هذا بقية الكلام على قوله : " لولا أنزل عليه آية من ربه " فقال الله تعالى : قل لهؤلاء الأقوام : إني بُعِثْتُ مبشّراً ومنذراً وليس لي أن أتَحَكَّمَ على اللَّهِ .
واعلم أن القَوْمَ كانوا يقولون : إن كنت رَسُولاً من عند الله فَاطْلُبْ من الله حتى يُوَسِّعَ عَلْينَا مَنَافِعَ الدُّنْيَا وخَيْرَاتِهَا ، فقال الله تعالى : قل لهم " إني لا أقول لكم عندي خزائن الله " ، فهو -تعالى- يؤتي المُلْكَ من يشاء ، ويُعِزُّ من يَشَاءُ ، ويُذِلُّ من يشاء ، لا بيدي .
الخَزَائنُ : جمع " خزانة " ، وهو اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء ، وخَزْنُ الشيء إحرازه بحيث لا تَنَالُهُ الأيْدِي{[13925]} .
قوله : { وَلا أَعْلَمُ الْغَيْب } في مَحَلِّ هذه الجملة وَجْهَان :
أحدهما : النَّصْبُ عَطْفاً على قوله : { عِنْدِي خزائِنُ اللَّهِ } لأنه من جملة المَقُول ، كأنه قال : " لا أقُولُ لكم هذا القول ، ولا هذا القول " .
قال الزمخشري{[13926]} . وفيه نَظَرٌ من حيث إنه يُؤدِّي إلى أنه يصير التقدير : ولا أقُولُ لكم : لا أعلم الغَيْبَ وليس بصحيح .
والثاني : أنه معطوف على " لا أقول " لا مَعْمُولٌ له ، فهو أمَرَ أن يخبر عن نَفْسِهِ بهذه الجُمَلِ الثلاث فهي معمولة للأمر الذي هو " قل " ، وهذا تخريج أبي حيَّان{[13927]} قال بعد أن حكى قول الزَّمخشري : " ولا يتَعيَّنُ ما قاله ، بل الظَّاهرُ أنه مَعْطُوفٌ على لا أقول " إلى آخرة .
والمعنى : أن القوم يقولون : إن كنت رَسُولاً من عند اللَّهِ ، فلا بُدَّ وأن تخبرنا عمَّا سَيَقَعُ في المستقبل من المَصَالِحِ المضارِّ حتى نَسْتَعِدَّ لتحصيل تلك المنافع ، ولدفع تلك المَضَارِّ ، فقال تعالى : " قل : إني لا أعلم الغيب ولا أقول : إنّي ملك " ومعناه : أنهم كانوا يقولون : { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاق }
[ الفرقان :7 ] ويتزوج ويخالط الناس ، فقال تعالى : قل لهم : إني لست من الملائكة .
اختلفوا في الفائدةِ من ذكر هذه الأحْوَالِ الثلاثة ، فقيل : المرادُ منه أن يَظْهِرَ الرسول من نَفْسِه التَّواضُع للّه ، والاعتراف بِعُبُوديَّتِهِ حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النَّصارى في المسيح عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .
وقيل : إن القوم كانوا يَقْتَرِحُون عليه إظْهَارَ المعجزات القاهرة ، كقولهم : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُر لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً } [ الإسراء :90 ] فقال تعالى في آخر الآية : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء :93 ] يعني : أنَا لا أدَّعِي إلاَّ الرسالةَ والنُّبُوَّة ، وهذه الأمور التي طلبتموها ، فلا يمكن تحصيلها إلاَّ بقدرة الله .
وقيل : المُرَادُ من قوله : { لا أقُولُ لكُمْ عِنْدِي خزائِنُ اللَّهِ } ، أي : لا أدَّعي كوني مَوْصُوفاً بالقُدْرَةِ ، ولا أعلم الغَيْبَ ، أي : ولا أدَّعي كَوْنِي موصوفاً بعلم الله تعالى ، وبمجموع هَذَيْنِ الكلامين حَصَلَ أنه لا يدَّعِي الإلهيَّة .
ثُمَّ قال : { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ : إِنِّي مَلَكٌ } وذلك ؛ لأنه ليس بعد الإلهيَّةِ دَرَجَةٌ أعلى حالاً من الملائكة فصار حاصل الكلام كأنَّهُ يقول : لا أدَّعي الإلهية ، ولا أدَّعي الملكيَّة ، ولكن أدَّعي الرِّسالة ، وهذا مَنْصِبٌ لا يمتنع حصُوله [ للبشر ]{[13928]} فكيف أطْبَقْتُمْ على استنكار قولي{[13929]} .
فصل في رد شبهة الجبائي في تفضيل الملائكة
قال الجُبَّائي : دَلَّتِ الآية على أنَّ الملكَ أفْضَلُ من الأنبياء ؛ لأن [ معنى الكلام ]{[13930]} لا أدَّعي مَنْزِلَةً أقْوَى من مَنْزِلَتِي ، ولولا أن المَلك أفضل ، وإلاَّ لم يصح .
قال القاضي{[13931]} : إن كان الغرض بها نفي{[13932]} طريقة التَّواضُعِ ، فالأقرب يَدُلُّ على أن الملكَ أفْضَلُ ، وإن كان المراد نَفْيَ قدرته عن أفعالٍ لا يقوى عليها إلاَّ الملائكة لم يَدُلَّ على كونه أفْضَلَ .
قوله : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ } .
يَدُلُّ على أنه لا يعمل إلاَّ بالوَحْي ، وأنه لم يكن يحكم من تِلْقَاء نفسه في شيء من الأحكام ، وأنَّهُ ما كان يجتهد ، ويؤكد ذلك قوله تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى }
واسْتَدَلَّ نُفَاةُ القياس بهذا النصّ ، قالوا : لأنَّهُ عَلَيْه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما كان يَعْمَلُ إلا بالوَحْي النَّازِلِ ، فوجبَ ألاَّ يجوز لأحدٍ من أمَّتِهِ أن يعمل إلاَّ بالوَحْيِ النَّازل ، ولقوله تعالى : { وَاتَّبِعُوهُ } [ الأعراف : 158 ] وذلك ينفي جواز العمل بالقياسِ .
ثم أكَّدَ ذلك بقوله : { هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } ، وذلك لأن العمل بغير الوَحْي يجري مجرى عَمَل الأعمى ، والعملُ بمقتضى نزول الوَحْي يجري مجرى عملِ البصيرِ ، ثم قال تعالى : { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } .
والمراد منه التنبيه على أنه يجب على العَاقِلِ أن يعرف الفَرْقَ بين هذيْنِ البَابَيْنِ ، وألاَّ يكون غَافِلاً عن معرفة الله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.