والأجور : المهور ، لأنه أجر على الاستمتاع بالبضع وغيره مما يجوز به الاستمتاع .
وفي وصفهنّ ب { اللاتي آتيت أجورهنّ } ، تنبيه على أن الله اختار لنبيه الأفضل والأولى ، لأن إيتاء المهر أولى وأفضل من تأخيره ، ليتفصى الزوج عن عهدة الدين وشغل ذمته به ، ولأن تأخيره يقتضي أنه يستمتع بها مجاناً دون عوض تسلمته ، والتعجيل كان سنة السلف ، لا يعرف منهم غيره .
ألا ترى إلى قوله ، عليه السلام ، لبعض الصحابة حين شكا حالة التزوج :
« فأين درعك الحطمية » ؟ وكذلك تخصيص ما ملكت يمينه بقوله : { مما أفاء الله عليك } ، لأنها إذا كانت مسبية ، فملكها مما غنمه الله من أهل دار الحرب كانت أحل وأطيب مما تشترى من الجلب .
فما سبي من دار الحرب قيل فيه سبي طيبة ، وممن له عهد قيل فيه سبي خبيثة ، وفيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث .
والظاهر أن قوله : { إنا أحللنا لك أزواجك } ، مخصوص لفظة أزواجك بمن كانت في عصمته ، كعائشة وحفصة ، ومن تزوجها بمهر .
وقال ابن زيد : أي من تزوجها بمهر ، ومن تزوجها بلا مهر ، وجميع النساء حتى ذوات المحارم من ممهورة ورقيقة وواهبة نفسها مخصوصة به .
ثم قال بعد { ترجي من تشاء منهنّ } : أي من هذه الأصناف كلها ، ثم الضمير بعد ذلك يعم إلى قوله : { ولا أن تبدل بهنّ من أزواج } ، فينقطع من الأول ويعود على أزواجه التسع فقط ، وفي التأيل الأول تضييق .
وعن ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج أي النساء شاء ، وكان ذلك يشق على نسائه .
فلما نزلت هذه الآية ، وحرم عليه بها النساء ، إلا من سمي سر نساؤه بذلك ، وملك اليمين إنما يعلقه في النادر ، وبنات العم ، ومن ذكر معهنّ يسير .
ومن يمكن أن يتزوج منهن محصور عند نسائه ، ولا سيما وقد قرن بشرط الهجرة ، والواجب أيضاً من النساء قليل ، فلذلك سر بانحصار الأمر .
ثم مجيء { ترجي من تشاء منهن } ، إشارة إلى ما تقدم ، ثم مجيء { ولا أن تبدل بهن من أزواج } ، إشارة إلى أن أزواجه اللواتي تقدم النص عليهن بالتحليل ، فيأتي الكلام مثبتاً مطرداً أكثر من اطراده على التأويل الآخر .
{ وبنات عمك } ، قالت أم هانىء ، بنت أبي طالب : خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاعتذرت إليه فعذرني ، ثم نزلت هذه الآية فحرمتني عليه ، لأني لم أهاجر معه ، وإنما كنت من الطلقاء .
والتخصيص ب { اللاتي هاجرن معك } ، لأن من هاجر معه من قرابته غير المحارم أفضل من غير المهاجرات .
وقيل : شرط الهجرة في التحليل منسوخ .
وحكى الماوردي في ذلك قولين : أحدهما : أن الهجرة شرط في إحلال الأزواج على الإطلاق .
والثاني : أنه شرط في إحلال قرابات المذكورات في الآية دون الأجنبيات ، والمعية هنا : الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها ، فيقال : دخل فلان معي وخرج معي ، أي كان عمله كعملي وإن لم يقترنا في الزمان .
ولو قلت : فرجعنا معاً ، اقتضى المعنيان الاشتراك في الفعل ، والاقتران في الزمان .
وأفرد العم والخال لأنه اسم جنس ، والعمة والخالة كذلك ، وهذا حرف لغوي قاله أبو بكر بن العربي القاضي .
{ وامرأة مؤمنة } ، قال ابن عباس ، وقتادة : هي ميمونة بنت الحارث .
وقال علي بن الحسين ، والضحاك ، ومقاتل : هي أم شريك .
وقال عروة ، والشعبي : هي زينب بنت خزيمة ، أم المساكين ، امرأة من الأنصار .
وقال عروة أيضاً : هي خولة بنت حكيم بن الأوقص السلمية .
فعن ابن عباس : لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منهن بالهبة .
وقيل : الموهبات أربع : ميمونة بنت الحارث ، ومن ذكر معها قبل .
وقرأ الجمهور : { وامرأة } ، بالنصب ؛ { إن وهبت } ، بكسر الهمزة : أي أحللناها لك .
{ إن وهبت } ، { إن أراد } ، فهنا شرطان ، والثاني في معنى الحال ، شرط في الإحلال هبتها نفسها ، وفي الهبة إرادة استنكاح النبي ، كأنه قال : أحللناها لك إن وهبت لك نفسها ، وأنت تريد أن تستنكحها ، لأن إرادته هي قبوله الهبة وما به تتم ، وهذان الشرطان نظير الشرطين في قوله : { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم ، إن كان الله يريد أن يغويكم } وإذا اجتمع شرطان ، فالثاني شرط في الأول ، متأخر في اللفظ ، متقدم في الوقوع ، ما لم تدل قرينة على الترتيب ، نحو : إن تزوجتك أو طلقتك فعبدي حر .
واجتماع الشرطين مسألة فيها خلاف وتفصيل ، وقد استوفينا ذلك في ( شرح التسهيل ) ، في باب الجوازم .
وقرأ أبو حيوة : وامرأة مؤمنة ، بالرفع على الابتداء ، والخبر محذوف : أي أحللناها لك .
وقرأ أبي ، والحسن ، والشعبي ، وعيسى ، وسلام : أن بفتح الهمزة ، وتقديره : لأن وهبت ، وذلك حكم في امرأة بعينها ، فهو فعل ماض ، وقراءة الكسر استقبال في كل امرأة كانت تهب نفسها دون واحدة بعينها .
وقرأ زيد بن علي : اذ وهبت ، إذ ظرف لما مضى ، فهو في امرأة بعينها .
وعدل عن الخطاب إلى الغيبة في النبي ، { إن أراد النبي } ، ثم رجع إلى الخطاب في قوله : { خالصة لك } ، للإيذان بأنه مما خص به وأوثر .
ومجيئه على لفظ النبي ، لدلالة على أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوة ، وتكريره تفخيم له وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوته .
واستنكاحها : طلب نكاحها والرغبة فيه .
والجمهور : على أن التزويج لا يجوز بلفظ الإجارة ولا بلفظ الهبة .
وقال أبو الحسن الكرخي : يجوز بلفظ الإجارة لقوله : { اللاتي آتيت أجورهن } ، وحجة من منع : أن عقد الإجارة مؤقت ، وعقد النكاح مؤبد ، فتنافيا .
وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى جواز عقد النكاح بلفظ الهبة إذا وهبت ، فأشهد على نفسه بمهر ، لأن رسول الله وأمته سواء في الأحكام ، إلا فيما خصه الدليل .
وحجة الجمهور : أنه ، عليه السلام ، خص بمعنى الهبة ولفظها جميعاً ، لأن اللفظ تابع للمعنى ، والمدعى للاشتراك في اللفظ يحتاج إلى دليل .
وقرأ الجمهور : { خالصة } ، بالنصب ، وهو مصدر مؤكد ، { كوعد الله } و { صبغة الله } أي أخلص لك إخلاصاً .
{ أحللنا } ، { خالصة } بمعنى خلوصاً ، ويجىء المصدر على فاعل وعلى فاعلة .
وقال الزمخشري : والفاعل والفاعلة في المصادر على غير عزيزين ، كالخارج والقاعد والعاقبة والكاذبة .
انتهى ، وليس كما ذكر ، بل هما عزيزان ، وتمثيله كالخارج يشير إلى قول الفرزدق :
والقاعد إلى أحد التأويلين في قوله :
والكاذبة إلى قوله تعالى : { ليس لوقعتها كاذبة } وقد تتأول هذه الألفاظ على أنها ليست مصادر .
وقرىء : خالصة ، بالرفع ، فمن جعله مصدراً ، قدره ذلك خلوص لك ، وخلوص من دون المؤمنين .
والظاهر أن قوله : { خالصة لك } من صفة الواهبة نفسها لك ، فقراءة النصب على الحال ، قاله الزجاج : أي أحللناها خالصة لك ، والرفع خبر مبتدأ : أي هي خالصة لك ، أي هبة النساء أنفسهنّ مختص بك ، لا يجوز أن تهب المرأة نفسها لغيرك .
وأجمعوا على أن ذلك غير جائز لغيره ، عليه السلام .
ويظهر من كلام أبيّ بن كعب أن معنى قوله : { خالصة لك } يراد به جميع هذه الإباحة ، لأن المؤمنين قصروا على مثنى وثلاث ورباع .
وقال الزمخشري : والدليل على أنها وردت في أثر الإحلالات الأربع مخصوصة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، على سبيل التوكيد لها قوله : { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم } ، بعد قوله : { من دون المؤمنين } ، وهي جملة اعتراضية .
وقوله : { لكيلا يكون عليك حرج } متصل ب { خالصة لك من دون المؤمنين } في الأزواج الإماء ، وعلى أي حد وصفه يجب أن يفرض عليهم ، ففرضه وعلم المصلحة في اختصاص رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اختصه به ، ففعل .
ومعنى { لكيلا يكون عليك حرج } : أي لكيلا يكون عليك ضيق في دينك ، حيث اختصصناك بالتنزيه ، واختصاص ما هو أولى وأفضل في دنياك ، حيث أحللنا لك أجناس المنكوحات ، وزدناك الواهبة نفسها ؛ ومن جعل خالصة نعتاً للمرأة ، فعلى مذهبه هذه المرأة خالصة لك من دونهم . انتهى .
والظاهر أن { لكيلا } متعلق بقوله : { أحللنا لك أزواجك } .
وقال ابن عطية : { لكيلا يكون } ، أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح لكي لا يكون عليك حرج ، ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك ، ثم آنس جميع المؤمنين بغفرانه ورحمته .
وقال الزمخشري : { غفوراً } للواقع في الحرج إذا تاب ، { رحيماً } بالتوسعة على عباده .
{ قد علمنا ما فرضنا عليهم } الآية ، معناه : أن ما ذكرنا فرضك وحكمك مع نسائك ، وأما حكم أمتك فعندنا علمه ، وسنبينه لهم .
وإنما ذكر هذا لئلا يحمل واحد من المؤمنين نفسه على ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم ، فإن له في النكاح والتسري خصائص ليست لغيره .
وقال مجاهد : { ما فرضنا عليهم } ، هو أن لا يجاوزوا أربعاً .
وقال قتادة : هو الولي والشهود والمهر .
وقيل : ما فرضنا من المهر والنفقة والكسوة .
{ وما ملكت أيمانهم } ، قيل : لا يثبت الملك إلا إذا كانت ممن يجوز سبيها .
وقيل : ما أبحنا لهم من ملك اليمين مع الأربع الحرائر من غير عدد محصور ، والمعنى : قد علمنا إصلاح كل منك ومن أمتك ، وما هو الأصلح لك ولهم ، فشرعنا في حقك وحقهم على وفق ما علمنا .
روي أن أزواجه عليه السلام لما تغايرن وابتغين زيادة النفقة ، فهجرهن شهراً ، ونزل التخيير ، فأشفقن أن يطلقن فقلن : يا رسول الله ، افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت .