نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{قُل لَّآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ وَلَآ أَقُولُ لَكُمۡ إِنِّي مَلَكٌۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّۚ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} (50)

ولما بين وظيفة الرسل ، وقسم المرسل إليهم ، أمره بنفي ما يتسبب{[29689]} عنه قولهم من أن البشر لا يكون رسولاً ، واقتراحهم عليه الآيات من ظن قدرته على ما يريد ، {[29690]} أو أن كل ما يقدر عليه يبديه لهم{[29691]} ، أو إلزامه بذلك{[29692]} ، منها لهم على وجه ظلمهم بغلظهم أو عنادهم فقال : { قل } أي{[29693]} في جواب قولهم ( لولا أنزل عليه آية }[ يونس : 20 ] ونحوه .

ولما لم{[29694]} يكن لهم عهد بأن بشراً يكون عنده الخزائن ، يتصرف فيها بما يريد ، وكان يأتيهم من الآيات من انشقاق القمر ومشي الشجر وكلام الضب والحجر ونبع الماء والحراسة بشواظ النار وفحل الجمال ونحو ذلك مما هو معلوم في دلائل النبوة بما ربما أوقع{[29695]} في ظنهم أن لازمه دعواه لأنه يملك الخزائن ، فكانوا يقترحون عليه الآيات الدالة إلزاماً له{[29696]} بذلك{[29697]} لقصد التكذيب . نفى ما ظنوا أنه يلزمه دعواه فقال : { لا{[29698]} أقول لكم } أي الآن ولا فيما يستقبل من الزمان ، ولما كان تعالى قد أعطاه مفاتيح خزائن الأرض ، فأباها{[29699]} تواضعاً لله سبحانه ، قيد بقوله " لكم " إفهاماً لما يخبر به المؤمنين من ذلك ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ، وأما الكفرة فإن إخبارهم بذلك مما يغريهم على الاقتراحات استهزاء فلا فائدة له { عندي خزائن الله } أي الملك الأعظم الذي له الغنى المطلق والعزة البالغة ، فلا كفوء له أي{[29700]} فآتيكم ما تقترحون{[29701]} من الآيات وما تشتهونه{[29702]} من الكنوز وما{[29703]} تستهزئون به{[29704]} من العذاب ، وإنما الخزائن بيده ، يفعل فيها ما يشاء .

ولما كانوا يعهدون أن بعض البشر من الكهان يخبرون بشيء من المغيبات ، وكان الكهان يخلطون الصدق بالكذب ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخبرهم بمغيبات كثيرة فيكون كما قال دائماً لا خلف في شيء منها ولا زيادة ولا نقص ، فصاروا يظنون أنه يعلم الغيب ، ولكنهم يظنونه من آيات{[29705]} الكهان حتى أطلقوا عليه أنه كاهن ، فكانوا يسألونه عن وقت العذاب الذي يتوعدهم به وعن غيره ، لعلهم{[29706]} يظفرون عليه{[29707]} بشيء مما يقوله الكهان ولا يكون ، فيعدونه عليه ؛ نفى ما ظنوه غيره على هذا المقام أن ينسب{[29708]} إلى غير مالكه الذي لا يجوز أن يكون لغيره ، فقال نافياً له من أصله ، لا للقول فقط كما في سابقه ولاحقه ، عاطفاً على { لا{[29709]} أقول } لا على { عندي } { ولا أعلم الغيب } أي فأخبركم بوقت الفصل بيني وبينكم من مطلق العذاب أو{[29710]} قيام الساعة ، فإن هاتين الحالتين - ملك الخزائن وعلم الغيب - ليستا{[29711]} إلا لمرتبة{[29712]} الألوهية ، وإنما لم أدّع الأول كما ألزمتموني به ، ولا اتصفت بالثاني بما ظننتم .

ولما كانوا يظنون أن الرسول لا يكون إلا ملكاً ، فكانوا يلزمونه بدعواه الرسالة دعوى الملائكة ليلزموه بذلك ادعاء ما هو ظاهر البطلان ، قال : { ولا أقول } أي بدعوى الرسالة ؛ ولما كان صلى الله عليه وسلم أعلى{[29713]} الأنبياء صفاء وأنورهم قلباً وأشدهم{[29714]} في كل هدى إضاءة وأنقاهم من نقائص البشر ، وكان هذا أمراً من الله له{[29715]} . قيد بقوله : { لكم } إفهاماً لأنه{[29716]} لا يمتنع{[29717]} عليه أن يقول ذلك ، بل لو قاله كان صادقاً ، ومثله كثير في مجازاتهم ومجاري عاداتهم{[29718]} في محاوراتهم{[29719]} ، وأما إسقاط " لكم " في قصة نوح من{[29720]} سورة هود{[29721]} عليهما السلام فتواضعاً منه لكونه من قوله ، من غير تصريح بإسناد الأمر فيه إلى الله تعالى { إني ملك } فأقوى على الأفعال التي تقوى{[29722]} عليها الملائكة من التحرز{[29723]} عن المأكل والمشرب وغيرهما من أفعال الملائكة .

فلما انتفى عنه ما ألزموه به وما{[29724]} ظنوه فيه من كونه إلهاً أو ملكاً ، انحصر الأمر في أنه رسول واقف عندما حده له مرسله ، فقال على وجه النتيجة : { إن } أي ما { أتبع } أي بغاية جهدي { إلا ما يوحى إلي } أي ما رتبتي إلا امتثال ما يأمرني به ربي في هذا القرآن الذي هو - بعجزكم عن معارضته - أعظم شاهد لي ، ولم يوح إلي فيه أن أقول شيئاً مما تقدم نفيه ، وأوحى إلي لأنذركم به خصوصاً ، وأنذر به كل من بلغه عموماً ، وذلك غير منكر في{[29725]} العقل ولا مستبعد{[29726]} بل قد وقع الإرسال لكثير من البشر ، وقد قام على ثبوته لي{[29727]} واضح الدلائل وثابت الحجج وقاطع البراهين ، فإن كان فيه الإذن لي{[29728]} بإبراز خارق أبرزته ، وإن كان فيه الإعلام بمغيب أبديته ، وإلا اقتصرت على الإبلاغ مع التحدي ، وهو مخبر بأن الله - الذي{[29729]} ثبت بعجزكم عن معارضته أنه قوله - شاهد لي بصحة الرسالة وصدق المقالة .

ولما{[29730]} ثبت بهذا أنهم عمي الأبصار والبصائر ، لا يهتدون إلى ما ينفعهم ، ولا يقدرون على إفحام خصم ولا التفصي عن وهم ولا وصم ، بل هم كالسالك بين المهالك ، يتبين بادئ بدئه في دعواه الحكمة زوره وكذبه وفجوره لأتباع الهوى الذي هو أدوأ أدواء{[29731]} ، {[29732]} وأنه{[29733]} صلى الله عليه وسلم أبصر البصراء وأحكم الحكماء لاتباعه علام الغيوب ، وكان موضع أن يقال : ما يوحى إليك في هذا المقام ؟ قال على وجه التبكيت لهم : { قل } أي لكل من يسمع{[29734]} قولك بعد هذا البيان الفائت لقوى الإنسان { هل يستوي } أي يكون سواء من غير مرية { الأعمى والبصير } فإن قالوا : نعم ، كابروا الحس ، وإن قالوا : لا ، قيل : فمن تبع هذه الآيات الجليات فهو البصير ، ومن أعرض عنها فهو العمى ، ومن سوى بين الخالق وبين شيء من خلقه فهو أعمى العمى ؛ ثم أمره بعد الإنكار للتسوية بينهما بأن ينكر عليهم فساد نظرهم وعمى فكرهم بقوله : { أفلا تتفكرون * } أي فيردكم فكركم{[29735]} عن هذه الضلالات{[29736]} .


[29689]:في ظ: ينسب.
[29690]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[29691]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[29692]:زيد بعده في ظ: منها.
[29693]:زيد من ظ.
[29694]:زيد من ظ.
[29695]:في ظ: وقع.
[29696]:زيد من ظ.
[29697]:سقط من ظ.
[29698]:سقط من ظ.
[29699]:في ظ: وأباها.
[29700]:سقط من ظ.
[29701]:في ظ: يقترحون.
[29702]:في ظ: يشتهونه.
[29703]:في الأصل: يشتهون به، وفي ظ: يستهزونه- كذا.
[29704]:في الأصل: يشتهون به، وفي ظ: يستهزونه- كذا.
[29705]:في الأصل: بابه، وفي ظ: آياته- كذا.
[29706]:من ظ، وفي الأصل: يظفرون عليهم.
[29707]:من ظ، وفي الأصل: يظفرون عليهم.
[29708]:من ظ، وفي الأصل: يسبب- كذا.
[29709]:سقط من ظ.
[29710]:في ظ "و".
[29711]:ليسا.
[29712]:في ظ: لرتبة.
[29713]:في ظ: على.
[29714]:من ظ، وفي الأصل: أسدهم.
[29715]:سقط من ظ.
[29716]:في ظ: يمنع.
[29717]:في ظ يمنع.
[29718]:من ظ، وفي الأصل: عادتهم.
[29719]:زيد من ظ غير أن فيه: مجاوزاتهم.
[29720]:من ظ، وفي الأصل: في.
[29721]:راجع آية 31.
[29722]:من ظ، وفي الأصل: تعول.
[29723]:في ظ: التجرد.
[29724]:زيد من ظ.
[29725]:سقط من ظ.
[29726]:من ظ، وفي الأصل: مستبعدا.
[29727]:في ظ: إلى.
[29728]:سقط من ظ.
[29729]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[29730]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[29731]:زيد من ظ.
[29732]:في ظ: به.
[29733]:في ظ: به.
[29734]:سقط من ظ.
[29735]:سقط من ظ.
[29736]:في ظ: الضلالة.