غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا وَٱرۡزُقُوهُمۡ فِيهَا وَٱكۡسُوهُمۡ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا} (5)

1

ثم إنه تعالى لما أمر بإيتاء اليتامى أموالهم ويدفع صدقات النساء إليهن ، استثنى منهم خفاف الأحلام وإن بلغوا أوان التكليف فقال : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } أكثر العلماء على أن هذا الخطاب للأولياء . فورد أن الأنسب أن لو قيل لأموالهم . وأجيب بأنه إنما حسنت إضافة الأموال إلى المخاطبين إجراء للوحدة النوعية مجرى الوحدة الشخصية كقوله :{ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم }[ البقرة :85 ] ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه ولكن كان بعضهم يقتل بعضاً فقيل : " أنفسكم " لأن الكل من نوع واحد فكذا هنا المال شيء ينتفع به الإنسان ويحتاج إليه ، فلهذه الوحدة النوعية حسنت إضافة أموال السفهاء إلى أوليائهم . ويحتمل أن يضاف المال إليهم لا لأنهم ملكوه بل لأنهم ملكوا التصرف فيه ، ويكفي في حسن الإضافة أدنى سبب . وقيل : خطاب للآباء نهاهم الله تعالى إذا كان أولادهم سفهاء أن يدفعوا أموالهم أو بعضها إليهم . فعلى هذا تكون إضافة الأموال إليهم حقيقة . والغرض الحث على حفظ المال وأنه إذا قرب أجله يجب عليه أن يوصي بماله إلى أمين يحفظه على ورثته . وقد يرجح القول بأن ظاهر النهي للتحريم ، وأجمعت الأمة على أنه لا يحرم عليه أن يهب من أولاده الصغار ومن النسوان ما شاء من ماله . وأجمعوا على أنه يحرم على الولي أن يدفع إلى السفهاء أموالهم ، وأيضاً قوله : { وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً } هذه الأوامر تناسب حال الأولياء لا الآباء . وأقول : لا يبعد حمل الآية على كلا القولين ، لأن الإضافة في أموالكم لا تفيد إلا الاختصاص سواء كان اختصاص الملكية أو اختصاص التصرف . واختلفوا في السفهاء فعن مجاهد والضحاك أنها النساء أزواجاً كن أو أمهات أو بنات ، وهو مذهب ابن عمرو يدل عليه ما روى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا إنما خلقت النار للسفهاء " يقولها ثلاثاً . وإن السفهاء النساء إلا امرأة أطاعت قيمها . وقد جمع فعيلة على فعلاء كفقيرة وفقراء . وقال الزهري وابن زيد : هم الأولاد الخفاف العقول . وعن ابن عباس والحسن وقتادة وسعيد بن جبير : إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة وأن ولده سفيه مفسد فلا ينبغي له أن يسلط واحداً منهما على ماله . والصحيح أن المراد بالسفهاء كل من ليس له عقل يفي بحفظ المال ولا يد له بإصلاحه وتثميره والتصرف فيه ، ويدخل فيه النساء والصبيان والأيتام والفساق وغيرهم مما لا وزن لهم عند أهل الدين والعلم بمصالح الدارين ، فيضع المال فيما لا ينبغي ويفسده . ومعنى { جعل الله لكم قياماً } أنه لا يحصل قيامكم وانتعاشكم إلا به . سماه بالقيام إطلاقاً لاسم المسبب على السبب . ومن قرأ { قيماً } فعلى حذف الألف من { قياماً } وهو مصدر قام وأصله قوام قلبت الواو ياء لإعلال فعله . فإن لم يكن مصدراً لم يعل كقوام لما يقام به . وكان السلف يقولون : المال سلاح المؤمن ، ولأن أترك مالاً يحاسبني الله عليه خير من أحتاج إلى الناس . وقال عبد الله بن عباس : الدراهم والدنانير خواتيم الله في الأرض لا تؤكل ولا تشرب حيث قصدت بها قضيت حاجتك . وقال قيس بن سعد : اللهم ارزقني حمداً ومجداً فإنه لا حمد إلا بفعال ، ولا مجد إلا بمال . وقيل لأبي الزناد : لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا ؟ قال : هي وإن أدنتني فقد صانتني عنها . وكانوا يقولون : اتجروا واكتسبوا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه . وربما رأوا رجلاً في تشييع جنازة فقالوا له : اذهب إلى مكانك . وقال بعض الحكماء : من أضاع ماله فقد ضارّ الأكرمين : الدين العرض . وفي منثور الحكم : من استغنى كرم على أهله . وفيه : الفقر مخذلة ، والغنى مجدلة ، والبؤس مرذلة ، والسؤال مبذلة . وكان يقال : الدراهم مراهم لأنها تداوي كل جرح ويطيب بها كل صلح . وقال أبو العتاهية :

أجلك قوم حين صرت إلى الغنى *** وكل غني في العيون جليل

إذا مالت الدنيا على المرء رغبت *** إليه ومال الناس حيث تميل

وليس الغنى إلا غنى زين الفتى *** عشية يقرى أو غداة ينيل

وقد اختلف أقوال الناس في تفضيل الغنى والفقر مع اتفاقهم أن ما أحوج من الفقر مكروه ، وما أبطر من الغنى مذموم . فذهب قوم إلى تفضيل الغنى على الفقر ، لأن الغني مقتدر والفقير عاجز والقدرة أفضل من العجز . وهذا مذهب من غلب عليه حب النباهة . وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر على الغنى ، لأن الفقير تارك والغنى ملابس ، وترك الدنيا أفضل من ملابستها وهذا قول من غلب عليه حب السلامة . وقال الباقون : خير الأمر أوساطها ، والفضل للاعتدال بين الفقر والغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين ، ويسلم من مذمة الحالين .

ومن كلفته النفس فوق كفافها *** فما ينقضي حتى الممات عناؤه

والحاصل أن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بمصالح الدارين ، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال ، فبذلك يتمكن من جلب المنافع ودفع المضار ولهذا رغب الله تعالى في حفظه ههنا . وفي آية المداينة حيث أمر بالكتاب والشهادة والرهان المقبوضة ، فمن أراد الدنيا لهذا الغرض فنعمت المعونة هي ، ومن أرادها لعينها فيا لها من حسرة وندامة . ثم إنه سبحانه أمر بعد ذلك بثلاثة أشياء وذلك قوله : { وارزقوهم فيها } وإنما لم يقل " منها " كيلا يكون أمراً بجعل بعض أموالهم رزقاً لهم فيأكلها الإنفاق ، بل أمر بأن يجعلوها مكاناً لرزقهم بأن يتجروا فيها ويربحوها حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من أصول الأموال وصلبها { واكسوهم } كل من الرزق والكسوة بحسب المصلحة وكما يليق بحال أمثالهم { وقولوا لهم قولاً معروفاً } قال ابن جريج ومجاهد : هو عدة جميلة من البر والصلة . وقال ابن عباس : هو مثل أن يقول : إذا ربحت في سفري هذا فعلت بك ما أنت أهله ، وإن غنمت في غزاتي جعلت لك حظاً . وقال ابن زيد : إن لم يكن ممن وجبت نفقته عليك فقل : عافانا الله وإياك وبارك الله فيك . وقال الزجاج : علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم بما يتعلق بالعلم والعمل . وقال القفال : إن كان صبياً فالوالي يعرّفه أن المال ماله وأنه إذا زال صباه فإن يرّد المال إليه كقوله :{ فأما اليتيم فلا تقهر }[ الضحى :9 ] أي لا تعاشره بالتسلط عليه كما تعاشر العبيد وإن كان سفيهاً ، وعظه ونصحه وحثه على الصلاة وعرفه أن عاقبة الإسراف فقر واحتياج . وبالجملة فكل ما سكنت إليه النفس وأحبته لحسنة عقلاً أو شرعاً من قول أو عمل فهو معروف ، وما نفرت منه لقبحه فمنكر ،

/خ10