قوله : { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } . فيه عشرة أوجه ، وذلك أنه إما أن يجعل «يَدْعُو » متسلطاً على{[30397]} الجملة من قوله : { لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } أو لا ، فإن{[30398]} جعلناه متسلطاً عليها كان فيه سبعة أوجه :
الأول : أنّ «يَدْعُو » بمعنى يقول ، واللام للابتداء و «من » موصولة في محل رفع بالابتداء ، و «ضَرُّه »{[30399]} مبتدأ ثان ، و «أَقْرَب » خبره ، وهذه الجملة صلة للموصول ، وخبر الموصول محذوف تقديره : يقول{[30400]} للذي ضره أقرب من نفعه : إله ، أو إلهي ، ونحو ذلك ، والجملة كلها في محل نصب ب «يَدْعُو » لأنه بمعنى يقول ، فهي محكية به . وهذا قول أبي الحسن{[30401]} وعلى ( هذا فيكون قوله : «لَبِئْسَ المَوْلَى » مستأنفاً ليس داخلاً في المحكي قبله ، لأن الكفار لا يقولون في أصنامهم ذلك{[30402]} ){[30403]} . ( ورد بعضهم هذا الوجه بأنه فاسد المعنى ){[30404]} إذ الكافر لا يعتقد في الأصنام أنَّ ضرّها أقرب من نفعها البتة{[30405]} .
الثاني : أنَّ «يَدْعُو » مشبه بأفعال القلوب ، لأن الدعاء لا يصدر إلا عن اعتقاد وأفعال القلوب تعلق ف «يَدْعُو » معلق أيضاً باللام ، و «لَمَنْ » مبتدأ موصول ، والجملة بعده صلة ، وخبره{[30406]} محذوف على ما مر في الوجه قبله ، والجملة في محل نصب كما يكون كذلك بعد أفعال القلوب {[30407]} .
الثالث : أن يضمن «يَدْعُو » معنى يزعم ، فتعلق كما تعلق ، والمعنى{[30408]} . والكلام فيه كالكلام في الوجه الذي قبله{[30409]} .
الرابع : أنَّ الأفعال كلها يجوز أن تعلق قلبية كانت أو غيرها ، فاللام معلقة ل «يَدْعُو » وهو مذهب يونس{[30410]} ، فالجملة بعده والكلام{[30411]} فيها كما تقدم .
الخامس : أن «يَدْعُو » بمعنى يسمي ، فتكون اللام مزيدة في{[30412]} المفعول{[30413]} الأول ، وهو الموصول وصلته ، ويكون المفعول الثاني محذوفاً تقديره : يسمي{[30414]} الذي ضره أقرب من نفعه إلهاً ومعبوداً ونحو ذلك {[30415]} .
السادس : أن اللام مزالة{[30416]} من موضعها ، والأصل : يدعو من لضره أقرب ، فقدمت من تأخر . وهذا قول الفراء{[30417]} . ورد هذا بأن ما في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول{[30418]} .
السابع : أن اللازم زائدة في المفعول به{[30419]} وهو «من » التقدير : يدعو من ضره أقرب ، ف «من » موصولة{[30420]} والجملة بعدها صلتها ، والموصول هو المفعول{[30421]} ب «يدعو » زيدت فيه اللام كزيادتها في قوله : «رَدِفَ لَكُمْ »{[30422]} في أحد القولين ورد هذا بأن زيادة اللام إنما تكون إذا كان العامل فرعاً أو تقدم المفعول . وقرأ عبد الله «يَدْعُو مَنْ ضَرُّهُ » بغير لام الابتداء ، وهي مؤيدة{[30423]} لهذا الوجه . {[30424]} وإن لم نجعله متسلطاً على الجملة بعده كان فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أن «يَدْعُو » الثاني توكيد ل «يدعو » الأول{[30425]} فلا معمول له ، كأنه قيل : ( يدعو يدعو ){[30426]} من دون الله الذي لا يضره ولا ينفعه ، فعلى هذا تكون{[30427]} الجملة من قوله { ذلك هو الضلال } معترضة بين المؤكد والمؤكد ، لأن فيها تشديداً وتأكيداً ، ويكون قوله : «لَمَنْ ضَرُّهُ » كلاماً مستأنفاً ، فتكون اللام للابتداء ، و «مَنْ » موصولة ، و «ضَرُّهُ » مبتدأ ، و «أقرب » خبره ، والجملة صلة ، و «لَبِئْسَ » جواب قسم مقدر ، وهذا القسم المقدر وجوابه خبر للمبتدأ الذي هو الموصول {[30428]} .
الثاني : أن يجعل «ذلك » موصولاً بمعنى{[30429]} الذي ، و «هو » مبتدأ ، و «الضلال » خبره ، والجملة صلة له{[30430]} ، وهذا الموصول مع صلته في محل نصب مفعولاً ب «يَدْعُو » ، أي : يَدْعُو الذي هو الضلال{[30431]} وهذا منقول عن أبي علي الفارسي{[30432]} .
وليس هذا ماش على رأي البصريين إذ لا يكون عندهم من أسماء الإشارة موصول إلا «ذا » بشروط تقدم ذكرها . ( وأما الكوفيون فيجيزون في أسماء الإشارة مطلقاً ){[30433]} أن تكون موصولة{[30434]} ، وعلى هذا فيكون { لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ } مستأنفاً على ما تقدم .
الثالث : أن يجعل «ذَلِكَ » مبتدأ و «هُوَ » جوزوا فيه أن يكون بدلاً أو فصلاً أو مبتدأ ، و «الضلال » خبر «ذَلِكَ » أو خبر «هُوَ »{[30435]} على حسب الخلاف في «هُوَ » و «يَدْعُو » حال ، والعائد منه محذوف تقديره : يدعوه وقدروا هذا الفعل الواقع موقع الحال ب «مدعوًّا ) {[30436]} {[30437]} .
قال أبو البقاء : وهو ضعيف{[30438]} ، ولم يبين وجه ضعفه .
وكأن وجهه أن » يدعو «مبني للفاعل فلا يناسب أن يقدر الحال الواقعة موقعه اسم مفعول بل المناسب أن يقدر اسم فاعل ، فكان ينبغي أن يقدروه داعياً ، ولو كان التركيب يدعى مبنياً للمفعول لحسن تقديرهم : مدعو{[30439]} ، ألا ترى أنك إذا قلت : جاء زيد يضرب ، كيف يقدرونه بضارب لا بمضروب {[30440]} .
فصل{[30441]}
اختلفوا في المراد بقوله : { يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } . قيل : المراد رؤساؤهم الذين كانوا يفزعون إليهم ، لأنه يصح منهم أن يضروا ، ويؤيد{[30442]} هذا أن الله تعالى بين في الآية الأولى أن الأوثان لا تضرهم ولا تنفعهم ، وهذه الآية تقتضي{[30443]} كون المذكور{[30444]} فيها ضاراً نافعاً ، فلو كان المذكور في هذه الآية هو الأوثان لزم التناقض .
وقيل المراد الأوثان ، ثم أجابوا عن التناقض بوجوه :
أحدها : أنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها ، ولكن عبادتها سبب{[30445]} الضرر ، وذلك يكفي في إضافة الضرر إليها كقوله{[30446]} تعالى : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ{[30447]} الناس }{[30448]} [ إبراهيم : 36 ] فأضاف الإضلال إليهم من حيث كانوا سبباً للضلال ، فكذلك هنا نفى الضرر عنهم في الآية الأولى ، بمعنى كونها فاعلة ، وأضاف الضرر إليهم في هذه الآية بمعنى أن عبادتها سبب الضرر .
وثانيها : كأنه سبحانه بيَّن في الآية الأولى أنها في الحقيقة لا تضر ولا تنفع ثم قال في الآية الثانية : ولو سلمنا كونها ضارة نافعة لكان ضرها أكثر من نفعها .
وثالثها : أن الكفار إذا أنصفوا{[30449]} علموا أنه لا يحصل منها لا نفع ولا ضرر في الدنيا ، ثم إنهم في الآخرة يشاهدون العذاب العظيم بسبب عبادتها ، فكأنهم{[30450]} يقولون لها في الآخرة إن ضركم أعظم من نفعكم .
قوله : { لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير } المولى هو الناصر ، والعشير الصاحب والمعاشر .
والمخصوص بالذم محذوف تقديره : لبئس المولى ولبئس العشير ذلك المدعو . واعلم أن هذا الوصف بالرؤساء أليق ، لأنه لا يكاد يستعمل في الأوثان{[30451]} ، فبين تعالى أنهم يعدلون عن عبادة الله الذي هو خير الدنيا والآخرة إلى عبادة الأصنام وإلى طاعة الرؤساء بقوله تعالى{[30452]} : { لَبِئْسَ المولى } والمراد ذم ما انتصروا بهم {[30453]} .