{ وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ } لما حقق سبحانه وتعالى فيما سبق أن وراء الحياة الدنيا حياة أخرى يلقون فيها من الخطوب ما يلقون ، بيَّن جل شأنه حال تينك الحياتين في أنفسهما ، وجعله بعضهم جواباً لقولهم : { إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } [ الأنعام : 29 ] وفيه بعد ، وكيفما كان فالمراد وما أعمال الحياة الدنيا المختصة بها إلا كاللعب واللهو في عدم النفع والثبات ، وبهذا التقدير خرج كما قال غير واحد ما فيها من الأعمال الصالحة كالعبادة وما كان لضرورة المعاش ، والكلام من التشبيه البليغ ولو لم يقدر مضاف ، وجعلت الدنيا نفسها لعباً ولهواً مبالغة كما في قوله
: وإنما هي إقبال وإدبار *** صح ، واللهو واللعب على ما في «درة التنزيل«يشتركان في أنهما الاشتغال بما لا يعني العاقل ويهمه من هوى وطرب سواء كان حراماً أو لا ؛ وفرق بينهما بأن اللعب ما قصد به تعجيل المسرة والاسترواح به واللهو كل ما شغل من هوى وطرب وإن لم يقصد به ذلك ، وإذا أطلق اللهو فهو على ما قيل اجتلاب المسرة بالنساء كما في قوله
: ألا زعمت بسياسة اليوم أنني *** كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي
وقال قتادة : اللهو في لغة اليمن المرأة ، وقيل : اللعب طلب المسرة والفرح بما لا يحسن أن يطلب به واللهو صرف الهم بما لا يصلح أن يصرف به ، وقيل : إن كل شغل أقبل عليه لزم الإعراض عن كل ما سواه لأن من لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى فإذا أقبل على الباطل لزم الإعراض عن الحق فالإقبال على الباطل لعب والإعراض عن الحق لهو ، وقيل : العاقل المشتغل بشىء لا بد له من ترجيحه وتقديمه على غيره فإن قدمه من غير ترك للآخر فلعب وإن تركه ونسيه به فهو لهو ، وقد بين صاحب «الدرة » بعد أن سرد هذه الأقوال سر تقديم اللعب على اللهو حيث جمعا كما هنا وتأخيره عنه كما في العنكبوت بأنه لما كان هذا الكلام مسوقاً للرد على الكفرة فيما يزعمونه من إنكار الآخرة والحصر السابق وليس في اعتقادهم لجهلهم إلا ما عجل من المسرة بزخرف الدنيا الفانية قدم اللعب الدال على ذلك وتمم باللهو أو لما طلبوا الفرح بها وكان مطمح نظرهم وصرف الهم لازم وتابع له قدم ما قدم أو لما أقبلوا على الباطل في أكثر أقوالهم وأفعالهم قدم ما يدل على ذلك أو لما كان التقديم مقدماً على الترك والنسيان قدم اللعب على اللهو رعاية للترتيب الخارجي ، وأما في العنكبوت فالمقام لذكر قصر مدة الحياة الدنيا بالقياس إلى الآخرة وتحقيرها بالنسبة إليها ولذا ذكر اسم الإشارة المشعر بالتحقير وعقب ذلك بقوله سبحانه وتعالى :
{ وإن الدار الاخرة لَهِىَ الحيوان } [ العنكبوت : 46 ] والاشتغال باللهو مما يقصر به الزمان وهو أدخل من اللعب فيه ، وأيام السرور فصار كما قال
: وليلة إحدى الليالي الزهر *** لم تك غير شفق وفجر
وينزل على هذا الوجوه في الفرق ، وتفصيله في «الدرة » قاله مولانا شهاب الدين فليفهم .
{ وَلَلدَّارُ الاخرة } التي هي محل الحياة الأخرى { خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } الكفر والمعاصي لخلوص منافعها عن المضار والآلام وسلامة لذاتها عن الانصرام { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ذلك حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والعصيان ، والفاء للعطف على محذوف أي أتغفلون ( أو ألا تتفكرون فلا تعقلون ) ، وكان الظاهر أن يقال كما قال الطيبي وما الدار الآخرة إلا جد وحق لمكان { وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ } إلا أنه وضع { خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } موضع ذلك إقامة للمسبب مقام السبب ، وقال في «الكشف » : إن في ذلك دليلاً على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو لأنه لما جعل الدار الآخرة في مقابلة الحياة الدنيا وحكم على الأعمال المقابل بأنها لعب ولهو علم تقابل العملين حسب تقابل ما أضيفا إليه أعني الدنيا والآخرة فإذا خص الخيرية بالمتقين لزم منه أن ما عدا أعمالهم ليس من أعمال الآخرة في شيء فهو لعب ولهو لا يعقب منفعة . وقرأ ابن عامر { وَلَدَارُ الاخرة } بالإضافة وهي من إضافة الصفة إلى الموصوف وقد جوزها الكوفيون ، ومن لم يجوز ذلك تأوله بتقدير ولدار النشأة الآخرة أو إجراء الصفة مجرى الاسم ، وقرأ ابن كثير وغيره { يَعْقِلُونَ } بالياء والضمير للكفار القائلين { إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } [ الأنعام : 29 ] ، وقيل : للمتقين والاستفهام للتنبيه والحث على التأمل .
( ومن باب الإشارة ) :{ وَمَا الحياة الدنيا } أي الحياة الحسية فإن المحسوس أدنى وأقرب من المعقول { إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ } لا أصل له ولا حقيقة سريع الفناء والانقضاء { وللدار الآخرة } أي عالم الروحانيات { خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } [ الأنعام : 32 ] وهم المتجردون عن ملابس الصفات البشرية واللذات البدنية
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.