اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُل لَّآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ وَلَآ أَقُولُ لَكُمۡ إِنِّي مَلَكٌۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّۚ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} (50)

هذا بقية الكلام على قوله : " لولا أنزل عليه آية من ربه " فقال الله تعالى : قل لهؤلاء الأقوام : إني بُعِثْتُ مبشّراً ومنذراً وليس لي أن أتَحَكَّمَ على اللَّهِ .

واعلم أن القَوْمَ كانوا يقولون : إن كنت رَسُولاً من عند الله فَاطْلُبْ من الله حتى يُوَسِّعَ عَلْينَا مَنَافِعَ الدُّنْيَا وخَيْرَاتِهَا ، فقال الله تعالى : قل لهم " إني لا أقول لكم عندي خزائن الله " ، فهو -تعالى- يؤتي المُلْكَ من يشاء ، ويُعِزُّ من يَشَاءُ ، ويُذِلُّ من يشاء ، لا بيدي .

الخَزَائنُ : جمع " خزانة " ، وهو اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء ، وخَزْنُ الشيء إحرازه بحيث لا تَنَالُهُ الأيْدِي{[13925]} .

قوله : { وَلا أَعْلَمُ الْغَيْب } في مَحَلِّ هذه الجملة وَجْهَان :

أحدهما : النَّصْبُ عَطْفاً على قوله : { عِنْدِي خزائِنُ اللَّهِ } لأنه من جملة المَقُول ، كأنه قال : " لا أقُولُ لكم هذا القول ، ولا هذا القول " .

قال الزمخشري{[13926]} . وفيه نَظَرٌ من حيث إنه يُؤدِّي إلى أنه يصير التقدير : ولا أقُولُ لكم : لا أعلم الغَيْبَ وليس بصحيح .

والثاني : أنه معطوف على " لا أقول " لا مَعْمُولٌ له ، فهو أمَرَ أن يخبر عن نَفْسِهِ بهذه الجُمَلِ الثلاث فهي معمولة للأمر الذي هو " قل " ، وهذا تخريج أبي حيَّان{[13927]} قال بعد أن حكى قول الزَّمخشري : " ولا يتَعيَّنُ ما قاله ، بل الظَّاهرُ أنه مَعْطُوفٌ على لا أقول " إلى آخرة .

فصل في معنى الآية

والمعنى : أن القوم يقولون : إن كنت رَسُولاً من عند اللَّهِ ، فلا بُدَّ وأن تخبرنا عمَّا سَيَقَعُ في المستقبل من المَصَالِحِ المضارِّ حتى نَسْتَعِدَّ لتحصيل تلك المنافع ، ولدفع تلك المَضَارِّ ، فقال تعالى : " قل : إني لا أعلم الغيب ولا أقول : إنّي ملك " ومعناه : أنهم كانوا يقولون : { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاق }

[ الفرقان :7 ] ويتزوج ويخالط الناس ، فقال تعالى : قل لهم : إني لست من الملائكة .

فصل في بيان فائدة هذه الأحوال

اختلفوا في الفائدةِ من ذكر هذه الأحْوَالِ الثلاثة ، فقيل : المرادُ منه أن يَظْهِرَ الرسول من نَفْسِه التَّواضُع للّه ، والاعتراف بِعُبُوديَّتِهِ حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النَّصارى في المسيح عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

وقيل : إن القوم كانوا يَقْتَرِحُون عليه إظْهَارَ المعجزات القاهرة ، كقولهم : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُر لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً } [ الإسراء :90 ] فقال تعالى في آخر الآية : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء :93 ] يعني : أنَا لا أدَّعِي إلاَّ الرسالةَ والنُّبُوَّة ، وهذه الأمور التي طلبتموها ، فلا يمكن تحصيلها إلاَّ بقدرة الله .

وقيل : المُرَادُ من قوله : { لا أقُولُ لكُمْ عِنْدِي خزائِنُ اللَّهِ } ، أي : لا أدَّعي كوني مَوْصُوفاً بالقُدْرَةِ ، ولا أعلم الغَيْبَ ، أي : ولا أدَّعي كَوْنِي موصوفاً بعلم الله تعالى ، وبمجموع هَذَيْنِ الكلامين حَصَلَ أنه لا يدَّعِي الإلهيَّة .

ثُمَّ قال : { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ : إِنِّي مَلَكٌ } وذلك ؛ لأنه ليس بعد الإلهيَّةِ دَرَجَةٌ أعلى حالاً من الملائكة فصار حاصل الكلام كأنَّهُ يقول : لا أدَّعي الإلهية ، ولا أدَّعي الملكيَّة ، ولكن أدَّعي الرِّسالة ، وهذا مَنْصِبٌ لا يمتنع حصُوله [ للبشر ]{[13928]} فكيف أطْبَقْتُمْ على استنكار قولي{[13929]} .

فصل في رد شبهة الجبائي في تفضيل الملائكة

قال الجُبَّائي : دَلَّتِ الآية على أنَّ الملكَ أفْضَلُ من الأنبياء ؛ لأن [ معنى الكلام ]{[13930]} لا أدَّعي مَنْزِلَةً أقْوَى من مَنْزِلَتِي ، ولولا أن المَلك أفضل ، وإلاَّ لم يصح .

قال القاضي{[13931]} : إن كان الغرض بها نفي{[13932]} طريقة التَّواضُعِ ، فالأقرب يَدُلُّ على أن الملكَ أفْضَلُ ، وإن كان المراد نَفْيَ قدرته عن أفعالٍ لا يقوى عليها إلاَّ الملائكة لم يَدُلَّ على كونه أفْضَلَ .

قوله : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ } .

يَدُلُّ على أنه لا يعمل إلاَّ بالوَحْي ، وأنه لم يكن يحكم من تِلْقَاء نفسه في شيء من الأحكام ، وأنَّهُ ما كان يجتهد ، ويؤكد ذلك قوله تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى }

[ النجم :3 ، 4 ] .

واسْتَدَلَّ نُفَاةُ القياس بهذا النصّ ، قالوا : لأنَّهُ عَلَيْه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما كان يَعْمَلُ إلا بالوَحْي النَّازِلِ ، فوجبَ ألاَّ يجوز لأحدٍ من أمَّتِهِ أن يعمل إلاَّ بالوَحْيِ النَّازل ، ولقوله تعالى : { وَاتَّبِعُوهُ } [ الأعراف : 158 ] وذلك ينفي جواز العمل بالقياسِ .

ثم أكَّدَ ذلك بقوله : { هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } ، وذلك لأن العمل بغير الوَحْي يجري مجرى عَمَل الأعمى ، والعملُ بمقتضى نزول الوَحْي يجري مجرى عملِ البصيرِ ، ثم قال تعالى : { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } .

والمراد منه التنبيه على أنه يجب على العَاقِلِ أن يعرف الفَرْقَ بين هذيْنِ البَابَيْنِ ، وألاَّ يكون غَافِلاً عن معرفة الله .


[13925]:ينظر: الرازي 12/190.
[13926]:ينظر: الكشاف 2/26.
[13927]:ينظر: البحر المحيط 4/137.
[13928]:سقط في أ.
[13929]:ينظر: الرازي 12/191.
[13930]:سقط في أ.
[13931]:ينظر: الرازي 12/191.
[13932]:في أ: بها يعني.