التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{قُل لَّآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ وَلَآ أَقُولُ لَكُمۡ إِنِّي مَلَكٌۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّۚ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} (50)

قوله تعالى : { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون ( 50 ) وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ( 51 ) ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظلمين ( 52 ) وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ( 53 ) وإذا جاءك الذين يؤمنون بئايتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ( 54 ) وكذلك نفصل الأيت ولتستبين سبيل المجرمين } .

الخزائن جمع خزينة أو خزانة . وهي في الأصل ما يحفظ فيه من الأشياء النفائس . والمراد بالخزائن هنا رزق الله ومقدوراته . وذلك جواب لاقتراحات المشركين أن يطلب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه إنزال الآيات أو أن يقلب الجبال ذهبا أو أن يوسع عليهم منافع الدنيا وخيراتها ويفتح عليهم أبواب سعادتها . فخاطب الله نبيه أن يجيبهم { قل لا أقول لكم عندي خزئن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك } أي لا أدعي أن خزائن الله مفوضة إلي فأتصرف فيها كيفما أشاء حتى تقترحوا علي فعل الخوارق من الأعمال فمثل ذلك ليس من شأني بل هو بيد الله القادر القاهر . وكذلك قال لهم : { ولا أعلم الغيب } وذلك أن القوم كانوا يظنون أن الذي يكون رسولا سيكون مطلعا على الغيب ومكتشفا لخوافي الأمور مما هو خفي مستور . فكانوا يقولون له : إن كنت رسولا من عند الله فأخبرنا عما يقع في المستقبل من المصالح والمضار حتى نستعد لتحصيل تلك المصالح ودفع تلك المضار . فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يعلم الغيب بل إن الغيب لا يعلمه إلا الله فكيف تسألوني ما ليس من شأني وما لا أملك .

وكذلك أمره ربه أن يقول لهم : { ولا أقول لكم إني ملك } ، لأنه لا ينبغي للملك أن يظهر بصورته لأنظار البشر في هذه الدنيا . وقد كانوا يتوهمون أن النبي ما ينبغي له أن يأكل الطعام ويمشي في الأسواق . ويفعل ما يفعله البشر ، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بملك ولكنه بشر بطبعه وصورته وأصله .

قوله : { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } يعني ما أتبع فيما أقوله لكم وأدعوكم إليه إلا ما أوحى إلي من ربي . فأنا لما جاءني من الله وحيا فأمضي لوحيه وأئتمر بأمره وأنزجر عن نواهيه . وتعرض في هذا الصدد مسألة وهي اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم . فقد اختلف العلماء في جواز اجتهاده عليه الصلاة والسلام وثمة مذاهب ثلاثة في هذه المسألة .

المذهب الأول : جواز الاجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم . وهو قول الجمهور . إذ ذهبوا إلى جواز الاجتهاد منه عليه السلام فيما فيه نص ، واحتجوا لذلك بعدة أدلة منها :

أولا : عموم قوله تعالى : { فاعتبروا يأولي الأبصار } والنبي صلى الله عليه وسلم كان أعلى الناس بصيرة وأعلمهم بالقياس . فهو بذلك حقيق أن يكون في جملة المأمورين هنا بالاعتبار .

ثانيا : الاجتهاد أكثر ثوابا لما فيه المشقة وبذل الجهد . وفي الحديث " أفضل العبادات أحمزها " {[1168]} أي أشقها . وقال . وقال عليه السلام : " ثوابك على قدر نصبك " {[1169]} أي تعبك . والأكثر ثوابا أولى وأفضل . وعلو درجته صلى الله عليه وسلم توجب أن لا يسقط عنه ذلك ، تحصيلا لمزيد الثواب . وكيلا يختص غيره بفضيلة ليست له .

ثالثا : العمل بالاجتهاد أدل على الفطانة وكمال البصيرة من العمل بالنص . وذلك لتوقف الاجتهاد على النظر الدقيق والقريحة المستجاشة . فلا يتركه النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه فضيلة .

المذهب الثاني : عدم جواز الاجتهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم . وهو قول الأشاعرة ، وهم التابعون لأبي الحسن الأشعري ، إذ منعوه شرعا وكذلك منعه أكثر المعتزلة عقلا . واحتجوا لذلك بعدة أدلة منها قوله تعالى : { وما ينطق عن الهوى ( 3 ) إن هو إلا وحي يوحى } وكذلك هذه الآية التي نحن بصددها وهي { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } وهذا ظاهر في العموم وأن كل ما ينطق به فهو وحي وهو ينفي الاجتهاد ، لأنه قوله بالرأي . وأجيب عن ذلك بأن الظاهر من قوله : { وما ينطق } أنه رد لما كانوا يقولونه في القرآن من أنه مفترى ، فيختص بما بلغه وينتفي العموم .

ومنها : أنه لو كان متعبدا بالاجتهاد لما أخر جوابا عما سئل عنه . وقد أخر كثيرا كما في الظهار واللعان . وفي هذا الاستدلال نظر . فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤخر الجواب في الظهار واللعان . بل أجاب في اللعان بقوله : " البينة أو الحد في ظهرك " وهو من رواية ابن ماجه عن ابن عباس . وكذلك قوله في الظهار " ما أرى إلا أنها قد بانت منك " ثم نسخ الحكمان بنزول آيتيهما .

المذهب الثالث : الوقف عن القطع بشيء من ذلك . هو أبي بكر الباقلاني والغزالي . وقال الشوكاني في رد ذلك : لا وجه للوقف في هذه المسألة لما قدمناه من الأدلة الدالة على الوقوع .

ويدل على علة وقوع الاجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } فقد عاتبه ربه على ما وقع منه . ولو كان ذلك بالوحي لم يعاتبه . وكذلك معاتبه صلى الله عليه وسلم على أخذ الفداء من أسرى بدر بقوله : { ما كان لبني أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } إلى غير ذلك مما يدل على جواز الاجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم{[1170]} .

قوله : { قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون } الأعمى يراد به المشرك الظالم لنفسه ، والذي فسق عن دين الله وكذب رسله وجحد وشريعته .

وعمي عما الله من الأدلة والبراهين التي تكتشف عن وجه الحق . ويراد بالبصير ، المؤمن الذي وعى البينات والحجج وصدق رسل الله الكرام جميعا وأيقن أن القرآن حق . فهل يستوي هذان الاثنان ؟ لا جرم أنهما لا يستويان . كعدم استواء الحق والباطل ، أو كل متضادين متناقضين .

قوله : { أفلا تتفكرون } الاستفهام هنا للتقرير والتوبيخ . والمعنى : أفلا تمنعون التفكير والنظر فيما بيناه لكم من الدلائل والمعجزات التي تكشف عن حقيقة هذا الدين وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاءكم به من ربه ؟ أفلا تفرقون بين الحق القائم على التوحيد والذي جاء به الإسلام هداية للناس . والباطل القائم على الشرك والضلال والهوى ؟


[1168]:- انظر كشف الخفاء ومزيل الإلباس للعجلوني ج 1 ص 155.
[1169]:- رواه مسلم عن عائشة مرفوعا بلفظ: "إنما أجرك على قدر نصبك".
[1170]:- الإبهاج في شرح المنهاج ج 3 ص 247 وفواتح الرحموت ج 2 ص 366 والمبسوط للسرخسي ج 2 ص 63 وحاشية التفتازاني ج 2 ص 291 ونهاية السول ج 4 ص 531 وإرشاد الفحول ص 256.