ولما كان النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وكان المراد الأعظم في هذه الآيات بيان ما شرفه الله به من {[55798]}ذلك ، أتبع ما بين أنه{[55799]} لا عدة فيه من نكاح المؤمنين وما حرمه عليهم من التضييق على الزوجات المطلقات{[55800]} بعض ما شرفه الله تعالى به وخصه من أمر التوسعة في{[55801]} النكاح ، وختمه بأن أزواجه لا تحل بعده ، فهن كمن عدتهن{[55802]} ثابتة لا تنقضي{[55803]} أبداً ، أو كمن زوجها غائب عنها وهو حي ، لأنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره : { يا أيها النبي } ذاكراً سبحانه الوصف الذي هو مبدأ القرب ومقصوده ومنبع{[55804]} الكمال ومداره .
ولما كان الذين في قلوبهم مرض ينكرون خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أكد قوله : { إنا أحللنا لك أزواجك } أي نكاحهن ، قال الحرالي في كتابه في أصول الفقه : تعليق الحكم بالأعيان مختص بخاص مدلولها نحو حرمت أو حللت المرأة أي نكاحها ، والفرس أي ركوبه ، والخمر أي شربها ، ولحم الخنزير أي أكله ، والبحر أي ركوبه ، والثور أي الحرث به ، وكذلك كل شيء يختص بخاص مدلوله ، ولا يصرف عنه إلا بمشعر ، ولا إجمال فيه لترجح الاختصاص - انتهى .
ولما كان المقصود من هذه السورة بيان مناقبه صلى الله عليه وسلم وما خصه الله به مما قد يطعن فيه المنافقون من كونه أولى من كل أحد بنفسه وماله ، بين أنه مع ذلك لا يرضى إلا بالأكمل ، فبين أنه كان{[55805]} يعجل المهور ، ويوفي الأجور ، فقال : { اللاتي آتيت } أي بالإعطاء الذي هو الحقيقة ، وهي{[55806]} به صلى الله عليه وسلم أولى {[55807]}أو بالتسمية{[55808]} في العقد قال الكشاف : وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم وما لا يعرف بينهم غيره { أجورهن } أي مهورهن لأنها{[55809]} عوض عن منفعة البضع ، وأصل الأجر الجزاء{[55810]} على العمل { وما ملكت يمينك } .
ولما كان حوز{[55811]} الإنسان لما سباه أطيب لنفسه وأعلى لقدره وأحل مما اشتراه قال : { مما أفاء } أي رد { الله } الذي له الأمر كله { عليك } مثل صفية بنت حيي النضرية وريحانة القرظية{[55812]} وجويرية بنت الحارث الخزاعية رضي الله عنهن مما كان في أيدي الكفار ، أسنده إليه سبحانه إفهاماً لأنه فيء على وجهه الذي أحله الله لا خيانة فيه ، وعبر بالفيء{[55813]} الذي معناه الرجوع إفهاماً لأن ما في يد الكافر ليس له ، وإنما هو لمن{[55814]} يستلبه منه من المؤمنين بيد{[55815]} القهر أو لمن يعطيه الكافر منهم عن طيب نفس ، ومن هنا كان يعطي النبي صلى الله عليه وسلم ما يطلب منه من بلاد الكفار أو نسائهم ، وما أعطى أحداً شيئاً إلا وصل إليه كتميم الداري وشويل رضي الله عنهما ، وقيد بذلك تنبيهاً على فضله صلى الله عليه وسلم ووقوعه من كل شيء على أفضله كما تقدمت الإشارة إليه ، وإشارة إلى أنه سبق في علم الله أنه لا يصل إليه من ملك اليمين{[55816]} إلا ما كان هذا سبيله ، ودخل فيه ما أهدى له {[55817]}من الكفار{[55818]} مثل مارية القبطية أم ولده إبراهيم عليه السلام ، وفي ذلك أيضاً إشارة إلى ما خصه به من تحليل ما كان خطره على من كان قبله من الغنائم { وبنات عمك } الشقيق وغيره من باب الأولى ، فإن النسب كلما بعد كان أجدر بالحل .
ولما كان قد أفرد العم لأن واحد الذكور يجمع من غيره لشرفه وقوته وكونه الأصل الذي تفرع منه هذا النوع ، عرف بجمع{[55819]} الإناث أن المراد به الجنس لئلا يتوهم أن{[55820]} المراد إباحة الأخوات مجتمعات فقال : { وبنات عماتك } من نساء بني عبد المطلب .
ولما بدأ بالعمومة لشرفها ، أتبعها{[55821]} قوله : { وبنات خالك } جارياً أيضاً في الإفراد والجمع على ذلك النحو { وبنات خالاتك } أي{[55822]} من نساء بني زهرة ويمكن أن يكون في ذلك احتباك عجيب وهو : بنات عمك وبنات أعمامك ، وبنات عماتك وبنات عمتك ، وبنات خالك وبنات أخوالك ، وبنات خالاتك وبنات خالتك ، وسره ما أشير إليه{[55823]} .
ولما بين شرف أزواجه من جهة النسب لما علم واشتهر أن نسبه صلى الله عليه وسلم من جهة الرجال والنساء أشرف{[55824]} الأنساب بحيث لم يختلف في ذلك اثنان من العرب ، بين شرفهن من جهة الأعمال فقال : { اللاتي هاجرن } وأشار بقوله : { معك } إلى أن الهجرة قبل الفتح
{ أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا }[ الحديد : 10 ] ولم يرد بذلك التقييد بل التنبيه على الشرف ، وإشارة إلى أنه سبق في علمه سبحانه أنه لا يقع له أن يتزوج من هي خارجة عن هذه الأوصاف ، وقد ورد أن هذا على سبيل التقييد ؛ روى الترمذي{[55825]} والحاكم وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه والطبراني والطبري{[55826]} وابن أبي حاتم كلهم من رواية السدي عن أبي صالح عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها{[55827]} قالت : خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه{[55828]} فعذرني ثم أنزل الله تعالى { إنا أحللنا لك أزواجك } - الآية ، فلم أكن لأحل له لأني لم أهاجر . كنت من الطلقاء قال الترمذي : حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث السدي .
ولما بين ما هو الأشرف من النكاح لكونه{[55829]} الأصل ، و{[55830]} أتبعه سبحانه ما خص به شرعه صلى الله عليه وسلم من المغنم الذي تولى سبحانه إباحته ، أتبعه ما جاءت إباحته من جهة المبيح إعلاماً بأنه ليس من نوع الصدقة التي نزه عنها قدره فقال : { وامرأة } أي وأحللنا لك امرأة { مؤمنة } أي هذا الصنف حرة كانت أو رقيقة { إن وهبت نفسها للنبي } .
ولما ذكر وصف النبوة لأنه مدار الإكرام من الخالق والمحبة من الخلائق تشريفاً له به وتعليقاً للحكم بالوصف ، لأنه لو قال " لك " كان ربما وقع في بعض الأوهام - كما قال الزجاج - أنه غير خاص به صلى الله عليه وسلم ، كرره بياناً لمزيد شرفه في سياق رافع لما ربما يتوهم من أنه يجب عليه القبول{[55831]} فقال : { إن أراد النبي } أي الذي أعلينا قدره بما اختصصناه به من الإنباء بالأمور العظمية من عالم الغيب والشهادة { أن يستنكحها } أي يوجد نكاحه لها{[55832]} يجعلها من منكوحاته بعقد أو ملك يمين ، فتصير له{[55833]} مجرد ذلك بلا مهر{[55834]} ولا ولي ولا شهود .
ولما كان ربما فهم أن غيره يشاركه في هذا المعنى ، قال مبيناً لخصوصيته{[55835]} واصفاً لمصدر { أحللنا } مفخماً للأمر بهاء المبالغة ملتفتاً إلى الخطاب لأنه معين للمراد رافع للارتياب : { خالصة لك } وزاد المعنى بياناً بقوله : { من دون المؤمنين } أي{[55836]} من الأنبياء وغيرهم ، وأطلق الوصف المفهم للرسوخ فشمل من قيد بالإحسان والإيقان ، وغير ذلك من الألوان ، دخل من نزل عن رتبتهم من الذين يؤمنون والذين آمنوا وسائر الناس من باب الأولى مفهوم موافقة ، وقد كان الواهبات عدة ولم يكن{[55837]} عنده منهن شيء . روى البخاري{[55838]} عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول : أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها ، فلما نزلت { ترجى من تشاء منهن } قلت : يا رسول الله ، ما أرى ربك إلا يسارع في هواك .
ولما كان التخصيص لا يصح ولا يتصور إلا من محيط العلم بأن هذا الأمر ما كان لغير المخصوص تام القدرة ، ليمنع غيره من ذلك ، علله بقوله : { قد } أي{[55839]} أخبرناك بأن هذا أمر يخصك دونهم لأنا{[55840]} قد { علمنا ما فرضنا } أي قدرنا بعظمتنا .
ولما كان ما قدره للإنسان عطاء ومنعا لا بد له منه ، عبر فيه بأداة الاستعلاء فقال : { عليهم } أي المؤمنين { في أزواجهم } أي من أنه لا تحل لهم امرأة بلفظ الهبة منها ولا بدون مهر ولا بدون ولي وشهود ، وهذا عام لجميع المؤمنين المتقدمين والمتأخرين . ولما كان هذا عاماً للحرة والرقيقة قال : { وما ملكت أيمانهم } أي من أن{[55841]} أحداً غيرك لا يملك رقيقة بهبتها لنفسها منه ، فيكون أحق من سيدها .
ولما فرغ من تعليل الدونية ، علل التخصيص لفاً ونشراً مشوشاً بقوله : { لكيلا يكون عليك حرج } أي ضيق في شيء من أمر النساء حيث أحللنا لك أنواع المنكوحات وزدناك الواهبة . ولما ذكر سبحانه ما فرض في الأزواج والإماء الشامل للعدل في عشرتهن ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الناس فهماً وأشدهم لله{[55842]} خشية ، وكان يعدل بينهن ، ويعتذر مع ذلك من ميل القلب الذي هو خارج عن طوق البشر بقوله " اللهم هذا قسمي{[55843]} فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك " خفف عنه سبحانه بقوله : { وكان الله } أي المتصف بصفات الكمال من الحلم{[55844]} والأناة والقدرة وغيرها{[55845]} أزلاً وأبداً { غفوراً رحيماً * } أي بليغ الستر فهو إن شاء يترك المؤاخذة فيما له أن يؤاخذ به ، ويجعل مكان المؤاخذة الإكرام العظيم متصفاً بذلك أزلاً وأبداً .