إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قُل لَّآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ وَلَآ أَقُولُ لَكُمۡ إِنِّي مَلَكٌۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّۚ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} (50)

{ قُل لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ الله } استئنافٌ مبنيٌّ على ما أسِّسَ من السنة الإلهية في شأنِ إرسالِ الرسل وإنزالِ الكتُب ، مَسوقٌ لإظهار تبرِئتِه صلى الله عليه وسلم عما يدورُ عليه مقترحاتُهم ، أي قل للكفرة الذين يقترحون عليك تارةً تنزيلَ الآياتِ وأخرى غيرَ ذلك لا أدَّعي أن خزائنَ مقدوراتِه تعالى مُفوَّضةٌ إلي أتصرَّفُ فيها كيفما أشاء استقلالاً أو استدعاءً ، حتى تقترحوا عليّ تنزيلَ الآياتِ أو إنزالَ العذاب ، أو قلبَ الجبال ذهباً ، أو غيرَ ذلك مما لا يليق بشأني ، وجعلُ هذا تبرُّؤاً عن دعوى الإلهية مما لا وجهَ له قطعاً ، وقوله تعالى : { وَلا أَعْلَمُ الغيب } عطفٌ على محلِّ ( عندي خزائنُ الله ) ، أي لا أدّعي أيضاً أني أعلم الغيبَ من أفعاله تعالى حتى تسألوني عن وقت الساعة أو وقت نزول العذاب أو نحوهما { وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّي مَلَكٌ } حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقةِ للعادات ما لا يُطيق البشرُ من الرُقيِّ في السماء ونحوه ، أو تعدوا عدمَ اتّصافي بصفاتهم قادحاً في أمري كما ينبئ عنه قولهم : { مَا لهذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي في الأسواق } [ الفرقان ، الآية 7 ] والمعنى إني لا أدَّعي شيئاً من هذه الأشياء الثلاثةِ حتى تقترحوا عليَّ ما هو من آثارها وأحكامها ، وتجعلوا عدمَ إجابتي إلى ذلك دليلاً على عدم صحةِ ما أدَّعيه من الرسالة التي لا تعلُّقَ لها بشيء مما ذُكر قطعاً بل إنما هي عبارةٌ عن تلقِّي الوحْي من جهةِ الله عز وجل ، والعملِ بمقتضاه فحسْب ، حسْبما ينبئ عنه قوله تعالى : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيّ } لا على معنى تخصيص اتباعه صلى الله عليه وسلم بما يوحى إليه دون غيره بتوجيه القَصْر إلى المفعول بالقياس إلى مفعولٍ آخرَ كما هو الاستعمال الشائعُ الواردُ على توجيه القصْر إلى ما يتعلّق بالفعل باعتبار النفي في الأصل ، والإثبات في القيد ، بل على معنى تخصيص حالِه صلى الله عليه وسلم باتباع ما يوحى إليه بتوجيه القصرِ إلى نفس الفعل بالقياس إلى ما يغرّه من الأفعال ، لكن لا باعتبار النفي والإثباتِ معاً في خصوصية ، فإن ذلك غيرُ ممكن قطعاً ، بل باعتبار النفي فيما يتضمّنه من مُطلق الفعل ، والإثباتِ فيما يقارنه من المعنى المخصوص ، فإنّ كلَّ فعلٍ من الأفعال الخاصَّةِ كنصر مثلاً ينحلّ عند التحقيق إلى معنىً مطلقٍ هو مدلولُ لفظِ الفعل وإلى معنىً خاصّ يقوم به فإن معناه فعَلَ النصْرَ ، يُرشدك إلى ذلك قولُهم : فلانٌ يُعطي ويمنع بمعنى يفعل الإعطاء والمنع ، فموردُ القصر في الحقيقة ما يتعلقُ بالفعل بتوجيه النفي إلى الأصل والإثباتِ إلى القيد ، كأنه قيل : ما أفعلُ إلا اتباعَ ما يوحى إليّ مِنْ غير أن يكون لي مدخَلٌ ما في الوحي أو في الموحى بطريق الاستدعاء ، أو بوجهٍ آخرَ من الوجوه أصلاً . { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير } مثل للضال والمهتدي على الإطلاق ، والاستفهام إنكاري والمراد إنكارُ استواءِ مَنْ لا يعلم ما ذُكر من الحقائق ومن يعلمُها وفيه من الإشعار بكمالِ ظهورِها ومن التنفير عن الضلالِ والترغيب في الاهتداء ما لا يخفى ، وتكريرُ الأمر لتثنية التبكيتِ وتأكيدِ الإلزام ، وقوله تعالى : { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } تقريعٌ وتوبيخٌ داخلٌ تحت الأمر ، والفاء للعطف على مقدَّر يقتضيه المقام ، أي ألا تسمعون هذا الكلامَ الحقَّ فلا تتفكرون فيه ، أو أتسمعون فلا تتفكرون فيه ، فمناطُ التوبيخِ في الأول عدمُ الأمرَيْنِ معاً ، وفي الثاني عدم التفكر مع تحقق ما يُوجبه .