قوله تعالى : { يا أيها النبي إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } أي مهورهن { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } وقوله : { مِمَّا أَفَاءَ الله عَلَيْكَ } رد عليك من الكفار بأن تَسْبِي فتملك ، وهذا بيان لما ملكت ، وليس هذا قيداً بل لو ملكت يمينه بالشراء كان الحكم كذا ، وإِنَّما خرج مَخْرَج الغالب{[43721]} . واعلم أنه ذكر{[43722]} للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو أولى فإن الزوجة التي أُوتِيَتْ مهرها أطيب قلباً من التي لم تؤت والمملوكة التي سَبَاها الرجل بنفسه أطهر من التي اشتراها الرجل لأنه لا يدري كيف حالها ، ومن هاجرت من أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم - معه أشرف ممن لم تهاجِر ، وقال بعضهم : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يستوفي ما لا يجب له والوطء قبل إيتاء الصداق غير مستحق وإن كان حلالاً لنا وكيف والنبي عليه الصلاة والسلام إذا طلب شيئاً حرم الامتناع على المطلوب ؟ والظاهر أن الطالب في المرة الأولى إنما هو الرجل لحياء المرأة فلو طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المرأة التمكين قبل المهر للزم أن يجب وأن لا يجب وهو محال ولا كذلك أحدنا ويؤكد هذا قوله : { وامرأةً مُؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } يعني حينئذ لا يبقى لها صداق فتصير كالمستوفية مهرها .
واعلم أن اللاتي{[43723]} ملكت يمينه مثل صفية ، وجُوَيْريَة ، ومَارِيَة { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ } يعني نساء قريش { وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ } يعني نساء بني زُهْرَة { اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ } إلى المدينة فمن لم تهاجر معه منهم لم يجز له نكاحها ، روى أبو صالح عن أم هانئ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة خطبني فأنزل الله هذه الآية فلم أحل له لأني لم أكن من المهاجرات وكنت من المطلقات{[43724]} ، ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل .
قوله «وامرْأَةً » العامة على النصب وفيه وجهان :
أحدهما : أنها عطف على مفعول «أَحْلَلْنا » أي وأحْلَلْنَا لك امرأة ً موصوفة{[43725]} بهذين الشرطين ، قال أبو البقاء وقد رد هذا قوم ، وقالوا : «أَحْلَلْنا » ماضٍ ، و «إنْ وَهَبَتْ » - وهو صفة للمرأة - مستقبل ، «فأحللنا » في موضع جوابه ، وجواب الشرط لا يكون ماضياً في المعنى ، قال : وهذا ليس بصحيح لأم معنى الإحلال ههنا الإعلام بالحل إذا وقع الفعل على ذلك كما تقول : «أَبَحْتُ لَكَ أَنْ تُكَلِّمَ فُلاَناً إِنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ »{[43726]} .
والثاني : أنه ينتصب بمقدر تقديره : «ويُحِلُّ لك امرأةً »{[43727]} .
قوله : «إنْ وَهَبَتْ ، إِنْ أَرَادَ » هذا من اعتراض الشرط على الشرط ، والثاني هو قيد في الأول ولذلك نعربه حالاً ، لأن الحال قيد ، ولهذا اشترط الفقهاء أن يتقدم الثاني على الأول في الوجود . فلو قال : إن أَكَلْتُ إنْ رَكِبْتُ فأنتِ طالقٌ ، فلا بد أن يتقدم الركوب على الأكل ، وهذا له تحقق الحالية والتقييد كما ذكرنا ، إذ لو لم يتقدم لخلا جزء من الأكل غير مقيد بركوب فلهذا اشترطنا تقدم الثاني وقد مضى تحقيق هذا وأنه يشترط أن لا تكون ثَمَّ قرينة تمنع من تقدم الثاني على الأول كقوله : «إنْ تَزَوَّجْتُك إِنْ طَلَّقْتُكِ فعَبْدِي حُرٌّ » ( لأنه ){[43728]} لا يتصور هنا تقديمُ الطلاق على التَّزويج{[43729]} .
قال شهاب الدين : وقد عرض لي إشكال على{[43730]} ما قاله الفقهاء بهذه الآية وذلك أن الشرط الثاني هنا لا يمكن تقدمه في الوجود بالنسبة إلى الحكم الخاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا أنه لا يمكن عقلاً ، وذلك أن المفسرين فسروا قوله تعالى : «إنْ أَرَادَ » بمعنى قبل الهِبَة{[43731]} لأن بالقبول منه ( عليه الصلاة{[43732]} و ) السلام يتم نكاحه وهذا لا يتصور تقدمه على الهبة إذ القبول متأخر ، وأيضاً فإن القصة كانت على ما ذكرته من تأخر إرادته من هِبَتها وهو مذكور في التفسير{[43733]} ، وأبو حيان لما جاء إلى ههنا جعل الشرط الثاني متقدماً على الأول على القاعدة العامة ، ولم{[43734]} يستشكل شيئاً مما ذكرته ، وقد عرضت هذا الإِشكال على جماعة من أعيان زماننا فاعترفوا به ولم يظهر عن جواب إلا ما قدمته من أنه ثم قرينة مانعة من ذلك كما مثلته آنفاً ، وقرأ أبو حيوة «وامْرَأَةٌ » بالرفع على الابتداء ، والخبر مقدر ، أي أَحْلَلْنَاها لَكَ أَيْضاً{[43735]} . وفي قوله : { إِنْ أَرَادَ النبي } التفات من الخطاب إلى الغيبة بلفظ الظاهر تنبيهاً على أن سبب ذلك النبوة ، ثم رجع إلى الخطاب فقال : «خَالِصَةً لَكَ » ، وقرأ أبي والحسن وعيسى «أَنْ » بالفتح{[43736]} ، وفيه وجهان :
أحدها : أنه بدل من «امرأة » بدل اشتمال قاله أبو البقاء{[43737]} ، كأنه قيل : وأحْلَلْنَا لك هِبَةَ المَرْأَةِ نَفْسَهَا لَكَ .
والثاني : أنها على حذف لام العلة{[43738]} ( أي ){[43739]} " لأَنْ وَهَبَتْ " ، وزيد بن علي " إِذْ وَهَبَتْ " {[43740]} وفيه معنى العِلِّيِّةِ .
قوله : «خالصة » العامة على النصب وفيه أوجه :
أحدها : أنه منصوب على الحال من فاعل «وَهَبَتْ » أي حال كونها خالصةً لك دُونَ غَيْرِكَ{[43741]} .
الثاني : أنها حال من «امرأة » لأنها وصفت فتخصصت ، وهو بمعنى الأول ، وإليه ذهب{[43742]} الزجاج .
الثالث : أنها نعت مصدر مقدر أي هبة خالصة فنصبها «بوَهَبَتْ »{[43743]} .
الرابع : أنها مصدر مؤكد «كوَعْدَ اللَّهِ »{[43744]} ، قال الزمخشري : والفاعل والفاعلة في المصادر غير عزيزين كالخَارجِ والقَاعِدِ ، والكاذِبَةِ والعَافِيَةِ{[43745]} يريد بالخارج ما في قول الفرزدق :
4100 - . . . . . . . . . . . . *** وَلاَ خَارِجاً مِنْ فِيَّ زُورُ كَلاَمِ{[43746]}
وبالقاعد ما في قولهم : «أَقَاعِداً وَقَدْ سَارَ الرَّكْبُ » ، وبالكاذبة ما في قوله تعالى : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } [ الواقعة : 2 ] ، وقد أنكر أبو حيان عليه قوله : «غير عزيزين » وقال : بل هما عزيزان ، وما ورد متأول{[43747]} ، وقرئ : «خَالِصَةٌ » بالرفع{[43748]} ، فإن كانت «خالصة » حالاً قدر المبتدأ «هي » أي المرأة الواهبة ، وإن كانت مصدراً قدر فتلك الحالة خالصة ، و «لك » على البيان أي أعني لك نحو : «سَقْياً لَكَ »{[43749]} .
المعنى : أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها لك بغير صداق ، فأما غير المؤمنة فلا تَحِلُّ له إذا وهبت نفسها منه ، واختلفوا في أنه هل كان يحِل للنبي - صلى الله عليه وسلم - نكاح اليهودية والنصرانية ، فذهب أكثرهم إلى أنه كان لا يحل له ذلك لقوله : «وامرأة مؤمنة » وأول بعضهم الهجرة في قوله : «هَاجَرْنَ مَعَكَ » يعني على الإسلام أي أسلمن معك ، فيدل ذلك على أنه لا يحل نكاح غير{[43750]} المسلمة . وكان النكاح ينعقد في حقه بمعنى الهبة من غير ولي ولا شهود ولا مَهْرٍ ، وكان ذلك من خصائصه عليه ( الصلاة{[43751]} و ) السلام - لقوله تعالى : { خَالِصَةً لََكَ مِن دُونِ المؤمنين } كالزيادة على الأدب ووجوب تخيير النساء من خصائص لا مشاركة لأحد معه ، واختلفوا في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة ، فقال سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء : لا ينعقد إلا بلفظ النكاح{[43752]} أو التزويج ، وبه قال ربيعة ومالك والشافعي{[43753]} ، ومعنى الآية أنّ إباحة الوطء بالهبة وحصول التزويج بلفظها من خواصه عليه السلام . وقال النخعيُّ وأبو حنيفةَ وأهلُ الكوفة ينعقد بلفظ الهبة{[43754]} والتمليك وأن معنى الآية أن تلك المرأة صارت خالصة لك زوجةً من أمهات المؤمنين ولا تحل لغيرك أبداً بالتزويج وأجيب بأن هذا التخصيص بالواهبة لا فائدة فيه فإن أزواجه كلهن خالصات له ، وما ذكرناه ( يتبين ){[43755]} للتخصيص فائدة .
اختلفوا في التي وهبت نفسها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل كانت عنده امرأة منهن فقال عبد الله بن عباس ومجاهد : لم يكن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة وهبت نفسها منه ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين{[43756]} ، وقوله «وَهَبَتْ نَفْسَهَا » على طريق الشرط والجزاء ، وقيل : بل كانت موهوبة واختلفوا فيها ، فقال الشعبي : هي زينب بنت خزيمة الهلالية{[43757]} يقال لها : أم المساكين{[43758]} ، وقال قتادة{[43759]} : هي ميمونة بنت الحارث{[43760]} ، وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل{[43761]} : أمّ شريك بنت جابر من بني أسد{[43762]} ، وقال عروة بن الزبير{[43763]} : هي خولة بنت حكيم من بني{[43764]} سُلَيْم .
قوله : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا } أوجبنا على المؤمنين «فِي أَزواجِهِمْ » من الأحكام أن لا يتزوجوا أكثر من أربع ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي ما أوجبنا من الأحكام في ملك اليمين ، وإنما ذكر هذا لئلا يحمل واحدٌ من المؤمنين نفسه على ما كان النبي عليه السلام فإن له في النكاح خصائصَ ليست لغيره ، وكذلك في السَّرَارِي .
قوله : «لِكَيْلاَ » يتعلق «بخالصة »{[43765]} وما بينهما اعتراض و «مِنْ دُونِ » متعلق «بخالصة » كما تقول : خَلَص{[43766]} مِنْ كَذَا .
قال المفسرون : هذا يرجع إلى أول الآية أي أحللنا لك أزواجَك وما ملكت يمينك والموهوبة { لكيلا يكون عليك حرج } { وَكَانَ الله غَفُوراً رَحِيماً } يغفر الذنوب جميعاً ويرحم العبيد .