الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا وَٱرۡزُقُوهُمۡ فِيهَا وَٱكۡسُوهُمۡ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا} (5)

قوله تعالى : { وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ } أصل تُؤتوا : تُؤْتِيُوا مثل : تُكْرِموا ، فاستثقلت الضمةُ على الياءِ ، فَحُذِفت الضمة فالتقى ساكنان : الياء وواو الضمير ، فَحُذِفت الياءُ لئلا يلتقيَ ساكنان .

والسُّفهاء جمعُ سفيه ، وعن مجاهد : " المراد بالسفهاء النساء " ، وضَعَّفه بعضُهم بأن فَعِيلة إنما تجمع على فَعائل أو فَعِيلات ، قاله ابن عطية . وقد نَقل بعضُهم أنَّ سفيهة تُجْمع على سُفَهاء كالمذكر ، وعلى هذا لا يَضْعُف قول مجاهد ، وجمعُ فَعِيلة الصفةِ على فُعَلاء وإن كان نادراً إلا أنه نُقِل في هذا اللفظِ خصوصاً ، وتخصيصُ ابن عطية جمعَ فَعِيلة بفعائل أو فَعيلات ليس بظاهرٍ ، لأنها يَطَّرد فيها أيضاً " فِعال " نحو : كَريمة وكِرام وظَرِيفة وظِراف ، وكذلك إطلاقُه فَعِيلة وكان من حقه أَنْ يقيِّدها بألاَّ تكون بمعنى مَفْعولة تَحَرُّزاً من قتيلة فإنها لا تُجمع على فَعائِل .

والجمهورُ على { الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ } بلفظِ الإِفراد صفةً للأموال ، وإنْ كانت جمعاً ؛ لأنَّه تقدَّم غيرَ مرة أنَّ جمع ما لا يعقل في الكثرة ، أو لم يكن له إلا جمعٌ واحدٌ ، الأحسنُ فيه أن يُعامَل معاملةَ الواحدة المؤنثة ، والأموال من هذا القبيل لأنها جمعُ ما لا يعقلِ ، ولم تُجْمع إلا على أَفْعال ، وإن كانت بلفظِ القلة لأنَّ المرادَ بها الكثرة .

وقرأ الحسن والنخعي : " اللاتي " مطابقةً للفظِ الجمع ، وكان القياسُ ألاَّ يوصفَ ب " اللاتي " إلا ما يُوصَفُ مفرده ب " التي " ، والأموال لا يُوصف مفردُها وهو " مال " ب " التي " . وقال الفراء : " العربُ تقولُ في النساء : " اللاتي " أكثرَ مِمَّا تقول " التي " ، وفي الأموال : " التي " أكثر مما تقول " اللاتي " . وكلاهما في كليهما جائز . وقرىء : " اللواتي " وهي جمعُ اللاتي ، فهي جمعُ الجمع ، أو جمع " التي " نفسِها .

قوله : " قياماً " إنْ قلنا إنَّ " جَعَلَ " بمعنى صَيَّر ف " قياماً " مفعول ثانٍ ، والأولُ محذوفٌ وهو عائد الموصول ، والتقدير : " التي جعلها " أي : صَيَّرها لكم قياماً . وإنْ قلنا إنَّها بمعنى " خَلَقَ " ف " قِياماً " حال من ذلك العائدِ المحذوفِ ، التقديرُ : جَعَلَها أي : خلقها وأوجدها في حالِ كونها قياماً .

وقرأ نافع وابن عامر : " قِيَماً " وباقي السبعة : " قِياماً " وابن عمر : " قِواماً " بكسر القاف ، والحسن وعيسى بن عمر : " قَواماً " بفتحها ، ويروى عن أبي عمرو . وقرىء " قِوَماً " بزنة عِنَب .

فأما قراءة نافع وابنِ عامر ففيها ثلاثة أوجه ، أحدهما : أنَّ " قِيَماً " مصدرٌ كالقيام وليس مقصوراً منه ، قال الكسائي والأخفش والفراء ، فهو مصدر بمعنى القيام الذي يُراد به الثباتُ والدوامُ .

وقد رُدَّ هذا القول بأنه كان ينبغي أن تَصِحَّ الواو لتحصُّنِها بتوسُّطِها ، كما صَحَّت واو " عِوَض " و " حِوَل " . وأُجيب عنه بأنه تبع فعلَه في الإِعلال . فكما أُعِلَّ فعلُه أُعِلَّ هو ، ولأنه بمعنى القِيام فَحُمِل عليه في الإِعلال . وحَكَى الأخفَشُ : قِيَماً وقِوَماً قال : " والقياسُ تصحيحُ الواو ، وإنما اعتلَّت على وجهِ الشذوذِ كقولهم : " ثِيَرة " ، وقولِ بني ضبة : " طِيال " في جمع طويل ، وقولِ الجميع " جِياد " جمع جَواد ، وإذا أعلُّوا " دِيَماً " لاعتلالِ " دِيْمة " فاعتلالُ المصدر لاعتلال فعلِه أَوْلى ، ألا ترى إلى صحة الجمع مع اعتلالِ مفردِه في معيشة ومعايش ، ومقامة ومقاوِم ، ولم يصححوا مصدراً أعلُّوا فِعْلَه .

الثاني : أنه مقصورٌ من " قيام " ، فحذفوا الألف تخفيفاً كما قالوا : خيَم في " خِيام " و " مِخْيَط " و " مِقْول " في : " مِخْياط " و " مِقْوال " .

والثالث : أنه جمع " قِيمة " ك " دِيَم " في جمع دِيْمَة ، والمعنى : أنَّ الأموالَ كالقيم للنفوس لأنَّ بقاءها بها . وقد رَدَّ الفارسي هذا الوجهَ ، وإنْ كان هو قولَ البصريين غيرَ الأخفش بأنه قد قُرِىء قوله تعالى : { دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } [ الأنعام : 161 ] وقوله : { الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَماً لِّلنَّاسِ } [ المائدة : 97 ] ولا يَصِحُّ معنى القِيَمة فيهما . وقد ردَّ عليه الناس بأنه لا يلزَمُ من عدم صحةِ معناه في الآيتين المذكورتين ألاَّ يصِحَّ هنا ، إذ معناه هنا لائقٌ ، وهناك معنىً آخرُ يليق بالآيتين المذكورتين كما سيأتي .

وأمَّا قراءةُ باقي السبعة فهو مصدرُ " قام " والأصلُ قِوام ، فَأُبْدلت الواوُ ياءً للقاعدةِ المعروفة ، والمعنى : التي جَعَلَها الله سبب قيامِ أبدانكم أي : بقائِها . وقال الزمخشري : " أي تقومون بها وتنتعشون " .

وأما قراءة عبد الله بن عمر ففيها وجهان ، أحدهما : أنه مصدر قاوَمَ ك لاوَذَ لِواذاً ، صحَّت الواو في المصدر/ كما صحت في الفعل . والثاني : أنه اسم لما يقوم به الشيء ، وليس بمصدرٍ كقولهم : هذا مِلاك الأمر " أي ما يُمْلك به .

وأما قراءة الحسن ففيها وجهان ، أحدهما : أنه اسم مصدر كالكَلام والدوام والسلام . والثاني : أنه لغة في القِوام المراد به القامة ، والمعنى : التي جعلها الله سببَ بقاءِ قاماتكم ، يقال : جارية حسنةُ القِوام والقَوام والقَامة ، كلُّه بمعنىً واحد . وقال أبو حاتم : " قَوام بالفتح خطأٌ " قال : " لأنَّ القوام امتداد القامة " ، وقد تقدَّم تأويل ذلك على أن الكسائي قال : " هو بمعنى القِوام " أي بالكسرِ ، يعني أنه مصدر .

وأمَّا " قِوَماً " فهو مصدرٌ جاء على الأصلِ ، أعني تصحيحَ العين كالحِوَل والعِوَض .

قوله : " فيها " فيه وجهان ، أحدُهما أنَّ " في " على بابها مِن الظرفية أي : اجْعَلوا رزقَهم فيها . والثاني : أنه بمعنى " مِنْ " أي : بعضها ، والمراد : من أرباحِها بالتجارة .