{ ياأيها النبى إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك اللاتى ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ وبنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاَّتِى هَاجَرْنَ مَعَكَ وامْرَأَةً مُّؤمِنَةً إن وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنَّبِىِّ إنْ أَرَادَ النَّبِىُّ أن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِن دُونِ المُؤمِنِينَ } .
نداء رابع خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم في شأن خاص به هو بيان ما أحلّ له من الزوجات والسراري وما يزيد عليه وما لا يزيد مما بعضه تقرير لتشريع له سابق وبعضه تشريع له للمستقبل ، ومما بعضه يتساوى فيه النبي عليه الصلاة والسلام مع الأمة وبعضه خاص به أكرمه الله بخصوصيته مما هو توسعة عليه ، أو مما روعي في تخصيصه به علوّ درجته .
ولعل المناسبة لورودها عقب الآيات التي قبلها أنه لما خاض المنافقون في تزوّج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنتِ جحش وقالوا : تزوج من كانت حليلة متبنّاه ، أراد الله أن يجمع في هذه الآية مَن يحل للنبيء تزوجهن حتى لا يقع الناس في تردد ولا يفتنهم المرجفون . ولعل ما حدث من استنكار بعض النساء أن تهدي المرأة نفسها لرجل كان من مناسبات اشتمالها على قوله : { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيء } الآية ، ولذلك جمعت الآية تقرير ما هو مشروع وتشريع ما لم يكن مشروعاً لتكون جامعة للأحوال ، وذلك أوعب وأقطع للتردد والاحتمال .
فأما تقرير ما هو مشروع فذلك من قوله تعالى : { إنا أحللنا لك أزواجك التي آتيت أجورهن } إلى قوله : { وبنات خالاتك } ، وأما تشريع ما لم يكن مشروعاً فذلك من قوله : { اللاتي هاجرن معك } إلى قوله : { ولا أن تبدل بهن من أزواج } [ الأحزاب : 52 ] .
فقوله تعالى : { إنا أحللنا لك أزواجك } خبر مُراد به التشريع . ودخول حرف ( إنّ ) عليه لا ينافي إرادة التشريع إذ موقع ( إنَّ ) هنا مجرد الاهتمام ، والاهتمام يناسب كلاّ من قصد الإِخبار وقصدِ الإِنشاء ، ولذلك عُطفت على مفعول { أحللنا } معطوفات قيدت بأوصاف لم يكن شرعها معلوماً من قبل وذلك في قوله : { وبنات عمك } وما عطف عليه باعتبار تقييدهن بوصف { الاتي هاجرن معك } ، وفي قوله : { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها } باعتبار تقييدها بوصف الإِيمان وتقييدها ب« إن وهبت نفسها للنبي وأراد النبي أن يستنكحها » . هذا تفسير الآية على ما درج عليه المفسرون على اختلاف قليل بين أقوالهم .
وعندي : أن الآية امتنان وتذكير بنعمة على النبي صلى الله عليه وسلم وتؤخذ من الامتنان الإِباحة ويؤخذ من ظاهر قوله : { لا يحل لك النساء من بعد } [ الأحزاب : 52 ] الاقتصار على اللاتي في عصمته منهن وقت نزول الآية ، ولتكون هذه الآية تمهيداً لقوله تعالى : { لا يحل لك النساء من بعد } الخ .
وسيجيء ما لنا في معنى قوله : { من بعدُ } وما لنا في موضع قوله { إن أراد النبي أن يستنكحها } .
ومعنى { أحللنا لك } الإِباحة له ، ولذلك جاءت مقابلته بقوله عقب تعداد المحلّلات له { لا يحل لك النساء من بعد } .
وإضافة أزواج إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم تفيد أنّهن الأزواج اللاتي في عصمته ، فيكون الكلام إخباراً لتقرير تشريع سابق ومسوقاً مساق الامتنان ، ثم هو تمهيد لما سيتلوه من التشريع الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم من قوله : { اللاتي هاجرن معك } إلى قوله : { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج } [ الأحزاب : 52 ] . وهذا هو الوجه عندي في تفسير هذه الآية .
وحكى ابن الفرس عن الضحاك وابن زيد أن المعنى بقوله : { أزواجك اللاتي آتيت أجورهن } أن الله أحلّ له أن يتزوج كل امرأة يُصدقها مهرها فأباح له كل النساء ، وهذا بعيد عن مقتضى إضافة أزواج إلى ضميره . وعن التعبير ب { آتيت أجورهن } بصيغة المضيّ . واختلف أهل التأويل في محمل هذا الوجه مع قوله تعالى في آخر الآية : { لا يحل لك النساء من بعد } فقال قوم : هذه ناسخة لقوله : { لا يحل لك النساء من بعد } ولو تقدمت عليها في التلاوة . وقال آخرون : هي منسوخة بقوله : { لا يحل لك النساء من بعد } .
و { اللاتي آتيت أجورهن } صفة ل { أزواجك } ، أي وهن النسوة اللاتي تزوجتهن على حكم النكاح الذي يعم الأمة ، فالماضي في قوله : { آتيت أجورهن } مستعمل في حقيقته . وهؤلاء فيهن من هن من قراباته وهن القرشيات منهن : عائشة ، وحفصة ، وسودة ، وأم سلمة ، وأم حبيبة ، وفيهن من لسن كذلك وهنّ : جويرية من بني المصطلق ، وميمونة بنت الحارث من بني هلال ، وزينب أم المساكين من بني هلال ، وكانت يومئذٍ متوفاة ، وصفية بنت حيي الإِسرائيلية .
وعطف على هؤلاء نسوة أخر وهنّ ثلاثة أصناف :
الصنف الأول : ما ملكت يمينه مما أفاء الله عليه ، أي مما أعطاه الله من الفيء ، وهو ما ناله المسلمون من العدوّ بغير قتال ولكن تركَه العدو ، أو مما أعطي للنبيء صلى الله عليه وسلم مثل مارية القبطية أمّ ابنه إبراهيم فقد أفاءها الله عليه إذ وهبها إليه المقوقس صاحب مصر ، وإنما وهبها إليه هدية لمكان نبوءته فكانت بمنزلة الفيء لأنها ما لوحظ فيها إلا قصد المسالمة من جهة الجوار ، إذ لم تكن له مع الرسول صلى الله عليه وسلم سابق صحبة ولا معرفة ، والمعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتسرّ غير مارية القبطية . وقيل : إنه تسرى جارية أخرى وهبتها له زوجه زينبُ ابنة جحش ولم يثبت . وقيل أيضاً : إنه تسرى ريحانَة من سبي قريظة اصطفاها لنفسه ولا تشملها هذه الآية لأنها ليست من الفيء ولكن من المغنم إلا أن يراد ب { مما أفاء الله عليك } المعنى الأعم للفيء وهو ما يشمل الغنيمة .
وهذا الحكم يشركه فيه كثير من الأمة من كل من أعطاه أميره شيئاً من الفيء ، كما قال تعالى : { ما أفاء اللَّه على رسوله من أهل القرى فللَّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } [ الحشر : 7 ] فمن أعطاه الأمير من هؤلاء الأصناف أمة من الفيء حلّت له .
وقوله : { مما أفاء الله عليك } وصف لما ملكت يمينك وهو هنا وصف كاشف لأن المراد به مارية القبطية ، أو هي وريحانة إن ثبت أنّه تسراها .
الصنف الثاني : نساء من قريب قرابته صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه أو من جهة أمه مؤمنات مهاجرات . وأغنى قوله : { هاجرن معك } عن وصف الإِيمان لأن الهجرة لا تكون إلا بعد الإِيمان ، فأباح الله للنبيء عليه الصلاة والسلام أن يتزوج من يشاء من نساء هذا الصنف بعقد النكاح المعروف ، فليس له أن يتزوج في المستقبل امرأة من غير هذا الصنف المشروط بشرط القرابة بالعمومة أو الخؤولة وشرط الهجرة . وعندي : أن الوصفين ببنات عمه وعمّاته وبناتتِ خاله وخالاته ، وبأنهن هاجَرْن معه غير مقصود بهما الاحتراز عمن لسن كذلك ولكنه وصف كاشف مسوق للتنويه بشأنهن .
وخص هؤلاء النسوة من عموم المنع تكريماً لشأن القرابة والهجرة التي هي بمنزلة القرابة لقوله تعالى : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } [ الأنفال : 72 ] . وحكم الهجرة انقضى بفتح مكة . وهذا الحكم يتجاذبه الخصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم والتعميم لأمته ، فالمرأة التي تستوفي هذا الوصف يجوز للرسول عليه الصلاة والسلام ولأمته الذين تكون لهم قرابة بالمرأة كهذه القرابة تزوجُ أمثالها ، والمرأة التي لم تستوف هذا الوصف لا يجوز للرسول عليه الصلاة والسلام تزوجها ، وهو الذي درج عليه الجمهور ، ويؤيده خبر روي عن أمّ هاني بنت أبي طالب . وقال أبو يوسف : يجوز لرجال أمته نكاح أمثالها . وباعتبار عدم تقييد نساء الرسول صلى الله عليه وسلم بعدد يكون هذا الإطلاق خاصاً به دون أمته إذ لا يجوز لغيره تزوج أكثر من أربع .
وبنات عمّ النبي صلى الله عليه وسلم هن بنات إخوة أبيه مثل : بنات العباس وبنات أبي طالب وبنات أبي لهب . وأما بنات حمزة فإنهن بنات أخ من الرضاعة لا يحللن له ، وبناتُ عماته هن بنات عبد المطلب مثل زينب بنت جحش التي هي بنت أميمة بنت عبد المطلب .
وبناتُ خاله هنّ بنات عبد مناف بن زُهرة وهن أخوال النبي صلى الله عليه وسلم عبد يغوث بن وهب أخو آمنة ، ولم يذكروا أن له بنات ، كما أني لم أقف على ذكر خالة لرسول الله فيما رأيت من كتب الأنساب والسير . وقد ذكر في « الإصابة » فريعة بنتَ وهب وذكروا هالة بنت وهب الزهرية إلا أنها لكونها زوجةَ عبد المطلب وابنتها صفية عمة رسول الله فقد دخلت من قبل في بنات عمه .
وإنما أُفرد لفظ ( عم ) وجُمع لفظ ( عمات ) لأن العم في استعمال كلام العرب يطلق على أخي الأب ويطلق على أخي الجد وأخي جد الأب وهكذا فهم يقولون : هؤلاء بنو عم أو بنات عم ، إذا كانوا لعم واحد أو لعدة أعمام ، ويفهم المراد من القرائن . قال الراجز أنشده الأخفش :
ما بَرئتْ من ريبة وذمّ *** في حربنا إلا بناتُ العمّ
قالت بنات العم يا سلمى وإنْ *** كان فقيراً مُعدماً قالت وإنْ
فأما لفظ ( العمة ) فإنه لا يراد به الجنس في كلامهم ، فإذا قالوا : هؤلاء بنو عمةٍ ، أرادوا أنهم بنو عمةٍ معيّنة ، فجيء في الآية : { عماتك } جمعاً لئلا يفهم منه بنات عمة معينة . وكذلك القول في إفراد لفظ ( الخال ) من قوله : { بنات خالك } وجمع الخالة في قوله : { وبنات خالاتك } .
وقال قوم : المراد ببنات العم وبنات العمات : نساء قريش ، والمراد ببنات الخال : النساء الزهريات ، وهو اختلاف نظري محض لا ينبني عليه عمل لأن النبي قد عُرفت أزواجه .
وقوله : { اللاني هاجرن معك } صفة عائدة إلى { بنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك } كشأن الصفة الواردة بعد مفردات ، وهو شرط تشريع لم يكن مشروطاً من قبل .
والمعية في قوله : { اللاتي هاجرن معك } معية المقارنة في الوصف المأخوذ من فعل { هاجرن } فليس يلزم أن يكنَّ قد خرجْنَ مصاحبات له في طريقه إلى الهجرة .
الصنف الثالث : امرأة تَهب نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم أي تجعل نفسها هبة له دون مهر ، وكذلك كان النساء قبل الإسلام يفعلن مع عظماء العرب ، فأباح الله للنبيء أن يتخذها زوجة له بدون مهر إذا شاء النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فهذا حقيقة لفظ { وهبت } ، فالمراد من الهبة : تزويج نفسها بدون عوض ، أي بدون مهر ، وليست هذه من الهبة التي تستعمل في صيغ النكاح إذا قارنها ذكر صداق لأن ذلك اللفظ مجاز في النكاح بقرينة ذكر الصداق ويصح عقد النكاح به عندنا وعند الحنفية خلافاً للشافعي .
فقوله : { وامرأة } عطف على { أزواجك } . والتقدير : وأحللنا لك امرأة مؤمنة .
والتنكير في { امرأة } للنوعية : والمعنى : ونُعلمك أنا أحللنا لك امرأة مؤمنة بقيد أن تهب نفسها لك وأن تريد أن تتزوجها فقوله : { للنبيء } في الموضعين إظهار في مقام الإِضمار . والمعنى : إن وهبتْ نفسها لك وأردتَ أن تنكحها . وهذا تخصيص من عموم قوله : { وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك } فإذا وهبت امرأة نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم وأراد نكاحها جاز له ذلك بدون ذينك الشرطين ولأجل هذا وصفت { امرأة } ب { مؤمنة } ليعلم عدم اشتراط ما عدا الإيمان . وقد عُدّت زينب بنت خُزيمة الهلالية وكانت تدعى في الجاهلية أمَّ المساكين في اللاتي وهبن أنفسهن ، ولم تلبث عنده زينب هذه إلا قليلاً فتوفيت وكان تزوجها سنة ثلاث من الهجرة فليست مما شملته الآية .
ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج غيرها ممن وهبت نفسها إليه وهن : أم شريك بنت جابر الدوسية واسمها عزية ، وخولة بنت حكيم عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسها فقالت عائشة : أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها للرجل ، وامرأة أخرى عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم روى ثابت البناني عن أنس قال : « جاءت امرأة إلى رسول الله فعرضت عليه نفسها فقالت : يا رسول الله ألك حاجة بي ؟ فقالت ابنةُ أنس وهي تسمع إلى رواية أبيها : ما أقل حياءها وَاسَوأتاه واسوأتاه . فقال أنس : هي خير منك رغبت في النبي فعرضت عليه نفسها » . وعن سهل بن سعد أن امرأة عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبها . فقال رجل : « يا رسول الله زوجنيها ، إلى أن قال له ، ملّكناكها بما معك من القرآن » فهذا الصنف حكمه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنه نكاح مخالف لسنة النكاح لأنه بدون مهر وبدون ولي .
وقد ورد أن النسوة اللاتي وهبن أنفسهن للنبيء صلى الله عليه وسلم أربع هن : ميمونة بنت الحارث ، وزينب بنت خزيمة الأنصارية الملقبة أمّ المساكين ، وأم شريك بنت جابر الأسدية أو العامرية ، وخولة بنت حكيم بنت الأوقص السَلَمية . فأما الأوليان فتزوجهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما من أمهات المؤمنين والأخريان لم يتزوجهما .
ومعنى { وهبت نفسها للنبيء } أنها ملّكته نفسها تمليكاً شبيهاً بملك اليمين ولهذا عطفت على { ما ملكت يمينك } ، وأردفت بقوله : { خالصة لك من دون المؤمنين } أي خاصة لك أن تتخذها زوجة بتلك الهبة ، أي دون مهر وليس لبقية المؤمنين ذلك . ولهذا لما وقع في حديث سهل بن سعد المتقدم أن امرأة وهبت نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم وعلم الرجل الحاضر أن النبي عليه الصلاة والسلام لا حاجة له بها سأل النبي عليه الصلاة والسلام أن يُزوجه إياها علماً منه بأن تلك الهبة لا مهر معها ولم يكن للرجل ما يصدقها إياه ، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم منه ذلك فقال له ما عندك ؟ قال : ما عندي شيء . قال : اذهب فالتمس ولو خاتماً من حديد فذهب ثم رجع فقال : لا والله ولا خاتَماً من حديد ، ولكن هذا إزاري فلها نصفه . قال سهل : ولم يكن له رداء ، فقال النبي : " وما تصنع بإزارك إن لبستَه لم يكن عليها منه شيء وإن لبستْه لم يكن عليك منه شيء ثم قال له ماذا معك من القرآن ؟ فقال : معي سورة كذا وسورة كذا لسُور يُعدّدها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ملكناكها بما معك من القرآن " .
وفي قوله : { إن وهبت نفسها للنبي } إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال : إن وهبت نفسها لك . والغرض من هذا الإِظهار ما في لفظ { النبي } من تزكية فعل المرأة التي تهب نفسها بأنها راغبة لكرامة النبوءة .
وقوله : { إن أراد النبي أن يستنكحها } جملة معترضة بين جملة { إن وهبت } وبين { خالصة } وليس مسوقاً للتقييد إذ لا حاجة إلى ذكر إرادته نكاحها فإن هذا معلوم من معنى الإِباحة ، وإنما جيء بهذا الشرط لدفع توهم أن يكون قبوله هبتها نفسها له واجباً عليه كما كان عرف أهل الجاهلية . وجوابه محذوف دل عليه ما قبله ، والتقدير : إن أراد أن يستنكحها فهي حلال له ، فهذا شرط مستقل وليس شرطاً في الشرط الذي قبله .
والعدول عن الإِضمار في قوله : { إن أراد النبي } بأن يقال : إن أراد أن يستنكحها لما في إظهار لفظ { النبي } من التفخيم والتكريم .
وفائدة الاحتراز بهذا الشرط الثاني إبطال عادة العرب في الجاهلية وهي أنهم كانوا إذا وهبت المرأة نفسها للرجل تعين عليه نكاحها ولم يجز له ردُّها ، فأبطل الله هذا الالتزام بتخيير النبي عليه الصلاة والسلام في قبول هِبة المرأة نفسها له وعدمه ، وليرفع التعيير عن المرأة الواهبة بأن الرد مأذون به .
والسين والتاء في { يستنكحها } ليستا للطلب بل هما لتأكيد الفعل كقول النابغة :
وهم قتلوا الطائي بالحجر عنوةً *** أبا جابر فاستنكحوا أم جابر
أي بنو حُنّ قتلوا أبا جابر الطائي فصارت أم جابر المزوجة بأبي جابر زوجة بني حُنّ ، أي زوجة رجل منهم . وهي مثل السين والتاء في قوله تعالى : { فاستجاب لهم ربهم } [ آل عمران : 195 ] .
فتبيَّن من جعل جملة { إن أراد النبي أن يستنكحها } معترضة أن هذه الآية لا يصح التمثيل بها لمسألة اعتراض الشرط على الشرط كما وقع في رسالة الشيخ تقي الدين السبكي المجعولة لاعتراض الشرط على الشرط ، وتبعه السيوطي في الفن السابع من كتاب « الأشباه والنظائر النحوية » ، ويلوح من كلام صاحب « الكشاف » استشعار عدم صلاحية الآية لاعتبار الشرط في الشرط فأخذ يتكلف لتصوير ذلك .
وانتصب { خالصة } على الحال من { امرأة } ، أي خالصة لك تلك المرأة ، أي هذا الصنف من النساء ، والخلوص معنيٌّ به عدم المشاركة ، أي مشاركةِ بقية الأمة في هذا الحكم إذ مادة الخلوص تجمع معاني التجرّد عن المخالطة . فقوله : { من دون المؤمنين } لبيان حال من ضمير الخطاب في قوله : { لك } ما في الخلوص من الإجمال في نسبته . وقد دل وصف { امرأة } بأنها { مؤمنة } أن المرأة غير المؤمنة لا تحل للنبيء عليه الصلاة والسلام بهبة نفسها . ودل ذلك بدلالة لحن الخطاب أنه لا يحلّ للنبيء صلى الله عليه وسلم تزوج الكتابيات بَلْهَ المشركات ، وحكى إمام الحرمين في ذلك خلافاً .
قال ابن العربي : والصحيح عندي تحريمها عليه . وبهذا يتميز علينا ؛ فإن ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحظه فيه أكثر وإذا كان لا تحل له من لم تُهاجر لنقصانها فضلَ الهجرة فأحرى أن لا تحلّ له الكتابية الحرة .
{ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فى أزواجهم وَمَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ } .
جملة معترضة بين جملة { من دون المؤمنين } وبين قوله : { لكيلا يكون عليك حرج } أو هي حال سببي من المؤمنين ، أي حال كونهم قد علمنا ما نَفرض عليهم .
والمعنى : أن المؤمنين مستمر ما شُرع لهم من قبلُ في أحكام الأزواج وما ملكتْ أيمانهم ، فلا يَشملهم ما عُيّن لك من الأحكام الخاصة المشروعة فيما تقدم آنفاً ، أي قد علمنا أن ما فرضناه عليهم في ذلك هو الَّلائق بحال عموم الأمة دون ما فرضناه لك خاصة .
و { ما فرضنا عليهم } موصول وصلته ، وتعدية { فرضنا } بحرف ( على ) المقتضي للتكليف والإِيجاب للإِشارة إلى أن من شرائع أزواجهم وما ملكَتْ أيمانهم ما يَوَدُّون أن يخفف عنهم مثل عدد الزوجات وإيجاب المهور والنفقات ، فإذا سمعوا ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من التوسعة في تلك الأحكام وَدّوا أن يلحقوا به في ذلك ، فسجل الله عليهم أنهم باقون على ما سبق شرعه لهم في ذلك ، والإخبار بأن الله قد علم ذلك كناية عن بقاء تلك الأحكام لأن معناه أنّا لم نغفل عن ذلك ، أي لم نبطله بل عن علم خصصنا نبيئنا بما خصصناه به في ذلك الشأن ، فلا يشمل ما أحللناه له بقيةَ المؤمنين .
وظرفية { في } مجازية لأن المظروف هو الأحكام الشرعية لا ذَوات الأزواج وذواتُ ما ملكته الأيمان .
{ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ الله غَفُوراً رَحِيماً } .
تعليل لما شرعه الله تعالى في حق نبيئه صلى الله عليه وسلم في الآيات السابقة من التوسعة بالازدياد من عدد الأزواج وتزوج الواهبات أنفسهن دون مهر ، وجَعل قبول هبتها موكولاً لإِرادته ، وبما أبقى له من مساواته أمته فيما عدا ذلك من الإباحة فلم يضيّق عليه ، وهذا تعليم وامتنان .
والحرج : الضيق ، والمراد هنا أدنى الحرج ، وهو ما في التكليف من بعض الحرج الذي لا تخلو عنه التكاليف ، وأما الحرج القوي فمنفي عنه وعن أمته . ومراتب الحرج متفاوتة ، ومناط ما يُنفى عن الأمة منها وما لا ينفى ، وتقديراتُ أحوال انتفاء بعضها للضرورة هو ميزان التكليف الشرعي فالله أعلم بمراتبها وأعلم بمقدار تحرج عباده وذلك مبين في مسائل العزيمة والرخصة من علم الأصول ، وقد حرر ملاّكه شهاب الدين القرافي في الفرق الرابع عشر من كتابه « أنواء البروق » . وقد أشبعنا القول في تحقيق ذلك في كتابنا المسمى « مقاصد الشريعة الإسلامية » .
وأعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سلك في الأخذ بهذه التوسعات التي رفع الله بها قدره مسلك الكُمّل من عباده وهو أكملهم فلم ينتفع لنفسه بشيء منها فكان عبداً شكوراً كما قال في حديث استغفاره ربه في اليوم استغفاراً كثيراً .
والتذييل بجملة { وكان الله غفوراً رحيماً } تذييل لما شرعه من الأحكام للنبيء صلى الله عليه وسلم لا للجملة المعترضة ، أي أن ما أردناه من نفي الحرج عنك هو من متعلقات صفتي الغفران والرحمة اللتين هما من تعلقات الإِرادة والعلم فهما ناشئتان عن صفات الذات ، فلذلك جعل اتصاف الله بهما أمراً متمكّناً بما دلّ عليه فعل { كان } المشير إلى السابقية والرسوخ كما علمته في مواضع كثيرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك} النساء التسع {التي آتيت أجورهن و} أحللنا لك {وما ملكت يمينك} بالولاية: مارية القبطية أم إبراهيم، وريحانة بنت عمرو اليهودي، وكانت سبيت من اليهود.
{مما أفاء الله عليك و} أحللنا لك {وبنات عمك وبنات عمتك وبنات خالك وبنات خالاتك التي هاجرن معك} إلى المدينة، إضمار فإن كانت لم تهاجر إلى المدينة فلا يحل تزويجها.
{وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها} أن يتزوجها بغير مهر، وهي أم شريك بنت جابر بن ضباب بن حجر من بني عامر بن لؤي، وكانت تحت أبي الفكر الأزدي، وولدت له غلامين شريكا ومسلما... ثم توفى عنها زوجها أبو الفكر، فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها، ولو فعله لكان له خاصة دون المؤمنين، فإن وهبت امرأة يهودية أو نصرانية أو أعرابية نفسها فإنه لا يحل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها.
{خالصة لك} الهبة خاصة لك، يا محمد {من دون المؤمنين} لا تحل هبة المرأة نفسها بغير مهر لغيرك من المؤمنين...
{قد علمنا ما فرضنا عليهم} ما أوجبنا على المؤمنين {في أزواجهم} ألا يتزوجوا إلا أربع نسوة بمهر وبينة.
{و} أحللنا لهم {وما ملكت أيمانهم} جماع الولاية {لكيلا يكون عليك} يا محمد {حرج} في الهبة بغير مهر، فيها تقديم.
{وكان الله غفورا رحيما} غفورا في التزويج بغير مهر للنبي صلى الله عليه وسلم، رحيما في تحليل ذلك له.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"يا أيّها النّبِيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ" يعني: اللاتي تزوّجتهنّ بصداق مسمى... وقوله: "وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ممّا أفاءَ اللّهُ عَلَيْكَ "يقول: وأحللنا لك إماءك اللواتي سبيتهنّ، فملكتهنّ بالسباء، وصرن لك بفتح الله عليك من الفيء "وَبَناتِ عَمّكَ وَبَناتِ عَمّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وبَناتِ خالاتِكَ اللاّتي هاجَرْنَ مَعَكَ" فأحلّ الله له صلى الله عليه وسلم من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته، المهاجرات معه منهنّ دون من لم يهاجر منهنّ معه... وقوله: "وَامْرأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ" يقول: وأحللنا له امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي بغير صداق... عن مجاهد، قوله: "وَامْرأةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ" بغير صداق، فلم يكن يفعل ذلك، وأحلّ له خاصة من دون المؤمنين...
وقوله: "إنْ أرَادَ النّبِيّ أنْ يَسْتَنْكِحَها" يقول: إن أراد أن ينكحها، فحلال له أن ينكحها إذا وهبت نفسها له بغير مهر "خالِصَةً لَكَ" يقول: لا يحلّ لأحد من أمّتك أن يقرب امرأة وهبت نفسها له، وإنما ذلك لك يا محمد خالصة أخلصت لك من دون سائر أمتك...
وأما قوله: "خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ" ليس ذلك للمؤمنين. وذُكر أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تنزل عليه هذه الآية أن يتزوّج أيّ النساء شاء، فقصره الله على هؤلاء، فلم يعدُهن، وقصر سائر أمته على مثنى وثلاث ورُباع... واختلف أهل العلم في التي وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنات، وهل كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة كذلك؟ فقال بعضهم: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين، فأما بالهبة فلم يكن عنده منهنّ أحد...
وأما الذين قالوا: قد كان عنده منهن، فإن بعضهم قال: كانت ميمونة بنت الحارث. وقال بعضهم: هي أمّ شريك. وقال بعضهم: زينب بنت خزيمة...
وقوله: "قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أزْوَاجِهِمْ" يقول تعالى ذكره: قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في أزواجهم إذا أرادوا نكاحهنّ مما لم نفرضه عليك، وما خصصناهم به من الحكم في ذلك دونك، وهو أنا فرضنا عليهم أنه لا يحلّ لهم عقد نكاح على حرّة مسلمة إلا بوليّ عَصَبة وشهود عدول، ولا يحلّ لهم منهنّ أكثر من أربع... وقوله: "وَما مَلَكَتْ أيمانُهُمْ" يقول تعالى ذكره: قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في أزواجهم، لأنه لا يحلّ لهم منهنّ أكثر من أربع، وما ملكت أيمانهم، فإن جميعهن إذا كنّ مؤمنات أو كتابيات، لهم حلال بالسباء والتسرّي وغير ذلك من أسباب الملك. وقوله: "لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيما" يقول تعالى ذكره: إنا أحللنا لك يا محمد أزواجك اللواتي ذكرنا في هذه الآية، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيّ، إن أراد النبيّ أن يستنكحها، لكيلا يكون عليك إثم وضيق في نكاح من نكحت من هؤلاء الأصناف التي أبحت لك نكاحهنّ من المسميّات في هذه الآية، وكان الله غفورا لك ولأهل الإيمان بك، رحيما بك وبهم أن يعاقبهم على سالف ذنب منهم سلف بعد توبتهم منه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وسَّعْنَا الأمرَ عليكَ في باب النكاح بكم شِئْتَ؛ فإنك مأمونٌ من عيب عدم التسوية بينهن وعدم مراعاة حقوقهن، ومن الحَيْفِ عليهن، والتَّوْسعةُ في بابِ النكاحَ تَدُلُّ على الفضيلة كالحُرِّ والعبد.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أُجُورَهُنَّ} مهورهنّ: لأنّ المهر أجر على البضع.
إيتاؤها: إما إعطاؤها عاجلاً. وإما فرضها وتسميتها في العقد. فإن قلت: لم عدل عن الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى: {نَفْسَهَا لِلنَّبِي إِنْ أَرَادَ النبي} ثم رجع إلى الخطاب؟ قلت: للإيذان بأنه مما خصّ به وأوثر، ومجيئه على لفظ النبي، للدلالة على أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوّة، وتكريره تفخيم له وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوّته.
استنكاحها: طلب نكاحها والرغبة فيه.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ} يَعْنِي اللَّوَاتِي تَزَوَّجْت بِصَدَاقٍ، وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مِنْهُنَّ مَنْ ذَكَرَ لَهَا صَدَاقًا، وَمِنْهُنَّ مَنْ كَانَ ذَكَرَ لَهَا الصَّدَاقَ بَعْدَ النِّكَاحِ، كَزَيْنَبِ بِنْتِ جَحْشٍ فِي الصَّحِيحِ من الْأَقْوَالِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ نِكَاحَهَا من السَّمَاءِ، وَكَانَ فَرْضُ الصَّدَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ لَهَا، وَمِنْهُنَّ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا وَحَلَّتْ لَهُ؛ وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك} وَالْمُرَادُ بِهِ الْفَيْءُ الْمَأْخُوذُ عَلَى وَجْهِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ من عَمَلِهِ، وَيَطَأُ من مَلْكِ يَمِينِهِ، بِأَشْرَفِ وُجُوهِ الْكَسْبِ، وَأَعْلَى أَنْوَاعِ الْمِلْكِ، وَهُوَ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ، لَا من الصَّفْقِ بِالْأَسْوَاقِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: {وَبَنَاتِ عَمِّك} فَذَكَرَهُ مُفْرَدًا، وَقَالَ: {وَبَنَاتِ عَمَّاتِك} فَذَكَرَهُنَّ جَمِيعًا. وَكَذَلِكَ قَالَ: وَبَنَاتِ خَالِك فَرْدًا وَبَنَاتِ خَالَاتِك جَمْعًا. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَّ وَالْخَالَ فِي الْإِطْلَاقِ اسْمُ جِنْسٍ كَالشَّاعِرِ وَالرَّاجِزِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ. وَهَذَا عُرْفٌ لُغَوِيٌّ؛ فَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ بِغَايَةِ الْبَيَانِ لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ؛ وَهَذَا دَقِيقٌ فَتَأَمَّلُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: {إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} مَعْنَاهُ أَنَّهَا إذَا وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَيَّرٌ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ نَكَحَهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا؛ وَإِنَّمَا بَيَّنَ ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ قُرْآنًا يُتْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ من مَكَارِمِ أَخْلَاقِ نَبِيِّنَا أَنْ يَقْبَلَ من الْوَاهِبِ هِبَتَهُ، وَيَرَى الْأَكَارِمُ أَنَّ رَدَّهَا هُجْنَةٌ فِي الْعَادَةِ، وَوَصْمَةٌ عَلَى الْوَاهِبِ، وَإِذَايَةٌ لِقَلْبِهِ؛ فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ رَسُولِهِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ، وَلِيُبْطِلَ ظَنَّ النَّاسِ فِي عَادَتِهِمْ وَقَوْلِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي فَائِدَةِ الْآيَةِ وَلِأَجْلِ مَا سِيقَتْ لَهُ: وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ لَهُ نِكَاحَ الْمُسْلِمَةِ؛ فَأَمَّا الْكَافِرَةُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهَا.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقد كان مَهْرُه لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونَشّا وهو نصف أوقية، فالجميع خمسمائة درهم، إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشي، رحمه الله، أربعمائة دينار، وإلا صفية بنت حُيَيّ فإنه اصطفاها من سَبْي خيبر، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها. وكذلك جُوَيرية بنت الحارث المصطلقية، أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس وتزوجها، رضي الله عن جميعهن.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وكان المراد الأعظم في هذه الآيات بيان ما شرفه الله به من ذلك، أتبع ما بين أنه لا عدة فيه من نكاح المؤمنين وما حرمه عليهم من التضييق على الزوجات المطلقات بعض ما شرفه الله تعالى به وخصه من أمر التوسعة في النكاح، وختمه بأن أزواجه لا تحل بعده، فهن كمن عدتهن ثابتة لا تنقضي أبداً، أو كمن زوجها غائب عنها وهو حي، لأنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره: {يا أيها النبي} ذاكراً سبحانه الوصف الذي هو مبدأ القرب ومقصوده ومنبع الكمال ومداره.
ولما كان الذين في قلوبهم مرض ينكرون خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أكد قوله: {إنا أحللنا لك أزواجك} أي نكاحهن...
ولما كان المقصود من هذه السورة بيان مناقبه صلى الله عليه وسلم وما خصه الله به مما قد يطعن فيه المنافقون من كونه أولى من كل أحد بنفسه وماله، بين أنه مع ذلك لا يرضى إلا بالأكمل، فبين أنه كان يعجل المهور، ويوفي الأجور، فقال: {اللاتي آتيت} أي بالإعطاء الذي هو الحقيقة، وهي به صلى الله عليه وسلم أولى أو بالتسمية في العقد قال الكشاف: وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم وما لا يعرف بينهم غيره {أجورهن} أي مهورهن لأنها عوض عن منفعة البضع، وأصل الأجر الجزاء على العمل {وما ملكت يمينك}.
ولما كان حوز الإنسان لما سباه أطيب لنفسه وأعلى لقدره وأحل مما اشتراه قال: {مما أفاء} أي رد {الله} الذي له الأمر كله {عليك} مثل صفية بنت حيي النضرية وريحانة القرظية وجويرية بنت الحارث الخزاعية رضي الله عنهن مما كان في أيدي الكفار، أسنده إليه سبحانه إفهاماً لأنه فيء على وجهه الذي أحله الله لا خيانة فيه، وعبر بالفيء الذي معناه الرجوع إفهاماً لأن ما في يد الكافر ليس له، وإنما هو لمن يستلبه منه من المؤمنين بيد القهر أو لمن يعطيه الكافر منهم عن طيب نفس، ومن هنا كان يعطي النبي صلى الله عليه وسلم ما يطلب منه من بلاد الكفار أو نسائهم، وما أعطى أحداً شيئاً إلا وصل إليه كتميم الداري وشويل رضي الله عنهما، وقيد بذلك تنبيهاً على فضله صلى الله عليه وسلم ووقوعه من كل شيء على أفضله كما تقدمت الإشارة إليه، وإشارة إلى أنه سبق في علم الله أنه لا يصل إليه من ملك اليمين إلا ما كان هذا سبيله، ودخل فيه ما أهدى له من الكفار مثل مارية القبطية أم ولده إبراهيم عليه السلام، وفي ذلك أيضاً إشارة إلى ما خصه به من تحليل ما كان خطره على من كان قبله من الغنائم {وبنات عمك} الشقيق وغيره من باب الأولى، فإن النسب كلما بعد كان أجدر بالحل.
ولما كان قد أفرد العم لأن واحد الذكور يجمع من غيره لشرفه وقوته وكونه الأصل الذي تفرع منه هذا النوع، عرف بجمع الإناث أن المراد به الجنس لئلا يتوهم أن المراد إباحة الأخوات مجتمعات فقال: {وبنات عماتك} من نساء بني عبد المطلب.
ولما بدأ بالعمومة لشرفها، أتبعها قوله: {وبنات خالك} جارياً أيضاً في الإفراد والجمع على ذلك النحو {وبنات خالاتك} أي من نساء بني زهرة ويمكن أن يكون في ذلك احتباك عجيب وهو: بنات عمك وبنات أعمامك، وبنات عماتك وبنات عمتك، وبنات خالك وبنات أخوالك، وبنات خالاتك وبنات خالتك، وسره ما أشير إليه.
ولما بين شرف أزواجه من جهة النسب لما علم واشتهر أن نسبه صلى الله عليه وسلم من جهة الرجال والنساء أشرف الأنساب بحيث لم يختلف في ذلك اثنان من العرب، بين شرفهن من جهة الأعمال فقال: {اللاتي هاجرن} وأشار بقوله: {معك} إلى أن الهجرة قبل الفتح
{أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} [الحديد: 10] ولم يرد بذلك التقييد بل التنبيه على الشرف، وإشارة إلى أنه سبق في علمه سبحانه أنه لا يقع له أن يتزوج من هي خارجة عن هذه الأوصاف...
ولما بين ما هو الأشرف من النكاح لكونه الأصل، و أتبعه سبحانه ما خص به شرعه صلى الله عليه وسلم من المغنم الذي تولى سبحانه إباحته، أتبعه ما جاءت إباحته من جهة المبيح إعلاماً بأنه ليس من نوع الصدقة التي نزه عنها قدره فقال: {وامرأة} أي وأحللنا لك امرأة {مؤمنة} أي هذا الصنف حرة كانت أو رقيقة {إن وهبت نفسها للنبي}.
ولما ذكر وصف النبوة لأنه مدار الإكرام من الخالق والمحبة من الخلائق تشريفاً له به وتعليقاً للحكم بالوصف، لأنه لو قال "لك "كان ربما وقع في بعض الأوهام -كما قال الزجاج- أنه غير خاص به صلى الله عليه وسلم، كرره بياناً لمزيد شرفه في سياق رافع لما ربما يتوهم من أنه يجب عليه القبول فقال: {إن أراد النبي} أي الذي أعلينا قدره بما اختصصناه به من الإنباء بالأمور العظمية من عالم الغيب والشهادة {أن يستنكحها} أي يوجد نكاحه لها يجعلها من منكوحاته بعقد أو ملك يمين، فتصير له مجرد ذلك بلا مهر ولا ولي ولا شهود.
ولما كان ربما فهم أن غيره يشاركه في هذا المعنى، قال مبيناً لخصوصيته واصفاً لمصدر {أحللنا} مفخماً للأمر بهاء المبالغة ملتفتاً إلى الخطاب لأنه معين للمراد رافع للارتياب: {خالصة لك} وزاد المعنى بياناً بقوله: {من دون المؤمنين} أي من الأنبياء وغيرهم، وأطلق الوصف المفهم للرسوخ فشمل من قيد بالإحسان والإيقان، وغير ذلك من الألوان، دخل من نزل عن رتبتهم من الذين يؤمنون والذين آمنوا وسائر الناس من باب الأولى مفهوم موافقة، وقد كان الواهبات عدة ولم يكن عنده منهن شيء. روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها، فلما نزلت {ترجى من تشاء منهن} قلت: يا رسول الله، ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
ولما كان التخصيص لا يصح ولا يتصور إلا من محيط العلم بأن هذا الأمر ما كان لغير المخصوص تام القدرة، ليمنع غيره من ذلك، علله بقوله: {قد} أي أخبرناك بأن هذا أمر يخصك دونهم لأنا قد {علمنا ما فرضنا} أي قدرنا بعظمتنا.
ولما كان ما قدره للإنسان عطاء ومنعا لا بد له منه، عبر فيه بأداة الاستعلاء فقال: {عليهم} أي المؤمنين {في أزواجهم} أي من أنه لا تحل لهم امرأة بلفظ الهبة منها ولا بدون مهر ولا بدون ولي وشهود، وهذا عام لجميع المؤمنين المتقدمين والمتأخرين. ولما كان هذا عاماً للحرة والرقيقة قال: {وما ملكت أيمانهم} أي من أن أحداً غيرك لا يملك رقيقة بهبتها لنفسها منه، فيكون أحق من سيدها.
ولما فرغ من تعليل الدونية، علل التخصيص لفاً ونشراً مشوشاً بقوله: {لكيلا يكون عليك حرج} أي ضيق في شيء من أمر النساء حيث أحللنا لك أنواع المنكوحات وزدناك الواهبة. ولما ذكر سبحانه ما فرض في الأزواج والإماء الشامل للعدل في عشرتهن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الناس فهماً وأشدهم لله خشية، وكان يعدل بينهن، ويعتذر مع ذلك من ميل القلب الذي هو خارج عن طوق البشر بقوله "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك" خفف عنه سبحانه بقوله: {وكان الله} أي المتصف بصفات الكمال من الحلم والأناة والقدرة وغيرها أزلاً وأبداً {غفوراً رحيماً} أي بليغ الستر فهو إن شاء يترك المؤاخذة فيما له أن يؤاخذ به، ويجعل مكان المؤاخذة الإكرام العظيم متصفاً بذلك أزلاً وأبداً.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ولعل المناسبة لورودها عقب الآيات التي قبلها أنه لما خاض المنافقون في تزوّج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنتِ جحش وقالوا: تزوج من كانت حليلة متبنّاه، أراد الله أن يجمع في هذه الآية مَن يحل للنبيء تزوجهن حتى لا يقع الناس في تردد ولا يفتنهم المرجفون. ولعل ما حدث من استنكار بعض النساء أن تهدي المرأة نفسها لرجل كان من مناسبات اشتمالها على قوله: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيء} الآية ولذلك جمعت الآية تقرير ما هو مشروع وتشريع ما لم يكن مشروعاً لتكون جامعة للأحوال، وذلك أوعب وأقطع للتردد والاحتمال.
معنى {وهبت نفسها للنبيء} أنها ملّكته نفسها تمليكاً شبيهاً بملك اليمين.