البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا وَٱرۡزُقُوهُمۡ فِيهَا وَٱكۡسُوهُمۡ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا} (5)

{ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً } قال ابن مسعود والحسن والضحاك والسدي وغيرهم : نزلت في ولد الرجل الصغار وامرأته .

وقال ابن جبير : في المحجورين .

وقال مجاهد : في النساء خاصة .

وقال أبو موسى الأشعري والطبري وغيرهما : نزلت في كل من اقتضى الصفة التي شرط الله من السفه كائناً من كان .

ويضعف قول مجاهد أنها في النساء ، كونها جمع سفيهة ، والعرب إنما تجمع فعيلة على فعائل أو فعيلات قاله : ابن عطية .

ونقلوا أنّ العرب جمعت سفيهة على سفهاء ، فهذا اللفظ قد قالته العرب للمؤنث ، فلا يضعف قول مجاهد .

وإن كان جمع فعيلة الصفة للمؤنث نادراً لكنه قد نقل في هذا اللفظ خصوصاً .

وتخصيص ابن عطية جمع فعيلة بفعائل أو فعيلات ليس بجيد ، لأنه يطرد فيه فعال كظريفة وظراف ، وكريمة وكرام ، ويوافق في ذلك المذكر .

وإطلاقه فعيلة دون أن يخصها بأن لا يكون بمعنى مفعولة نحو : قتيلة ، ليس بجيد ، لأن فعيلة لا تجمع على فعائل .

وقيل : عنى بالسفهاء الوارثين الذين يعلم من حالهم أنهم يتسفهون في استعمال ما تناله أيديهم ، فنهى عن جمع المال الذي ترثه السفهاء .

والسفهاء : هم المبذرون الأموال بالإنفاق فيما لا ينبغي ، ولا يد لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرّف فيها .

والظاهر في قوله : أموالكم أن المال مضاف إلى المخاطبين بقوله : ولا تؤتوا .

قال أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة : نهى أن يدفع إلى السفيه شيء من مال غيره ، وإذا وقع النهي عن هذا فإن لا يؤتى شيئاً من مال نفسه أولى وأحرى بالنهي ، وعلى هذا القول : وهو أن يكون الخطاب لأرباب الأموال .

قيل : يكون في ذلك دلالة على أن الوصية للمرأة جائزة ، وهو قول عامة أهل العلم .

وأوصى عمر إلى حفصة .

وروي عن عطاء : أنها لا تكون وصياً .

قال : ولو فعل حولت إلى رجل من قومه .

قيل : ويندرج تحتها الجاهل بأحكام البيع .

وروي عن عمر أنه قال : « من لم يتفقه في الدين فلا يتجر في أسواقنا ، والكفار » .

وكره العلماء أن يوكلَ المسلم ذمياً بالبيع والشراء ، أو يدفع إليه يضاربه .

وقال ابن جبير : يريد أموال السفهاء ، وإضافها إلى المخاطبين تغبيطاً بالأموال ، أي : هي لهم إذا احتاجوها كأموالكم التي تقي أغراضكم وتصونكم وتعظم أقداركم .

ومن مثل هذا : { ولا تقتلوا أنفسكم } وما جرى مجراه .

وهذا القول ذكره الزمخشري أولاً قال : والخطاب للأولياء ، وأضاف الأموال إليهم لأنها من جنس ما يقيم به الناس معائشهم .

كما قال : ولا تقتلوا أنفسكم ، { فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } ، والدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله : { وارزقوهم فيها واكسوهم } .

وقرأ الحسن والنخعي : اللاتي .

وقرأ الجمهور : التي .

قال ابن عطية : والأموال جمع لا يعقل ، فالأصوب فيه قراءة الجماعة انتهى .

واللاتي جمع في المعنى للتي ، فكان قياسه أن لا يوصف به الإماء وصف مفرده بالتي ، والمذكر لا يوصف بالتي سواء كان عاقلاً أو غير عاقل ، فكان قياس جمعه أن لا يوصف بجمع التي الذي هو اللاتي .

والوصف بالتي يجري مجرى الوصف بغيره من الصفات التي تلحقها التاء للمؤنث .

فإذا كان لنا جمع لا يعقل فيجوز أن يجري الوصف عليه كجريانه على الواحدة المؤنثة ، ويجوز أن يجري الوصف عليه كجريانه على جمع المؤنثات فتقول : عندي جذوع منكسرة ، كما تقول : امرأة طويلة ، وجذوع منكسرات .

كما تقول : نساء صالحات جرى الوصف في ذلك مجرى الفعل .

والأولى في الكلام معاملته معاملة ما جرى على الواحدة ، هذا إذا كان جمع ما لا يعقل للكثرة .

فإذا كان جمع قلة ، فالأولى عكس هذا الحكم : فأجذاع منكسرات أولى من أجذاع منكسرة ، وهذا فيما وجد له الجمعان : جمع القلة ، وجمع الكثرة .

أمّا ما لا يجمع إلا على أحدهما ، فينبغي أن يكون حكمه على حسب ما تطلقه عليه من القلة والكثرة .

وإذا تقرر هذا أنتج أنَّ التي أولى من اللاتي ، لأنه تابع لجمع لا يعقل .

ولم يجمع مال على غيره ، ولا يراد به القلة لجريان الوصف به مجرى الوصف بالصفة التي تلحقها التاء للمؤنث ، فلذلك كانت قراءة الجماعة أصوب .

وقال الفراء : تقول العرب في النساء : اللاتي ، أكثر مما تقول التي .

وفي الأموال تقول التي أكثر مما تقول اللاتي ، وكلاهما في كليهما جائز .

وقرئ شاذاً للواتي ، وهو أيضاً في المعنى جمع التي .

ومعنى قياماً تقومون بها وتنتعشون بها ، ولو ضيعتموها لتلفت أحوالكم .

قال الضحاك : جعلها الله قياماً لأنه يقام بها الحج والجهاد وإكمال البر ، وبها فكاك الرقاب من رق ومن النار ، وكان السلف تقول : المال سلاح المؤمن ، ولأن أترك ما يحاسبني الله عليه خير من أن أحتاج إلى الناس .

وعن سفيان الثوري وكانت له بضاعة يقلبها : لولاها لتمندل أي : بنو العباس .

وكانوا يقولون : اتجروا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل كل دينه .

وقرأ نافع وابن عامر : قيماً ، وجمهور السبعة : قياماً ، وعبد الله بن عمر : قواماً بكسر القاف ، والحسن وعيسى بن عمر : قواماً بفتحها .

ورويت عن أبي عمرو .

وقرئ شاذاً : قوماً .

فأما فيما فمقدر كالقيام ، والقيام قاله : الكسائي والفراء والأخفش ، وليس مقصوراً من قيام .

وقيل : هو مقصور منه .

قالوا : وحذفت الألف كما حذفت في خيم وأصله خيام ، أو جمع قيمة كديم جمع قاله : البصريون غير الأخفش .

ورده أبو علي : بأنه وصف به في قوله : { ديناً قيماً } والقيم لا يوصف به ، وإنما هو مصدر بمعنى القيام الذي يراد به الثبات والدوام .

ورد هذا بأنه لو كان مصدراً لما أعلّ كما لم يعلوا حولاً وعوضاً ، لأنه على غير مثال الفعل ، لا سيما الثلاثية المجردة .

وأجيب : بأنه اتبع فعله في الإعلال فأعل ، لأنه مصدر بمعنى القيام ، فكما أعل القيام أعل هو .

وحكى الأخفش : قيماً وقوماً ، قال : والقياس تصحيح الواو ، وإنما اعتلت على وجه الشذوذ كقولهم : تيره ، وقول بني ضبة : طيال في جمع طويل ، وقول الجميع : جياد في جمع جواد .

وإذا أعلوا ديماً لاعتلال ديمة ، فإن إعلال المصدر لاعتلال فعله أولى .

ألا ترى إلى صحة الجمع مع اعتلال مفرده في معيشة ومعائش ، ومقامة ومقاوم ، ولم يصححوا مصدراً أعلوا فعله .

وقيل : يحتمل هنا أن يكون جمع قيمة ، وإن كان لا يحتمله ديناً قيماً .

وأما قيام فظاهر فيه المصدر ، وأما قوام فقيل : مصدر قاوم .

وقيل : هو اسم غير مصدر ، وهو ما يقام به كقولك : هو ملاك الأمر لما يملك به .

وأما قوام فخطأ عند أبي حاتم .

وقال : القوام امتداد القامة ، وجوزه الكسائي .

وقال : هو في معنى القوام ، يعني أنه مصدر .

وقيل : اسم للمصدر .

وقيل : القوام القامة ، والمعنى : التي جعلها الله سبب بقاء قاماتكم .

{ وارزقوهم فيها واكسوهم } أي : اطعموهم واجعلوا لهم نصيباً .

قيل : معناه فيمن يلزم الرجل نفقته من زوجته وبنيه الصغار .

قال ابن عباس : لا تعمد إلى هلاك الشيء الذي جعله الله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنيك ثم تنظر إلى ما في أيديهم ، وأمسك ذلك وأصلحه ، وكن أنت تنفق عليهم في رزقهم وكسوتهم ومؤونتهم .

وقيل : في المحجورين ، وهو خلاف مرتب على الخلاف في المخاطبين بقوله : وآتوا من هم .

والمعنى على هذا القول : اجعلوها مكاناً لرزقهم بأن تتجروا فيها وتربحوا ، حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال ، فلا يأكلها الإنفاق .

قيل : وقال فيها : ولم يقل منها تنبيهاً على ما قاله عليه السلام : « ابتغوا في أموال اليتامى التجارة لا تأكلها الزكاة » والمستحب أن يكون الإنفاق عليهم من فضلاتها المكتسبة .

وقيل في : بمعنى من ، أي منها .

{ وقولوا لهم قولاً معروفاً } المعروف : ما تألفه النفوس وتأنس إليه ويقتضيه الشرع ، فإن كان المراد بالسفهاء المحجورين ، فمن المعروف وعدهم الوعد الحسن بأنكم إذا رشدتم سلمنا إليكم أموالكم قاله : ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، ومقاتل ، وابن جريج .

وقال عطاء : إذا ربحت أعطيتك ، وإذا غنمت في غزاتي ، جعلت لك حظاً .

وإن كان المراد النساء والبنين الأصاغر والسفهاء الأجانب ، فتدعو لهم : بارك الله فيكم ، وحاطكم ، وشبهه قاله : ابن زيد .

وقال الضحاك : الرد الجميل .

ولما أمرالله تعالى أولاً بإيتاء اليتامى بقوله : { وآتوا اليتامى أموالهم } وأمر ثانياً بإيتاء أموال النساء بقوله : { وآتوا النساء صدقاتهن } وكان ذلك عاماً من غير تخصيص بين في هذه الآية .

إنَّ ذلك الإيتاء إنما هو لغير السفيه ، وخص ذلك العموم ، وقيد الإطلاق الذي في الأمر بالإيتاء .

/خ10