اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَدۡعُواْ لَمَن ضَرُّهُۥٓ أَقۡرَبُ مِن نَّفۡعِهِۦۚ لَبِئۡسَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَلَبِئۡسَ ٱلۡعَشِيرُ} (13)

قوله : { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } . فيه عشرة أوجه ، وذلك أنه إما أن يجعل «يَدْعُو » متسلطاً على{[30397]} الجملة من قوله : { لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } أو لا ، فإن{[30398]} جعلناه متسلطاً عليها كان فيه سبعة أوجه :

الأول : أنّ «يَدْعُو » بمعنى يقول ، واللام للابتداء و «من » موصولة في محل رفع بالابتداء ، و «ضَرُّه »{[30399]} مبتدأ ثان ، و «أَقْرَب » خبره ، وهذه الجملة صلة للموصول ، وخبر الموصول محذوف تقديره : يقول{[30400]} للذي ضره أقرب من نفعه : إله ، أو إلهي ، ونحو ذلك ، والجملة كلها في محل نصب ب «يَدْعُو » لأنه بمعنى يقول ، فهي محكية به . وهذا قول أبي الحسن{[30401]} وعلى ( هذا فيكون قوله : «لَبِئْسَ المَوْلَى » مستأنفاً ليس داخلاً في المحكي قبله ، لأن الكفار لا يقولون في أصنامهم ذلك{[30402]} ){[30403]} . ( ورد بعضهم هذا الوجه بأنه فاسد المعنى ){[30404]} إذ الكافر لا يعتقد في الأصنام أنَّ ضرّها أقرب من نفعها البتة{[30405]} .

الثاني : أنَّ «يَدْعُو » مشبه بأفعال القلوب ، لأن الدعاء لا يصدر إلا عن اعتقاد وأفعال القلوب تعلق ف «يَدْعُو » معلق أيضاً باللام ، و «لَمَنْ » مبتدأ موصول ، والجملة بعده صلة ، وخبره{[30406]} محذوف على ما مر في الوجه قبله ، والجملة في محل نصب كما يكون كذلك بعد أفعال القلوب {[30407]} .

الثالث : أن يضمن «يَدْعُو » معنى يزعم ، فتعلق كما تعلق ، والمعنى{[30408]} . والكلام فيه كالكلام في الوجه الذي قبله{[30409]} .

الرابع : أنَّ الأفعال كلها يجوز أن تعلق قلبية كانت أو غيرها ، فاللام معلقة ل «يَدْعُو » وهو مذهب يونس{[30410]} ، فالجملة بعده والكلام{[30411]} فيها كما تقدم .

الخامس : أن «يَدْعُو » بمعنى يسمي ، فتكون اللام مزيدة في{[30412]} المفعول{[30413]} الأول ، وهو الموصول وصلته ، ويكون المفعول الثاني محذوفاً تقديره : يسمي{[30414]} الذي ضره أقرب من نفعه إلهاً ومعبوداً ونحو ذلك {[30415]} .

السادس : أن اللام مزالة{[30416]} من موضعها ، والأصل : يدعو من لضره أقرب ، فقدمت من تأخر . وهذا قول الفراء{[30417]} . ورد هذا بأن ما في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول{[30418]} .

السابع : أن اللازم زائدة في المفعول به{[30419]} وهو «من » التقدير : يدعو من ضره أقرب ، ف «من » موصولة{[30420]} والجملة بعدها صلتها ، والموصول هو المفعول{[30421]} ب «يدعو » زيدت فيه اللام كزيادتها في قوله : «رَدِفَ لَكُمْ »{[30422]} في أحد القولين ورد هذا بأن زيادة اللام إنما تكون إذا كان العامل فرعاً أو تقدم المفعول . وقرأ عبد الله «يَدْعُو مَنْ ضَرُّهُ » بغير لام الابتداء ، وهي مؤيدة{[30423]} لهذا الوجه . {[30424]} وإن لم نجعله متسلطاً على الجملة بعده كان فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أن «يَدْعُو » الثاني توكيد ل «يدعو » الأول{[30425]} فلا معمول له ، كأنه قيل : ( يدعو يدعو ){[30426]} من دون الله الذي لا يضره ولا ينفعه ، فعلى هذا تكون{[30427]} الجملة من قوله { ذلك هو الضلال } معترضة بين المؤكد والمؤكد ، لأن فيها تشديداً وتأكيداً ، ويكون قوله : «لَمَنْ ضَرُّهُ » كلاماً مستأنفاً ، فتكون اللام للابتداء ، و «مَنْ » موصولة ، و «ضَرُّهُ » مبتدأ ، و «أقرب » خبره ، والجملة صلة ، و «لَبِئْسَ » جواب قسم مقدر ، وهذا القسم المقدر وجوابه خبر للمبتدأ الذي هو الموصول {[30428]} .

الثاني : أن يجعل «ذلك » موصولاً بمعنى{[30429]} الذي ، و «هو » مبتدأ ، و «الضلال » خبره ، والجملة صلة له{[30430]} ، وهذا الموصول مع صلته في محل نصب مفعولاً ب «يَدْعُو » ، أي : يَدْعُو الذي هو الضلال{[30431]} وهذا منقول عن أبي علي الفارسي{[30432]} .

وليس هذا ماش على رأي البصريين إذ لا يكون عندهم من أسماء الإشارة موصول إلا «ذا » بشروط تقدم ذكرها . ( وأما الكوفيون فيجيزون في أسماء الإشارة مطلقاً ){[30433]} أن تكون موصولة{[30434]} ، وعلى هذا فيكون { لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ } مستأنفاً على ما تقدم .

الثالث : أن يجعل «ذَلِكَ » مبتدأ و «هُوَ » جوزوا فيه أن يكون بدلاً أو فصلاً أو مبتدأ ، و «الضلال » خبر «ذَلِكَ » أو خبر «هُوَ »{[30435]} على حسب الخلاف في «هُوَ » و «يَدْعُو » حال ، والعائد منه محذوف تقديره : يدعوه وقدروا هذا الفعل الواقع موقع الحال ب «مدعوًّا ) {[30436]} {[30437]} .

قال أبو البقاء : وهو ضعيف{[30438]} ، ولم يبين وجه ضعفه .

وكأن وجهه أن » يدعو «مبني للفاعل فلا يناسب أن يقدر الحال الواقعة موقعه اسم مفعول بل المناسب أن يقدر اسم فاعل ، فكان ينبغي أن يقدروه داعياً ، ولو كان التركيب يدعى مبنياً للمفعول لحسن تقديرهم : مدعو{[30439]} ، ألا ترى أنك إذا قلت : جاء زيد يضرب ، كيف يقدرونه بضارب لا بمضروب {[30440]} .

فصل{[30441]}

اختلفوا في المراد بقوله : { يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } . قيل : المراد رؤساؤهم الذين كانوا يفزعون إليهم ، لأنه يصح منهم أن يضروا ، ويؤيد{[30442]} هذا أن الله تعالى بين في الآية الأولى أن الأوثان لا تضرهم ولا تنفعهم ، وهذه الآية تقتضي{[30443]} كون المذكور{[30444]} فيها ضاراً نافعاً ، فلو كان المذكور في هذه الآية هو الأوثان لزم التناقض .

وقيل المراد الأوثان ، ثم أجابوا عن التناقض بوجوه :

أحدها : أنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها ، ولكن عبادتها سبب{[30445]} الضرر ، وذلك يكفي في إضافة الضرر إليها كقوله{[30446]} تعالى : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ{[30447]} الناس }{[30448]} [ إبراهيم : 36 ] فأضاف الإضلال إليهم من حيث كانوا سبباً للضلال ، فكذلك هنا نفى الضرر عنهم في الآية الأولى ، بمعنى كونها فاعلة ، وأضاف الضرر إليهم في هذه الآية بمعنى أن عبادتها سبب الضرر .

وثانيها : كأنه سبحانه بيَّن في الآية الأولى أنها في الحقيقة لا تضر ولا تنفع ثم قال في الآية الثانية : ولو سلمنا كونها ضارة نافعة لكان ضرها أكثر من نفعها .

وثالثها : أن الكفار إذا أنصفوا{[30449]} علموا أنه لا يحصل منها لا نفع ولا ضرر في الدنيا ، ثم إنهم في الآخرة يشاهدون العذاب العظيم بسبب عبادتها ، فكأنهم{[30450]} يقولون لها في الآخرة إن ضركم أعظم من نفعكم .

قوله : { لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير } المولى هو الناصر ، والعشير الصاحب والمعاشر .

والمخصوص بالذم محذوف تقديره : لبئس المولى ولبئس العشير ذلك المدعو . واعلم أن هذا الوصف بالرؤساء أليق ، لأنه لا يكاد يستعمل في الأوثان{[30451]} ، فبين تعالى أنهم يعدلون عن عبادة الله الذي هو خير الدنيا والآخرة إلى عبادة الأصنام وإلى طاعة الرؤساء بقوله تعالى{[30452]} : { لَبِئْسَ المولى } والمراد ذم ما انتصروا بهم {[30453]} .


[30397]:على: مكرر في الأصل.
[30398]:في ب: وإن.
[30399]:في ب: وضر.
[30400]:في الأصل: ويقول.
[30401]:انظر معاني القرآن للأخفش 2/635 – 636 وانظر أيضا معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/416، مشكل إعراب القرآن 2/93، البيان 2/170، التبيان 2/935 البحر المحيط 6/356.
[30402]:انظر التبيان 2/935، البحر المحيط 6/356.
[30403]:ما بين القوسين سقط من الأصل.
[30404]:ما بين القوسين سقط من ب.
[30405]:انظر البحر المحيط 6/356.
[30406]:في ب: وجره وهو تحريف.
[30407]:انظر التبيان 2/935، البحر المحيط 6/356.
[30408]:والمعنى سقط من ب.
[30409]:انظر التبيان 2/935 البحر المحيط 6/356.
[30410]:سبق أن ذكرنا مذهب يونس في أن التعليق غير مختص بأفعال القلوب، بل يكون فيها وفي غيرها.
[30411]:في ب: الكلام.
[30412]:في ب: و.
[30413]:في الأصل: الأفعال.
[30414]:في ب: ويسمى.
[30415]:انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/416، البحر المحيط 6/356.
[30416]:في ب: من آلة. وهو تحريف.
[30417]:معاني القرآن 2/217، ونسب مكي في هذا الوجه في مشكل إعراب القرآن 2/93، إلى الكسائي وانظر أيضا البيان 2/170، والتبيان 2/935، البحر المحيط 6/356 – 357.
[30418]:انظر التبيان 2/935، البحر المحيط 6/357.
[30419]:به: سقط من الأصل.
[30420]:في الأصل: موصول.
[30421]:هو المفعول: سقط من الأصل.
[30422]:من قوله تعالى: {قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون} [النمل: 72]. والاستدلال بالآية على أن اللام في قوله "لكم" زائدة في المفعول به، ويجوز أن لا تكون اللام زائدة ويجعل الفعل على معنى دنا لكم، أو قرب من أجلكم والفاعل بعض. المغني 1/215، التبيان 2/1013.
[30423]:في الأصل: وهو مئيد. وهو تحريف.
[30424]:انظر البحر المحيط 6/357.
[30425]:[الحج: 12] {يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه}.
[30426]:ما بين القوسين في ب: يدعو.
[30427]:في ب: وعلى هذا فتكون.
[30428]:انظر معاني القرآن للفراء 2/218، الكشاف 3/27، البيان 2/170، التبيان 2/935، البحر المحيط 6/356.
[30429]:في ب: يعني.
[30430]:في الأصل بعد قوله: والجملة صلة له: و"لبئس" جواب قسم مقدر وهذا القسم المقدر وجوابه خبر للمبتدأ "الذي"، يبدو أن هذا سهو من الناسخ فهذا الكلام موجود في الوجه الأول.
[30431]:انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/416، التبيان 2/935، البحر المحيط 6/356.
[30432]:انظر البحر المحيط 6/356.
[30433]:ما بين القوسين مكرر في ب مع زيادة تقدم ذكرها.
[30434]:تقدم الحديث عن مذهب البصريين والكوفيين في استعمال أسماء الإشارة موصولة عند الحديث عن قوله تعالى: {وما تلك بيمينك يا موسى} [طه: 17].
[30435]:في ب: هن. وهو تحريف.
[30436]:انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/415 – 416، التبيان 2/935، البحر المحيط 6/356.
[30437]:ما بين القوسين في ب: وهو تحريف.
[30438]:التبيان 2/935.
[30439]:في ب: يدعو. وهو تحريف.
[30440]:انظر البحر المحيط 6/356.
[30441]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 23/17.
[30442]:في ب: ويؤيدوا. وهو تحريف.
[30443]:في ب: مقتضى. وهو تحريف.
[30444]:في ب: المذكورين.
[30445]:في ب: بب. وهو تحريف.
[30446]:في ب: لقوله
[30447]:في ب: ومن. وهو تحريف.
[30448]:[إبراهيم: 36].
[30449]:أنصفوا: سقط من ب.
[30450]:في ب: وكأنهم.
[30451]:في ب: يستعمل الأوثان. وهو تحريف.
[30452]:تعالى: سقط من الأصل.
[30453]:انظر الفخر الرازي 23/18.