البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحۡلَلۡنَا لَكَ أَزۡوَٰجَكَ ٱلَّـٰتِيٓ ءَاتَيۡتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّـٰتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَٰلَٰتِكَ ٱلَّـٰتِي هَاجَرۡنَ مَعَكَ وَٱمۡرَأَةٗ مُّؤۡمِنَةً إِن وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنۡ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسۡتَنكِحَهَا خَالِصَةٗ لَّكَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۗ قَدۡ عَلِمۡنَا مَا فَرَضۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ لِكَيۡلَا يَكُونَ عَلَيۡكَ حَرَجٞۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (50)

والأجور : المهور ، لأنه أجر على الاستمتاع بالبضع وغيره مما يجوز به الاستمتاع .

وفي وصفهنّ ب { اللاتي آتيت أجورهنّ } ، تنبيه على أن الله اختار لنبيه الأفضل والأولى ، لأن إيتاء المهر أولى وأفضل من تأخيره ، ليتفصى الزوج عن عهدة الدين وشغل ذمته به ، ولأن تأخيره يقتضي أنه يستمتع بها مجاناً دون عوض تسلمته ، والتعجيل كان سنة السلف ، لا يعرف منهم غيره .

ألا ترى إلى قوله ، عليه السلام ، لبعض الصحابة حين شكا حالة التزوج :

« فأين درعك الحطمية » ؟ وكذلك تخصيص ما ملكت يمينه بقوله : { مما أفاء الله عليك } ، لأنها إذا كانت مسبية ، فملكها مما غنمه الله من أهل دار الحرب كانت أحل وأطيب مما تشترى من الجلب .

فما سبي من دار الحرب قيل فيه سبي طيبة ، وممن له عهد قيل فيه سبي خبيثة ، وفيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث .

والظاهر أن قوله : { إنا أحللنا لك أزواجك } ، مخصوص لفظة أزواجك بمن كانت في عصمته ، كعائشة وحفصة ، ومن تزوجها بمهر .

وقال ابن زيد : أي من تزوجها بمهر ، ومن تزوجها بلا مهر ، وجميع النساء حتى ذوات المحارم من ممهورة ورقيقة وواهبة نفسها مخصوصة به .

ثم قال بعد { ترجي من تشاء منهنّ } : أي من هذه الأصناف كلها ، ثم الضمير بعد ذلك يعم إلى قوله : { ولا أن تبدل بهنّ من أزواج } ، فينقطع من الأول ويعود على أزواجه التسع فقط ، وفي التأيل الأول تضييق .

وعن ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج أي النساء شاء ، وكان ذلك يشق على نسائه .

فلما نزلت هذه الآية ، وحرم عليه بها النساء ، إلا من سمي سر نساؤه بذلك ، وملك اليمين إنما يعلقه في النادر ، وبنات العم ، ومن ذكر معهنّ يسير .

ومن يمكن أن يتزوج منهن محصور عند نسائه ، ولا سيما وقد قرن بشرط الهجرة ، والواجب أيضاً من النساء قليل ، فلذلك سر بانحصار الأمر .

ثم مجيء { ترجي من تشاء منهن } ، إشارة إلى ما تقدم ، ثم مجيء { ولا أن تبدل بهن من أزواج } ، إشارة إلى أن أزواجه اللواتي تقدم النص عليهن بالتحليل ، فيأتي الكلام مثبتاً مطرداً أكثر من اطراده على التأويل الآخر .

{ وبنات عمك } ، قالت أم هانىء ، بنت أبي طالب : خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاعتذرت إليه فعذرني ، ثم نزلت هذه الآية فحرمتني عليه ، لأني لم أهاجر معه ، وإنما كنت من الطلقاء .

والتخصيص ب { اللاتي هاجرن معك } ، لأن من هاجر معه من قرابته غير المحارم أفضل من غير المهاجرات .

وقيل : شرط الهجرة في التحليل منسوخ .

وحكى الماوردي في ذلك قولين : أحدهما : أن الهجرة شرط في إحلال الأزواج على الإطلاق .

والثاني : أنه شرط في إحلال قرابات المذكورات في الآية دون الأجنبيات ، والمعية هنا : الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها ، فيقال : دخل فلان معي وخرج معي ، أي كان عمله كعملي وإن لم يقترنا في الزمان .

ولو قلت : فرجعنا معاً ، اقتضى المعنيان الاشتراك في الفعل ، والاقتران في الزمان .

وأفرد العم والخال لأنه اسم جنس ، والعمة والخالة كذلك ، وهذا حرف لغوي قاله أبو بكر بن العربي القاضي .

{ وامرأة مؤمنة } ، قال ابن عباس ، وقتادة : هي ميمونة بنت الحارث .

وقال علي بن الحسين ، والضحاك ، ومقاتل : هي أم شريك .

وقال عروة ، والشعبي : هي زينب بنت خزيمة ، أم المساكين ، امرأة من الأنصار .

وقال عروة أيضاً : هي خولة بنت حكيم بن الأوقص السلمية .

واختلف في ذلك .

فعن ابن عباس : لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منهن بالهبة .

وقيل : الموهبات أربع : ميمونة بنت الحارث ، ومن ذكر معها قبل .

وقرأ الجمهور : { وامرأة } ، بالنصب ؛ { إن وهبت } ، بكسر الهمزة : أي أحللناها لك .

{ إن وهبت } ، { إن أراد } ، فهنا شرطان ، والثاني في معنى الحال ، شرط في الإحلال هبتها نفسها ، وفي الهبة إرادة استنكاح النبي ، كأنه قال : أحللناها لك إن وهبت لك نفسها ، وأنت تريد أن تستنكحها ، لأن إرادته هي قبوله الهبة وما به تتم ، وهذان الشرطان نظير الشرطين في قوله : { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم ، إن كان الله يريد أن يغويكم } وإذا اجتمع شرطان ، فالثاني شرط في الأول ، متأخر في اللفظ ، متقدم في الوقوع ، ما لم تدل قرينة على الترتيب ، نحو : إن تزوجتك أو طلقتك فعبدي حر .

واجتماع الشرطين مسألة فيها خلاف وتفصيل ، وقد استوفينا ذلك في ( شرح التسهيل ) ، في باب الجوازم .

وقرأ أبو حيوة : وامرأة مؤمنة ، بالرفع على الابتداء ، والخبر محذوف : أي أحللناها لك .

وقرأ أبي ، والحسن ، والشعبي ، وعيسى ، وسلام : أن بفتح الهمزة ، وتقديره : لأن وهبت ، وذلك حكم في امرأة بعينها ، فهو فعل ماض ، وقراءة الكسر استقبال في كل امرأة كانت تهب نفسها دون واحدة بعينها .

وقرأ زيد بن علي : اذ وهبت ، إذ ظرف لما مضى ، فهو في امرأة بعينها .

وعدل عن الخطاب إلى الغيبة في النبي ، { إن أراد النبي } ، ثم رجع إلى الخطاب في قوله : { خالصة لك } ، للإيذان بأنه مما خص به وأوثر .

ومجيئه على لفظ النبي ، لدلالة على أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوة ، وتكريره تفخيم له وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوته .

واستنكاحها : طلب نكاحها والرغبة فيه .

والجمهور : على أن التزويج لا يجوز بلفظ الإجارة ولا بلفظ الهبة .

وقال أبو الحسن الكرخي : يجوز بلفظ الإجارة لقوله : { اللاتي آتيت أجورهن } ، وحجة من منع : أن عقد الإجارة مؤقت ، وعقد النكاح مؤبد ، فتنافيا .

وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى جواز عقد النكاح بلفظ الهبة إذا وهبت ، فأشهد على نفسه بمهر ، لأن رسول الله وأمته سواء في الأحكام ، إلا فيما خصه الدليل .

وحجة الجمهور : أنه ، عليه السلام ، خص بمعنى الهبة ولفظها جميعاً ، لأن اللفظ تابع للمعنى ، والمدعى للاشتراك في اللفظ يحتاج إلى دليل .

وقرأ الجمهور : { خالصة } ، بالنصب ، وهو مصدر مؤكد ، { كوعد الله } و { صبغة الله } أي أخلص لك إخلاصاً .

{ أحللنا } ، { خالصة } بمعنى خلوصاً ، ويجىء المصدر على فاعل وعلى فاعلة .

وقال الزمخشري : والفاعل والفاعلة في المصادر على غير عزيزين ، كالخارج والقاعد والعاقبة والكاذبة .

انتهى ، وليس كما ذكر ، بل هما عزيزان ، وتمثيله كالخارج يشير إلى قول الفرزدق :

ولا خارج من في زور كلام . . .

والقاعد إلى أحد التأويلين في قوله :

أقاعداً وقد سار الركب . . .

والكاذبة إلى قوله تعالى : { ليس لوقعتها كاذبة } وقد تتأول هذه الألفاظ على أنها ليست مصادر .

وقرىء : خالصة ، بالرفع ، فمن جعله مصدراً ، قدره ذلك خلوص لك ، وخلوص من دون المؤمنين .

والظاهر أن قوله : { خالصة لك } من صفة الواهبة نفسها لك ، فقراءة النصب على الحال ، قاله الزجاج : أي أحللناها خالصة لك ، والرفع خبر مبتدأ : أي هي خالصة لك ، أي هبة النساء أنفسهنّ مختص بك ، لا يجوز أن تهب المرأة نفسها لغيرك .

وأجمعوا على أن ذلك غير جائز لغيره ، عليه السلام .

ويظهر من كلام أبيّ بن كعب أن معنى قوله : { خالصة لك } يراد به جميع هذه الإباحة ، لأن المؤمنين قصروا على مثنى وثلاث ورباع .

وقال الزمخشري : والدليل على أنها وردت في أثر الإحلالات الأربع مخصوصة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، على سبيل التوكيد لها قوله : { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم } ، بعد قوله : { من دون المؤمنين } ، وهي جملة اعتراضية .

وقوله : { لكيلا يكون عليك حرج } متصل ب { خالصة لك من دون المؤمنين } في الأزواج الإماء ، وعلى أي حد وصفه يجب أن يفرض عليهم ، ففرضه وعلم المصلحة في اختصاص رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اختصه به ، ففعل .

ومعنى { لكيلا يكون عليك حرج } : أي لكيلا يكون عليك ضيق في دينك ، حيث اختصصناك بالتنزيه ، واختصاص ما هو أولى وأفضل في دنياك ، حيث أحللنا لك أجناس المنكوحات ، وزدناك الواهبة نفسها ؛ ومن جعل خالصة نعتاً للمرأة ، فعلى مذهبه هذه المرأة خالصة لك من دونهم . انتهى .

والظاهر أن { لكيلا } متعلق بقوله : { أحللنا لك أزواجك } .

وقال ابن عطية : { لكيلا يكون } ، أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح لكي لا يكون عليك حرج ، ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك ، ثم آنس جميع المؤمنين بغفرانه ورحمته .

وقال الزمخشري : { غفوراً } للواقع في الحرج إذا تاب ، { رحيماً } بالتوسعة على عباده .

انتهى ، وفيه دسيسه اعتزالية .

{ قد علمنا ما فرضنا عليهم } الآية ، معناه : أن ما ذكرنا فرضك وحكمك مع نسائك ، وأما حكم أمتك فعندنا علمه ، وسنبينه لهم .

وإنما ذكر هذا لئلا يحمل واحد من المؤمنين نفسه على ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم ، فإن له في النكاح والتسري خصائص ليست لغيره .

وقال مجاهد : { ما فرضنا عليهم } ، هو أن لا يجاوزوا أربعاً .

وقال قتادة : هو الولي والشهود والمهر .

وقيل : ما فرضنا من المهر والنفقة والكسوة .

{ وما ملكت أيمانهم } ، قيل : لا يثبت الملك إلا إذا كانت ممن يجوز سبيها .

وقيل : ما أبحنا لهم من ملك اليمين مع الأربع الحرائر من غير عدد محصور ، والمعنى : قد علمنا إصلاح كل منك ومن أمتك ، وما هو الأصلح لك ولهم ، فشرعنا في حقك وحقهم على وفق ما علمنا .

روي أن أزواجه عليه السلام لما تغايرن وابتغين زيادة النفقة ، فهجرهن شهراً ، ونزل التخيير ، فأشفقن أن يطلقن فقلن : يا رسول الله ، افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت .