اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلٗا فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَٰكِسُونَ وَرَجُلٗا سَلَمٗا لِّرَجُلٍ هَلۡ يَسۡتَوِيَانِ مَثَلًاۚ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (29)

قوله تعالى : { ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً } قال الكسائي : نصب «رجلاً » لأنه تفسير للمَثَل . واعلم أنه تَعَالَى لما شرح وعيد الكفار مَثَّلَ بما يدل على فساد مذهبهم وقُبْحِ طريقتهم ، فقال : { ضَرَبَ الله مَثَلاً } .

قوله : { فِيهِ شُرَكَآءُ } يجوز أن يكون هذا جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب صفة «لِرَجُلٍ » ويجوز أن يكون الوصف الجار وحده ، و «شُرَكَاءُ » فاعل به ، وهو أولى لقربه من المُفْرد ، و «مُتَشَاكِسُونَ » صفة «لشُركَاءُ » ، والتشاكش : التخالف ، وأصله سوء الخلق وعسره ، وهو سبب التخالف ، والتشاجر ، ويقال : والتَّشاكُسُ والتَّشَاخُسُ- بالخاء- موضع الكاف ، وقد تقدم الكلام على نصب المَثَل وما بعده الواقعين بعد ضَرَبَ .

وقال الكسائي : انتصب «رجلاً » على إسقاط الجار ، أي لِرَجُلِ أو في رَجُل ، والمُتَشَاكِسون المختلفون العَسِرُون ، يقال : شَكُسَ يَشْكُسُ شُكُوساً وشَكْساً إذا عسر ، وهو رجلٌ شَكِس أي عِسِر وشَاكَس إذا تَعَاسَر قال الليث : التَّشَاكُسُ التضاد والاختلاف ويقال : الليل والنهار يَتَشاكسان أي يتضادان إذا جاء أحدهما ذهب الآخر . وقوله «فيه » صلة «لشركاء » كما تقول اشتركوا فيه أي في رِقِّةِ ، قال شهاب الدين : وقال أَبُو البقاء كلاماً لا يشبه أن يصدر من مثله بل ولا أقل منه قال : «وَفِيهِ شُرَكَاءُ » ) الجملة صفة «لِرَجُل » و «فيه » متعلق بمُتَشَاكِسُونَ ، وفيه دلالة على جواز تقديم خبر المبتدأ عليه انتهى أما هذا فلا أشك أنه سهو لأنه من حيث جعله جملة كيف يقول بعد ذلك : إن «فيه » يتعلق «بمُتَشَاكِسُونَ » . وقد يقال : أراد من حيث المعنى . وهو بعيد جداً ، ثم قوله : «وفيه دلالة » إلى آخره يناقضه أيضاً وليست المسألة غريبة حتى يقول : " وفيه دلالة " وكأنه أراد وفيه دلالة على تقديم معمول الخبر على المبتدأ بناءً منه على أن «فِيهِ » يتعلق بمُتَشَاكِسُونَ ، ولكنه فاسد ، والفاسدُ لا يُرام صَلاَحُهُ .

قوله : { سَلَماً لِّرَجُلٍ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو سَالِماً بالألف وكسر اللام ، والباقون سَلَماً بفتح السين واللام ، وابن جبير بكسر السين وسكون اللام ، قال ابن الخطيب : ويقال أيضاً : بفتح السين وسكون اللام ، فالقراءة الأولى اسم فاعل من سلم له كذا فهو سالم . والقراءتان الأخيرتان سِلْماً وسَلما فهما مصدران وصف بهما على سبيل المبالغة أو على حذف مضاف ، أو على وقوعهما موقع اسم الفاعل فيعود كالقراءة الأولى ، وقرئ : «وَرَجُلٌ سَالِمٌ » برفعهما وفيه وجهان :

أحدهما : أن يكون مبتدأ والخبر محذوف تقديره وهناك رجلٌ سالم لرجلٍٍ ، كذا قدره الزمخشريُّ .

الثاني : أنه مبتدأ ، و «سالم » خبره ، وجاز الابتداء بالنكرة لأنه موضع تفصيل كقول أمرئ القيس :

إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ*** بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ

وقولهم : «النَّاسُ رَجُلاَنِ رَجُلٌ أَكْرَمْتُ وَرَجُلٌ أَهَنْتُ » .

قوله : { مَثَلاً } منصوب على التمييز المنقول من الفاعلية إذ الأصل : هل يستوي مِثْلُهُمَا ، وأفرد التمييزُ لأنه مقتصر عليه أولاً في قوله : { ضَرَبَ الله مَثَلاً } . وقرئ «مَثَلَيْنِ » فطابق حَالَ الرجلين . وقال الزمخشري فيمن قرأ مَثَلَيْنِ : إنّ الضمير في «يَسْتَوِيَانِ » «للمثلين » لأن التقدير : مَثَلَ رَجُلٍ ومَثَلَ رَجُلٍ ، والمعنى هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية كما تقول : كَفَى بِهِما رَجُلَيْن . قال أبو حيان : والظاهر أنه يَعُودُ الضمير في «يستويان » على «رجلين » ، وأما إذا جعلته عائداً إلى المثلين اللّذين ذَكَر أن التقدير : مثل رجل ومثل رجل ، فإن التمييز يكون إذْ ذَاكَ قد فهم من المميز الذي هو الضمير إذ يصير التقدير : هل يستوي المثلان مثلين في الوصفية ، فالمثلان الأولان معهودان الثانيان جنْسَانِ مُبْهَمَانِ كما تقول : كَفَى بِهِمَا رَجُلَيْن ، فإن الضمير في بهما عائد على ما يراد بالرَّجُلَيْن فلا فرق بين المسألتين فما كان جواباً عن : «كفى بهما رجلين » يكون جواباً له .

فصل :

تقدم الكلام : اضْربْ لقومك مثلاً وقل ما تقولون في رجلٍ مَمْلُوكٍ لشركاء بينهم اختلافٌ وتنازعٌ فيه وكل واحد يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه في حوائجهم وهو متحيِّر في أمره وكلما أرضى أحدّهم غضب الباقونَ ، وإذا احتاج إليهم فكل واحد منهم يرده إلى الآخر فيبقى متحيّراً لا يعرف أيّهم أولى أن يطلب رضاه ؟ وأيهم يُعِينه في حاجاته ؟ فهو بهذا السبب في عذابٍ دائم ، وآخر له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص وذلك المخدوم يعينه في مهماته فأي هذا من العبدين أحسنُ حالاً ؟ والمراد أن من أثبت آلهةً أخرى فإن الآلهة تكون متنازعة متغالبة كما قال تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] وقال : { وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } [ المؤمنون : 91 ] فيبقى ذلك المشرك متحيراً ضالاً لا يدري أَيَّ هؤلاء الآلهة يعبدُ ؟ وعلى ربوبية أيهم يعتمد ؟ وممن يطلب رزقه ؟ فهمه مشَاع وقلبه أوْزَاع أما من لم يُثبت إلا إلهاً واحداً فهو قائم بما كلفه عارف بما يرضيه ويسخطه فكان حالُ هذا أقرب إلى الصلاح من حالِ الأول ، وهذا المثال في غاية الحسن في تقبيح الشّرك وتحسين التّوحيد .

فإن قيل : هذا المثال لا ينطبقُ على عبادة الأصنام لأنها جَمَادَاتٌ فليس بينها منازعة ولا تشاكس . فالجواب : أن عبدة الأصنام مختلفون منهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل الكواكب السبعة وهم يثبتون بينها منازعة ومشاكسة ، ألا ترى أنهم يقولون : زُحَلُ هو النحس الأعضم ، ( والمشتري : هو السَّعد الأعظم ) ومنهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل الأرواح السماوية وحينئذ يحصل بين تلك الأرواح منازعة ومشاكسة وحينئذ يكون المثال مطابقاً ، ومنهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل الأشخاص من العلماء والزَّهاد الذين مَضَوْا فهم يعبدون هذه التماثيل ليصير أولئك الأشخاص من العلماء والزُّهَّاد شفعاءَ لهم عند الله . والقائلون بهذا القول يزعم كل طائفة منهم أن المحقّ هو ذلك الرجل الذي هو على دينه ، وأنّ من سواه مبطل وعلى هذا التقدير أيضاً ينطبق المثال .

قوله : «قُل الْحَمْدُ لِلَّهِ » يعني أنه لما أبطل القول بإثبات الشركاء والأنداد وثبت أنه لا إله إلا الواحدُ الأحدُ المحقُّ ثبت أن الحمد له لا لغيره ، ثم قال «بل أكثرهم لا يعلمون » أن الحمد له لا لغيره ، وأنّ المستحق العبادة هو الله . وقيل : لا يعلمون ما يصيرون إليه ، وقيل : المراد أنه لما سيقت عنده الدلائل الظاهرة قال : { الحمد للَّهِ } على حصول هذه البيانات ، وظهور هذه البيِّنات وإن كان أكثر الخلق لا يعرفونها . قال البغوي : والمراد بالأكثر الكُلّ .