ثم إنه تعالى لما أمر بإيتاء اليتامى أموالهم ويدفع صدقات النساء إليهن ، استثنى منهم خفاف الأحلام وإن بلغوا أوان التكليف فقال : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } أكثر العلماء على أن هذا الخطاب للأولياء . فورد أن الأنسب أن لو قيل لأموالهم . وأجيب بأنه إنما حسنت إضافة الأموال إلى المخاطبين إجراء للوحدة النوعية مجرى الوحدة الشخصية كقوله :{ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم }[ البقرة :85 ] ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه ولكن كان بعضهم يقتل بعضاً فقيل : " أنفسكم " لأن الكل من نوع واحد فكذا هنا المال شيء ينتفع به الإنسان ويحتاج إليه ، فلهذه الوحدة النوعية حسنت إضافة أموال السفهاء إلى أوليائهم . ويحتمل أن يضاف المال إليهم لا لأنهم ملكوه بل لأنهم ملكوا التصرف فيه ، ويكفي في حسن الإضافة أدنى سبب . وقيل : خطاب للآباء نهاهم الله تعالى إذا كان أولادهم سفهاء أن يدفعوا أموالهم أو بعضها إليهم . فعلى هذا تكون إضافة الأموال إليهم حقيقة . والغرض الحث على حفظ المال وأنه إذا قرب أجله يجب عليه أن يوصي بماله إلى أمين يحفظه على ورثته . وقد يرجح القول بأن ظاهر النهي للتحريم ، وأجمعت الأمة على أنه لا يحرم عليه أن يهب من أولاده الصغار ومن النسوان ما شاء من ماله . وأجمعوا على أنه يحرم على الولي أن يدفع إلى السفهاء أموالهم ، وأيضاً قوله : { وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً } هذه الأوامر تناسب حال الأولياء لا الآباء . وأقول : لا يبعد حمل الآية على كلا القولين ، لأن الإضافة في أموالكم لا تفيد إلا الاختصاص سواء كان اختصاص الملكية أو اختصاص التصرف . واختلفوا في السفهاء فعن مجاهد والضحاك أنها النساء أزواجاً كن أو أمهات أو بنات ، وهو مذهب ابن عمرو يدل عليه ما روى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا إنما خلقت النار للسفهاء " يقولها ثلاثاً . وإن السفهاء النساء إلا امرأة أطاعت قيمها . وقد جمع فعيلة على فعلاء كفقيرة وفقراء . وقال الزهري وابن زيد : هم الأولاد الخفاف العقول . وعن ابن عباس والحسن وقتادة وسعيد بن جبير : إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة وأن ولده سفيه مفسد فلا ينبغي له أن يسلط واحداً منهما على ماله . والصحيح أن المراد بالسفهاء كل من ليس له عقل يفي بحفظ المال ولا يد له بإصلاحه وتثميره والتصرف فيه ، ويدخل فيه النساء والصبيان والأيتام والفساق وغيرهم مما لا وزن لهم عند أهل الدين والعلم بمصالح الدارين ، فيضع المال فيما لا ينبغي ويفسده . ومعنى { جعل الله لكم قياماً } أنه لا يحصل قيامكم وانتعاشكم إلا به . سماه بالقيام إطلاقاً لاسم المسبب على السبب . ومن قرأ { قيماً } فعلى حذف الألف من { قياماً } وهو مصدر قام وأصله قوام قلبت الواو ياء لإعلال فعله . فإن لم يكن مصدراً لم يعل كقوام لما يقام به . وكان السلف يقولون : المال سلاح المؤمن ، ولأن أترك مالاً يحاسبني الله عليه خير من أحتاج إلى الناس . وقال عبد الله بن عباس : الدراهم والدنانير خواتيم الله في الأرض لا تؤكل ولا تشرب حيث قصدت بها قضيت حاجتك . وقال قيس بن سعد : اللهم ارزقني حمداً ومجداً فإنه لا حمد إلا بفعال ، ولا مجد إلا بمال . وقيل لأبي الزناد : لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا ؟ قال : هي وإن أدنتني فقد صانتني عنها . وكانوا يقولون : اتجروا واكتسبوا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه . وربما رأوا رجلاً في تشييع جنازة فقالوا له : اذهب إلى مكانك . وقال بعض الحكماء : من أضاع ماله فقد ضارّ الأكرمين : الدين العرض . وفي منثور الحكم : من استغنى كرم على أهله . وفيه : الفقر مخذلة ، والغنى مجدلة ، والبؤس مرذلة ، والسؤال مبذلة . وكان يقال : الدراهم مراهم لأنها تداوي كل جرح ويطيب بها كل صلح . وقال أبو العتاهية :
أجلك قوم حين صرت إلى الغنى *** وكل غني في العيون جليل
إذا مالت الدنيا على المرء رغبت *** إليه ومال الناس حيث تميل
وليس الغنى إلا غنى زين الفتى *** عشية يقرى أو غداة ينيل
وقد اختلف أقوال الناس في تفضيل الغنى والفقر مع اتفاقهم أن ما أحوج من الفقر مكروه ، وما أبطر من الغنى مذموم . فذهب قوم إلى تفضيل الغنى على الفقر ، لأن الغني مقتدر والفقير عاجز والقدرة أفضل من العجز . وهذا مذهب من غلب عليه حب النباهة . وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر على الغنى ، لأن الفقير تارك والغنى ملابس ، وترك الدنيا أفضل من ملابستها وهذا قول من غلب عليه حب السلامة . وقال الباقون : خير الأمر أوساطها ، والفضل للاعتدال بين الفقر والغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين ، ويسلم من مذمة الحالين .
ومن كلفته النفس فوق كفافها *** فما ينقضي حتى الممات عناؤه
والحاصل أن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بمصالح الدارين ، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال ، فبذلك يتمكن من جلب المنافع ودفع المضار ولهذا رغب الله تعالى في حفظه ههنا . وفي آية المداينة حيث أمر بالكتاب والشهادة والرهان المقبوضة ، فمن أراد الدنيا لهذا الغرض فنعمت المعونة هي ، ومن أرادها لعينها فيا لها من حسرة وندامة . ثم إنه سبحانه أمر بعد ذلك بثلاثة أشياء وذلك قوله : { وارزقوهم فيها } وإنما لم يقل " منها " كيلا يكون أمراً بجعل بعض أموالهم رزقاً لهم فيأكلها الإنفاق ، بل أمر بأن يجعلوها مكاناً لرزقهم بأن يتجروا فيها ويربحوها حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من أصول الأموال وصلبها { واكسوهم } كل من الرزق والكسوة بحسب المصلحة وكما يليق بحال أمثالهم { وقولوا لهم قولاً معروفاً } قال ابن جريج ومجاهد : هو عدة جميلة من البر والصلة . وقال ابن عباس : هو مثل أن يقول : إذا ربحت في سفري هذا فعلت بك ما أنت أهله ، وإن غنمت في غزاتي جعلت لك حظاً . وقال ابن زيد : إن لم يكن ممن وجبت نفقته عليك فقل : عافانا الله وإياك وبارك الله فيك . وقال الزجاج : علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم بما يتعلق بالعلم والعمل . وقال القفال : إن كان صبياً فالوالي يعرّفه أن المال ماله وأنه إذا زال صباه فإن يرّد المال إليه كقوله :{ فأما اليتيم فلا تقهر }[ الضحى :9 ] أي لا تعاشره بالتسلط عليه كما تعاشر العبيد وإن كان سفيهاً ، وعظه ونصحه وحثه على الصلاة وعرفه أن عاقبة الإسراف فقر واحتياج . وبالجملة فكل ما سكنت إليه النفس وأحبته لحسنة عقلاً أو شرعاً من قول أو عمل فهو معروف ، وما نفرت منه لقبحه فمنكر ،
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.