{ وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم } رجوع إلى بيان بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى وتفصيل ما أجمل فيما سبق من شرط إيتائها ( ووقته ) وكيفيته إثر بيان ( بعض ) ( 1 ) الأحكام المتعلقة بالأنفس أعني النكاح ، وبيان بعض الحقوق المتعلقة بالأجنبيات من حيث النفس ومن حيث المال استطراداً إذ الخطاب كما يدل عليه كلام عكرمة للأولياء ، وصرح هو وابن جبير بأن المراد من السفهاء اليتامى ، ومن أموالكم أموالهم وإنما أضيفت إلى ضمير الأولياء المخاطبين تنزيلاً لاختصاصها بأصحابها منزلة اختصاصها بهم فكأن أموالهم عين أموالهم لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسي والنسبي مبالغة في حملهم على المحافظة عليها ، ونظير ذلك قوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] فإن المراد لا يقتل بعضكم بعضاً إلا أنه عبر عن نوعهم بأنفسهم مبالغة في الزجر عن القتل حتى كأن قتلهم قتل أنفسهم ، وقد أيد ذلك بما دل عليه قوله سبحانه : { التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما } حيث عبر عن جعلها مناطاً لمعاش أصحابها بجعلها مناطاً لمعاش الأولياء ، ومفعول { جَعَلَ } الأول محذوف وهو ضمير الأموال ، والمراد من القيام ما به القيام والتعيش ، والتعبير بذلك زيادة في المبالغة وهو المفعول الثاني لجعل ، وقد جوز أن يكون المحذوف وحده مفعولاً ، وهذا حالاً منه ؛ وقيل : إنما أضيفت الأموال إلى ضمير الأولياء نظراً إلى كونها تحت ولايتهم . واعترض بأنه وإن كان صحيحاً في نفسه لأن الإضافة لأدنى ملابسة ثابتة في كلامهم كما في قوله :
إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة *** سهيل أذاعت غزلها في القرائب
إلا أنه غير مصحح لاتصاف الأموال بما بعدها من الصفة ، وقيل : إنما أضيفت إلى ضميرهم لأن المراد بالمال جنسه مما يتعيش الناس به ونسبته إلى كل أحد كنسبته إلى الآخر لعموم النسبة والمخصوص بواحد دون واحد شخص المال فجاز أن ينسب حقيقة إلى الأولياء كما ينسب إلى الملاك ، ويؤيد ذلك وصفه بما لا يختص بمال دون مال ، واعترض بأن ذلك بمعزل عن حمل الأولياء على المحافظة المذكورة كيف لا والوحدة الجنسية المالية ليست مختصة بما بين أموال اليتامى وأموال الأولياء بل هي متحققة بين أموالهم وأموال الأجانب فإذاً لا وجه لاعتبارها أصلاً ، وروي أنه سئل الصادق رضي الله تعالى عنه عن هذه الإضافة ، وقيل له : كيف كانت أموالهم أموالنا ؟ فقال : إذ كنتم وارثين لهم ، وفيه احتمالان : أحدهما : أنه إشارة إلى ما ذكرناه أولاً في توجيه الإضافة ، وثانيهما : أن ذلك من مجاز الأول ، ويرد عليه حينئذ بعد القول بكذب نسبته إلى الصادق رضي الله تعالى عنه أن الأول غير متحقق بل العادة في الغالب على خلافه ، والحمل على التفاؤل مما يتشاءم منه الذوق السليم .
وذكر العلامة الطيبي أنه إنما أضيف الأموال إلى اليتامى في قوله تعالى : { وَءاتُواْ اليتامى أموالهم } [ النساء : 2 ] ولم يضفه إليهم هنا مع أن الأموال في الصورتين لهم ليؤذن بترتب الحكم على الوصف فيهما فإن تسميتهم يتامى هناك يناسب قطع الطمع فيفيد المبالبغة في ردّ الأموال إليهم ، فاقتضى ذلك أن يقال : أموالهم ، وأما الوصف هنا فهو السفاهة فناسب أن لا يختصوا بشيء من المالكية لئلا يتورطوا في الأموال فلذلك لم يضف أموالهم إليهم وأضافها إلى الأولياء انتهى ، ولا يخفى أنه بيان للعلة المرجحة لإضافة الأموال لمن ذكر ، وينبغي أن تكون العلة المصححة ما مرّ آنفاً ، ثم وصف اليتامى بأنهم سفهاء باعتبار خفة أحلامهم واضطراب آرائهم لما فيهم من الصغر وعدم التدرب ، وأصل السفه الخفة والحركة ، يقال : تسفهت الريح الشجر أي مالت به ، قال ذو الرمة :
جرين كما اهتزت رماح ( تسفهت ) *** أعاليها مر الرياح النواسم
على ظهر مقلات ( سفيه ) جديلها *** يعني خفيف زمامها ، ولكون هذا الوصف مما ينشأ منه تبذير المال وتلفه المخل بحال اليتيم ناسب أن يجعل مناطاً لهذا الحكم ، وقد فسر السفهاء بالمبذرين بالفعل من اليتامى وإلى تفسير الآية بما ذكرنا ذهب الكثير من المتأخرين ، وروي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما أن المراد بالسفهاء النساء والصبيان ، والخطاب لكل أحد كائناً من كان ، والمراد نهيه عن إيتاء ماله من لا رشد له من هؤلاء ، وقيل : إن المراد بهم النساء خاصة ، وروي عن مجاهد وابن عمر ، وروي( {[226]} ) عن أنس بن مالك أنه قال : «جاءت امرأة سوداء جرية المنطق ذات ملح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله قل فينا خيراً مرة واحدة فإنه بلغني أنك تقول فينا كل شر قال : أي شيء قلت فيكن ؟ قالت : سميتنا السفهاء فقال : الله تعالى سماكن السفهاء في كتابه ، قالت : وسميتنا النواقص ، فقال : كفى نقصانا أن تدعن من كل شهر خمسة أيام لا تصلين فيها ، ثم قال : أما يكفي إحداكن أنها إذا حملت كان لها كأجر المرابط في سبيل الله تعالى وإذا وضعت كانت كالمشتحط في دمه في سبيل الله تعالى فإذا أرضعت كان لها بكل جرعة كعتق رقبة من ولد إسماعيل فإذا سهرت كان لها بكل سهرة تسهرها كعتق رقبة من ولد إسماعيل وذلك للمؤمنات الخاشعات الصابرات اللاتي لا يكفرن العشير فقالت : السوداء يا له من فضل لولا ما يتبعه من الشرط2 .
وقيل : إن السفهاء عام في كل سفيه من صبي أو مجنون أو محجور عليه للتبذير ، وقريب منه ما روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال : إن السفيه شارب الخمر ومن يجري مجراه ، وجعل الخطاب عاماً أيضاً للأولياء وسائر الناس ، والإضافة في أموالكم لا تفيد إلا الاختصاص وهو شامل لاختصاص الملكية واختصاص التصرف ، وأيد ما ذهب إليه الكثير بأنه الملائم للآيات المتقدمة والمتأخرة ، ومن ذهب إلى غيره جعل ذكر هذا الحكم استطراداً وكون ذلك مخلاً بجزالة النظم الكريم محل تأمل ، وقرأ نافع وابن عامر ( قيماً ) بغير ألف ، وفيه كما قال أبو البقاء ثلاثة أوجه : أحدها : أنه مصدر مثل الحول والعوض وكان القياس أن تثبت الواو لتحصنها بتوسطها كما صحت في العوض والحول لكن أبدلوها ياءاً حملاً على قيام ، وعلى اعتلالها في الفعل ، والثاني : أنها جمع قيمة كديمة وديم والمعنى إن الأموال كالقيم للنفوس إذ كان بقاؤها بها ، وقال أبو علي : هذا لا يصح لأنه قد قرىء في قوله تعالى :
{ دِينًا قِيَمًا مّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } [ الأنعام : 161 ] وقوله سبحانه : { الكعبة البيت الحرام * قَيِّماً } [ المائدة : 97 ] ولا يصح معنى القيمة فيهما . والثالث : أن يكون الأصل قياماً فحذفت الألف كما حذفت في خيم ؛ وإلى هذا ذهب بعض المحققين وجعل ذلك مثل عوذاً وعياذاً ، وقرأ ابن عمر قواماً بكسر القاف وبواو وألف ، وفيه وجهان : الأول : أنه مصدر قاومت قواماً مثل لاوذت لواذاً فصحت في المصدر كما صحت في الفعل ، والثاني : أنه اسم لما يقوم به الأمر وليس بمصدر ، وقرىء كذلك إلا أنه بغير ألف وهو مصدر صحت عينه وجاءت على الأصل كالعوض ، وقرىء بفتح القاف وواو وألف ، وفيه وجهان : أحدهما : أنه اسم مصدر مثل السلام والكلام والدوام ، وثانيهما : أنه لغة في القوام الذي هو بمعنى القامة يقال : جارية حسنة القوام والقوام ، والمعنى التي جعلها الله تعالى سبب بقاء قامتكم ، وعلى سائر القراءات في الآية إشارة إلى مدح الأموال وكان السلف يقولون : المال سلاح المؤمن ولأن أترك مالاً يحاسبني الله تعالى عليه خير من أن احتاج إلى الناس ، وقال عبد الله بن عباس : الدراهم والدنانير خواتيم الله في الأرض لا تؤكل ولا تشرب حيث قصدت بها قضيت حاجتك ، وقال قيس بن سعد : اللهم ارزقني حمداً ومجداً فإنه لا حمد إلا بفعال ولا مجد إلا بمال ، وقيل لأبي الزناد : لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا ؟ فقال : هي وإن أدنتني منها فقد صانتني عنها ، وفي «منثور الحكم » من استغنى كرم على أهله ، وفيه أيضاً الفقر مخذلة والغنى مجذلة والبؤس مرذلة والسؤال مبذلة وكانوا يقولون : اتجروا واكتسبوا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه ، وقال أبو العتاهية :
أجلك قوم حين صرت إلى الغنى *** وكل غني في العيون جليل
إذا مالت الدنيا على المرء رغبت *** إليه ومال الناس حيث يميل
وليس الغنى إلا غنى زين الفتى *** عشية يقري أو غداة ينيل
وقد أكثر الناس في مدح المال واختلفوا في تفضيل الغنى والفقر ، واستدل كل على مدعاه بما لا يتسع له هذا المجال ، ولشيخنا علاء الدين أعلى الله تعالى درجته في أعلى عليين :
قالوا اغتنى ناس وإنا نرى *** عنك وأنت العلم المال مال
قلت غنى النفس كمال الغنى *** والفقر كل الفقر فقد الكمال
قالوا حوى المال رجال *** وما على كمال نلت هذا المنال
فقلت حازوا بعض أجزائه *** وإنني حزت جميع الكمال
{ وارزقوهم فِيهَا واكسوهم } أي اجعلوها مكانا لرزقهم وكسوتهم بأن تتجروا وتربحوا حتى تكون نفقاتهم من الأرباح لا من صلب المال لئلا يأكله الانفاق ، وهذا ما يقتضيه جعل الأموال نفسها ظرفاً للرزق والكسوة ، ولو قيل : منها كان الانفاق من نفس المال ، وجوز بعضهم أن تكون في بمعنى من التبعيضية .
{ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } أي كلاماً تطيب به نفوسهم كأن يقول الولي لليتيم : مالك عندي وأنا أمين عليه فإذا بلغت ورشدت أعطيتك مالك ، وعن مجاهد وابن جريج أنهما فسرا القول المعروف بِعِدَة جميلة في البر والصلة ، وقال ابن عباس : هو مثل أن يقول : إذا ربحت في سفري هذا فعلت بك ما أنت أهله ، وإن غنمت في غزاي جعلت لك حظاً ، وقال الزجاج : علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل ، وقال القفال : إن كان صبياً فالوصي يعرفه أن المال ماله وأنه إذا زال صباه يرد المال إليه ، وإن كان سفيهاً وعظه وحثه على الصلاة وعرفه أن عاقبة الاتلاف فقر واحتياج .
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية إن كان ليس من ولدك ولا ممن يجب عليك أن تنفق عليه فقل له : عافانا الله تعالى وإياك بارك الله تعالى فيك ، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر لما أنه ظاهر في أن الخطاب في هذه الجملة ليس للأولياء ، وبالجلمة كل ما سكنت إليه النفس لحسنه شرعاً أو عقلاً من قول أو عمل معروف ، وكل ما أنكرته لقبحه شرعاً أو عقلاً منكر قاله غير واحد وليس إشارة إلى المذهبين في الحسن والقبح هل هو شرعي أو عقلي كما قيل إذ لا خلاف بيننا وبين القائلين بالحسن والقبح العقليين في الصفة الملائمة للغرض والمنافرة له ، وإن منها ما مأخذه العقل وقد يرد به الشرع ، وإنما الخلاف فيما يتعلق به المدح والذم عاجلاً والثواب والعقاب آجلا هل هو مأخذه الشرع فقط أو العقل على ما حقق في الأصول .
( هذا ومن باب الإشارة ) :{ وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم } أي لا تودعوا الناقصين عن مراتب الكمال أسراركم وعلومكم { التي جَعَلَ الله لَكُمْ قياما وارزقوهم فِيهَا } أي غذوهم بشيء منها { واكسوهم } أي حلوهم
{ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } ( النساء ؛ 5 ) لينقادوا إليكم ويسلموا أنفسهم بأيديهم .