روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلٗا فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَٰكِسُونَ وَرَجُلٗا سَلَمٗا لِّرَجُلٍ هَلۡ يَسۡتَوِيَانِ مَثَلًاۚ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (29)

{ ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون } إيراد لمثل من الأمثال القرآنية بعد بيان أن الحكمة في ضربها هو التذكر والاتعاظ بها وتحصيل التقوى ، والمراد بضرب المثل ههنا تطبيق حالة عجيبة بأخرى مثلها وجعلها مثلها ، و { مَثَلاً } مفعول ثان لضرب و { رَجُلاً } مفعوله الأول أخر عن الثاني للتشويق إليه وليتصل به ما هو من تتمته التي هي العمدة في التمثيل أو { مَثَلاً } مفعول ضرب و { رَجُلاً } الخ بدل منه بدل منه بدل كل من كل .

وقال الكسائي : انتصب { رَجُلاً } على إسقاط الخافض أي مثل في رجل وقيل غير ذلك وقد تقدم الكلام في نظيره .

و { فِيهِ } خبر مقدم و { شُرَكَاء } مبتدأ و { متشاكسون } صفته والنكرة وإن وصفت يحسن تقديم خبرها . والجملة صفة { رَجُلاً } والرابط الهاء أو الجار والمجرور في موضع الصفة له و { شُرَكَاء } مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على الموصوف ، وقيل { فِيهِ } صلة شركاء وهو مبتدأ خبره متشاكسون ، وفيه أنه ليس لتقديمه نكتة ظاهرة .

والمعنى ضرب الله تعالى مثلاً للمشرك حسبما يقول إليه مذهبه من ادعاء كل من معبوديه عبوديته عبداً يتشارك فيه جماعة متشاجرون لشكاسة أخلاقهم وسوء طبائعهم يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المتباينة في تحيره وتوزع قلبه { وَرَجُلاً } أي وضرب للموحد مثلاً رجلاً { سلاما } أي خالصاً { لِرَجُلٍ } فرد ليس لغيره سبيل إليه أصلاً فهو في راحة عن التحير وتوزع القلب وضرب الرجل مثلاً لأنه أفطن لما شقى به أو سعد فإن الصبي والمرأة قد يغفلان عن ذلك .

وقرأ عبد الله . وابن عباس . وعكرمة . ومجاهد . وقتادة . الزهري . والحسن بخلاف عنه . والجحدري . وابن كثير . وأبو عمرو { *سالماً } اسم فاعل من سلم أي خالصاً له من الشركة . وقرأ ابن جبير { قِيلاً سلاما } بكسر السين وسكون اللام ، وقرئ { سلاما } بفتح فسكون وهما مصدران وصف بهما مبالغة في الخلوص من الشركة .

وقرئ { ورجل سالم } برفعهما أي وهناك رجل سالم ، وجوز أن لا يقدر شيء ويكون رجل مبتدأ وسالم خبره لأنه موضع تفصيل إذ قد تقدم ما يدل عليه فيكون كقول امرىء القيس :

إذا ما بكى من خلفها انحرفت له *** بشق وشق عندنا لم يحول

وقوله تعالى : { والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } إنكار واستبعاد لاستوائهما ونفي له على أبلغ وجه وآكده وإيذان بأن ذلك من الجلاء والظهور بحيث لا يقدر أحد أن يتفوه باستوائهما أو يتلعثم في الحكم بتباينهما ضرورة أن أحدهما في لوم وعناء والآخر في راحة بال ورضاء ، وقيل ضرورة أن أحدهما في أعلى عليين والآخر في أسفل سافلين ، وأياً ما كان فالسر في إبهام الفاضل والمفضول الإشارة إلى كمال الظهور عند من له أدنى شعور .

وانتصاب { مَثَلاً } على التمييز المحول عن الفاعل إذ التقدير هل يستوي مثلهما وحالهما ، والاقتصار في التمييز على الواحد لبيان الجنس والاقتصار عليه أولاً في قوله تعالى : { ضَرَبَ الله مَثَلاً } وقرئ { مثلين } أي هل يستوي مثلاهما وحالاهما ، وثني مع أن المقصود من التمييز حاصل بالإفراد من غير لبس لقصد الإشعار بمعنى زائد وهو اختلاف النوع ، وجوز أن يكون ضمير يستويان للمثلين لأن التقدير فيما سبق مثل رجل ومثل رجل أي هل يستوي المثلان مثلين وهو على نحو كفى بهما رجلين وهو من باب لله تعالى دره فارساً ويرجع ذلك إلى هل يستويان رجلين فيما ضرب من المثال ولما كان المثل بمعنى الصفة العجيبة التي هي كالمثل كان المعنى هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية ، وقوله تعالى : { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ } تقرير لما قبله من نفي الاستواء بطريق الاعتراض وتنبيه للموحدين على أن مالهم من المزية بتوفيق الله تعالى وأنها نعمة جليلة تقتضي الدوام على حمده تعالى وعبادته أو على أن بيانه تعالى بضرب المثل أن لهم المثل الأعلى وللمشركين مثل السوء صنع جميل ولطف تام منه عز وجل مستوجب لحمده تعالى وعبادته ، وقوله تعالى : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } إضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور إلى بيان أن أكثر الناس وهم المشركون لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره أو ليسوا من ذوي العلم فلا يعلمون ذلك فيبقون في ورطة الشرك والضلال ، وقيل المراد أنهم لا يعلمون أن الكل منه تعالى وأن المحامد إنما هي له عز وجل فيشركون به غيره سبحانه فالكلام من تتمة { الحمد للَّهِ } ولا اعتراض ، ولا يخفى أن بناء الكلام على الاعتراض كما سمعت أولى

ومن باب الإشارة : { ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون } يتجاذبونه وهم شغل الدنيا وشغل العيال وغير ذلك من الأشغال { وَرَجُلاً سَلَماً لّرَجُلٍ } [ الزمر : 29 ] إشارة إلى المؤمن الخالص الذي لم يشغله شيء عن مولاه عز شأنه