التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلۡمُجۡرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ رَبَّنَآ أَبۡصَرۡنَا وَسَمِعۡنَا فَٱرۡجِعۡنَا نَعۡمَلۡ صَٰلِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} (12)

أردف ذكر إنكارهم البعث بتصوير حال المنكرين أثر البعث وذلك عند حشرهم إلى الحساب ، وجيء في تصوير حالهم بطريقة حذف جواب { لو } حذفاً يرادفه أن تذهب نفس السامع كل مذهب من تصوير فظاعة حالهم وهول موقفهم بين يدي ربهم ، وبتوجيه الخطاب إلى غير معيّن لإفادة تناهي حالهم في الظهور حتى لا يختصّ به مخاطب . t والمعنى : لو ترى أيها الرائي لرأيت أمراً عظيماً .

و { المجرمون هم الذين قالوا { أإذا ضللنا في الأرض إنّا لفي خلق جديد } [ السجدة : 10 ] ، فهو إظهار في مقام الإضمار لقصد التسجيل عليهم بأنهم في قولهم ذلك مُجرمون ، أي آتون بجُرم وهو جُرم تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وتعطيل الدليل .

والناكس : الذي يجعل أعلى شيء إلى أسفل ، يقال : نكس رأسه ، إذا طأطأه لأنه كمن جعل أعلى الشيء إلى أسفل . ونكْس الرؤوس علامة الذلّ والندامة ، وذلك مما يُلاقون من التقريع والإهانة .

والعندية عندية السلطة ، أي وهم في حكم ربهم لا يستطيعون محيداً عنه ، فشبه ذلك بالكون في مكان مختص بربهم في أنهم لا يفلتون منه .

وجملة { ربنا أبصرنا وسمعنا } إلى آخرها مقول قول محذوف دلّ عليه السياق هو في موضع الحال ، أي ناكسو رؤوسهم يقولون أو قائلين : أبصرْنا وسمعنا ، وهم يقولون ذلك ندامة وإقراراً بأن ما توعدهم القرآن به حق .

وحذف مفعول { أبصرنا } ومفعول { سمعنا } لدلالة المقام ، أي أبصرنا من الدلائل المبصرَة ما يصدّق ما أُخبرنا به فقد رأوا البعث من القبور ورأوا ما يعامل به المكذبون ، وسمعنا من أقوال الملائكة ما فيه تصديق الوعيد الذي توعدنا به ، أي : فعلمنا أن ما دعانا إليه الرسول هو الحق الذي به النجاة من العذاب فأرجِعْنا إلى الدنيا نعمل صالحاً كما قالوا في موطن آخر { ربنا أخِّرْنا إلى أجل قريب نُجِبْ دعوتك ونتبع الرسل } [ إبراهيم : 44 ] .

وقوله { إنا موقنون } تعليل لتحقيق الوعد بالعمل الصالح بأنهم صاروا موقنين بحقية ما يدعوهم الرسول صلى الله عليه وسلم إليه فكانت { إنَّ } مغنية غناء فاء التفريع المفيدة للتعليل ، أي ما يمنعنا من تحقيق ما وُعدنا به شك ولا تكذيب ، إنَّا أيقنا الآن أن ما دُعينا إليه حق . فاسم الفاعل في قوله { موقنون } واقع زمان الحال كما هو أصله .