فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلٗا فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَٰكِسُونَ وَرَجُلٗا سَلَمٗا لِّرَجُلٍ هَلۡ يَسۡتَوِيَانِ مَثَلًاۚ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (29)

ثم ذكر سبحانه مثلا من الأمثال القرآنية للتذكير والإيقاظ فقال : { رَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( 29 ) }{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا } أي تمثيل حالة عجيبة بأخرى مثلها ، ثم بين المثل فقال : { رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ } قال الكسائي : نصب رجلا لأنه تفسير للمثل ، وقيل منصوب ينزع الخافض ، أي ضرب الله مثلا برجل ، وقيل إن رجلا هو المفعول الأول ، ومثلا هو المفعول الثاني ، وأخر المفعول الأول ليتصل بما هو من تمامه ، وقد تقدم تحقيق هذا في سورة يس ، وجملة . فيه شركاء في محل نصب صفة لرجل ، والتشاكس التخالف ، وأصله سوء الخلق وعسره ، وهو سبب التخالف والتشاجر ، ويقال التشاخس بالخاء المعجمة قال الفراء ؛ أي مختلفون ، وقيل : متنازعون ، وقال المبرد متعاسرون من شكس يشكس شكسا فهو شكس ، مثل عسر يعسر عسرا فهو عسر ، وشكس بكسر الكاف هو القياس قال الجوهري التشاكس الاختلاف ، قال : ويقال رجل شكس بالتسكين أي صعب الخلق ، وهذا مثل من أشرك بالله وعبد آلهة كثيرة ، ثم قال :

{ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ } ؛ أي خالصا له . وهذا مثل من يعبد الله وحده ، قرأ الجمهور . سلما بفتح السين واللام ، وقرئ بكسر السين وسكون اللام ، وقرأ ابن عباس ومجاهد والجحدري وابن كثير ويعقوب سالما اسم فاعل من سلم له فهو سالم ، واختارها أبو عبيد ، قال لأن السالم الخالص ضد المشترك والسلم ضد الحرب ، ولا موضع للحرب ههنا ، وأجيب عنه بأن الحرف إذا كان له معنيان لم يحمل إلا على أولاهما ، فالسلم وإن كان ضد الحرب فله معنى آخر بمعنى سالم من سلم له كذا إذا خلص له ، وأيضا يلزمه في سالم ما ألزمه به لأنه يقال شيء سالم أي لا عاهة به ، واختار أبو حاتم القراءة الأولى ، والحاصل أن قراءة الجمهور هي على الوصف بالمصدر للمبالغة أو على حذف مضاف ، أي ذا سلم ، ومثلها قراءة سعيد بن جبير ومن معه ، قال ابن عباس ، رجلا سلما أي ليس لأحد فيه شيء ، ثم جاء سبحانه بما يدل على التفاوت بين الرجلين فقال :

{ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا } وهذا الاستفهام للإنكار والاستبعاد ، والمعنى هل يستوي هذا الذي يخدم جماعة شركاء ؟ أخلاقهم مختلفة ، ونياتهم متباينة ، يستخدمه كل واحد منهم فيتعب وينصب ، مع كون كل واحد منهم غير راض بخدمته ، وهذا الذي يخدم واحدا لا ينازعه غيره إذا أطاعه رضي عنه ، وإذا عصاه عفا عنه ؟ فإن بين هذين من الاختلاف الظاهر الواضح ما لا يقدر عاقل أن يتفوه باستوائهما لأن أحدهما في أعلى المنازل ، والآخر في أدناها ، وانتصاب مثلا على التمييز المحول عن الفاعل لأن الأصل هل يستوي مثلهما ؟ أي حالهما وصفتهما ؟ وأفرد التمييز ولم يثنه لأن الأصل في التمييز الإفراد لكونه مبنيا للجنس ، وقال السمين وأفرد التمييز لأنه مقتصر عليه أولا في قوله ضرب الله مثلا ، وقرئ مثلين فطابق حالي الرجلين .

وجملة { الْحَمْدُ لِلَّهِ } مقررة لما قبلها من نفي الاستواء بطريق الاعتراض وللإيذان للموحدين بما في توحيدهم لله من النعمة العظيمة المستحقة لتخصيص الحمد به ، أي الحمد لله على عدم استواء هذين الرجلين ، وقيل : الجملة اعتراضية فإن قوله { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } إضراب انتقالي من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور إلى بيان أن أكثر الناس ، وهم المشركون ، فإنهم لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره ووضوحه ، فيقعون في ورطة الشرك والضلال .

قال الواحدي والبغوي والمراد بالأكثر الكل ، والظاهر خلاف ما قالاه ، فإن المؤمنين بالله يعلمون ما في التوحيد من رفعة شأنه ، وعلو مكانه ، وأن الشرك لا يماثله بوجه من الوجوه ، ولا يساويه في وصف من الأوصاف ، ويعلمون أن الله سبحانه يستحق الحمد على هذه النعمة ، وأن الحمد مختص به .