " مستأنفاً ، على ما تقدَّم تقريرُه .

والثالث : أن يُجْعَلَ " ذلك " مبتدأ . و " هو " : جوَّزوا فيه أن يكونَ بدلاً أو فَصْلاً أو مبتدأً ، و " الضلالُ " خبرُ " ذلك " أو خبرُ " هو " على حَسَبِ الخلافِ في " هو " و " يَدْعُو " حالٌ ، والعائدُ منه محذوفٌ تقديرُه : يَدْعوه ، وقدَّروا هذا الفعلَ الواقعَ موقعَ الحال ب " مَدْعُوَّاً " قال أبو البقاء : " وهو ضعيفٌ " ، ولم يُبَيِّنْ وجه ضَعْفِه . وكأنَّ وجهَه أنَّ " يَدْعُو " مبنيٌّ للفاعلِ فلا يناسِبُ أن تُقَدَّرَ الحالُ الواقعةُ موقعَه اسمَ مفعولٍ ، بل المناسِبُ أن تُقَدَّرَ اسمَ فاعل ، فكان ينبغي أَنْ يُقَدِّروه : داعياً ولو كان التركيبُ " يُدْعَى " مبنياً للمفعول لَحَسُن تقديرُهم مَدْعُوَّاً . ألا ترى أنَّك إذا قلتَ : " جاء زيدٌ يضربُ " كيف تُقَدِّره ب " ضارب " لا ب مَضْروب .

والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ ، وتقديرُه : لبِئْسَ المولى ولبئس العشيرُ ذلك المَدْعُوُّ .