التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{يَدۡعُواْ لَمَن ضَرُّهُۥٓ أَقۡرَبُ مِن نَّفۡعِهِۦۚ لَبِئۡسَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَلَبِئۡسَ ٱلۡعَشِيرُ} (13)

ثم أضاف - سبحانه - إلى تبكيت هذا المذبذب وتقريعه تقريعاً آخر فقال : { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير } .

والمولى : هو كل من انعقد بينك وبينه سبب ، يجعلك تواليه ويواليك ، وتناصره ويناصرك . والعشير : هو من يعاشرك ويخالطك فى حياتك .

أى : يعبد هذا الإنسان الجاهل المضطرب ، معبوداً ضرره أقرب من منفعته ، لبئس الناصر ولبئس الصاحب هذا المعبود .

فإن قيل : كيف نجمع بين هذه الآية التى جعلت المعبود الباطل ضرره أقرب من نفعه ، وبين الآية السابقة عليها والتى نفت الضر والنفع نفياً تاماً .

وقد أجاب العلماء عن هذا التساؤل بإجابات منها : أن لفظ " يدعو " فى الآية الثانية بمعنى يقول .

وقد صدر الألوسى تفسيره للآية بهذا الرأى فقال ما ملخصه : " قوله - تعالى - { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } . استئناف يبين مآل دعائه وعبادته غير الله - تعالى - ويقرر كون ذكل ضلالاً بعيداً . فالدعاء هنا بمعنى القول .

ِأى : يقول الكافر يوم القيامة برفع صنت ، وصراخ حين يرى تضرره بمعبوده ودخوله النار بسببه ، ولا يرى منه أثراً مما كان يتوقعه منه من نفع أو دفع ضر : والله لبئس الذى يتخذ ناصراً - من دون الله - ولبئس الذى يعاشر ويخالط ، فكيف بما هو ضرر محض ، عار من النفع بالكلية ، وفى هذا من المبالغة فى تقبيح حال الصنم والإمعان فى ذمه ما لا يخفى . . . " .

ومنها ما ذكره الإمام القرطبى فقال : قوله - تعالى - { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } أى : هذا الذى انقلب على وجهه يدعو من ضره أدنى من نفعه ، أى : فى الآخرة ، لأنه بعبادته دخل النار . ولم يرد منه نفعاً أصلاً ، ولكنه قال : ضره أقرب من نفعه ، ترفيعاً للكلام ، كقوله - تعالى - : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ومنها : ما ذكره بعض العلماء من أن الآية الأولى فى شأن الذين يعبدون الأصنام ، إذ الأصنام لا تنفع من عبدها ، ولا ضر من كفر بها ، ولذا قال فيها : ما لا يضره وما لا ينفعه ، والقرينة على أن المراد بذلك الأصنام ، التعبير بلفظة " ما " فى قوله : { مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ } لأن لفظ " ما " يأتى - غالباً - لما لا يعقل .

والأصنام لا تعقل .

أما الآية الثانية فهى فى شأن من عبد بعض الطغاة من دون الله ، كفرعون القائل لقومه : " ما علمت لكم من إله غيرى " فإن فرعون وأمثاله من الطغاة المعبودين ، قد يغدقون نعم الدنيا على عابديهم . وهذا النفع الدنيوى بالنسبة لما سيلاقونه من عذاب لا شىء . فضر هذا المعبود بخلود عابده فى النار . أقرب من نفعه بعرض قليل زائل من حطام الدنيا .

والقرينة على أن المراد بالمعبود الباطل فى الآية الثانية بعض الطغاة الذين هم من جنس العقلاء : هى التعبير " بمن " التى تأتى - غالباً - لمن يعقل ، كما قال - تعالى - : { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ . . } .

ويبدو لنا أن هذا القول الأخير له وجه من القبول .

وبذلك نرى السورة الكريمة قد ساقت لنا نماذج من أحوال الناس فى هذه الحياة . لكى يحذرهم المؤمنون ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حى عن بينة .