تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلٗا فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَٰكِسُونَ وَرَجُلٗا سَلَمٗا لِّرَجُلٍ هَلۡ يَسۡتَوِيَانِ مَثَلًاۚ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (29)

قوله تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا } أي لا يستويان . يشبه أن يكون ما ذكر من المثل لرجُلين هو مثل للبشر كله المسلمين والكافرين .

ثم يحتمل الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون ، أي يتشاكسون في نسبه ؛ أو يتشاكسون في المُلك فيه ؛ يقول كل هو لي ، أو في الملك في قوم يدّعي كل أن الملك له فيهم .

ولا يثبت لواحد منهم المُلك الذي يدّعي ليطلب هذا منه النفقة ، وما يجب على ذي المُلك من حقوق المُلك ، فيبقى ضائعا متحيِّرا وكذلك لا يثبت لأحد فيهم الملك لقيام التنازع بينهم ، فيبقون متحيّرين ضائعين لعدم من لا يسوسهم ، ويقوم بأمورهم .

وإن كان المُلك لرجل واحد أو النّسب سالما له يصل إلى كل ما هو حق له ، ويكون محفوظا في نفسه معروفا ، فيكون مثل الذي فيه شركاء متشاكسون ، هو الذي يعبد الشيطان أو الأصنام أو هوى النفس ؛ يدعوه كل شيطان إلى غير الذي دعاه الآخر ، وكذا الهوى يدعو صاحبه مرة إلى كذا ومرة إلى غير ذلك . فهو كالذي فيه شركاء متشاكسون ، يدّعيه هذا وهذا فيبقى متحيِّرا .

والذي يعبد الله الحق الذي تثبت ألوهيته بالحجج والآيات كالرجل السالم الواحد : يكون أبدا على حالة واحدة مطيعا له خالصا له .

وقوله تعالى : { هل يستويان مثلا } أي هل يستوي الرجل الذي يدّعي فيه شركاء متشاكسون والرجل الذي يكون لرجل واحد في ما ذكرنا ، أي هل يستويان .

وقال أهل التأويل : { هل يستويان } : من يعبد آلهة شتى مختلفة ، والذي يعبد ربا واحدا ، وهو المؤمن ، وقد رأوا أنهما قد استويا في هذه الدنيا ، وفي الحكمة التفريق بينهما ، وفيه دلالة البعث . وكذلك قالوا في قوله : { مثل الفريقين كالأعمى والأصمّ والبصير والسميع هل يستويان } [ هود : 24 ] وقد استووا في هذه الدنيا . دل أن هناك دارا أخرى يفرّق بينهم ، إذ في الحكمة والعقل التفريق بينهم ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } ذكر الحمد على إثر ذلك يخرّج على وجهين :

أحدهما : أمرهم أن يحمدوا ربهم على ما خصّهم بالتوحيد من بين الكفار { بل أكثرهم لا يعلمون } توحيد ربهم .

والثاني : أمره أن يحمد ربه على ما جعله سالما خالصا لم يجعل { فيه شركاء متشاكسون } .

قال أبو عوسجة والقتبيّ : { فيه شركاء متشاكسون } أي مختلطون يتنازعون ، ويتناجون ، و : رجلا سالما : أي خالصا . ومن قرأ : { سَلَمًا لرجل } أراد سلِم إليه ، فهو سَلْمٌ وسِلْمٌ .

ثم قوله : { تقشعرّ منه جلود الذين يخشون ربهم } [ الزمر : 23 ] يحتمل الأنبياء منهم والخواصّ كقوله : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 28 } وجائز أن يكون أراد جميع المؤمنين . وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود : تقشعرّ منه جلود الذين يؤمنون بربهم ، ثم تطمئن جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله .

وفي حرف حفصة : ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله .

وقال بعضهم في قوله : { أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب } [ الزمر : 24 ] يقول ، والله أعلم : ليس الضال الذي يتقي النار بوجهه كالمهتدي الذي لا تصل النار إلى وجهه ، ليسا بسواء على ما ذكرنا .