إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلۡمُجۡرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ رَبَّنَآ أَبۡصَرۡنَا وَسَمِعۡنَا فَٱرۡجِعۡنَا نَعۡمَلۡ صَٰلِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} (12)

{ وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون } وهم القائلون أئذا ضللنا في الآيةِ أو جنس المجرمينَ وهم من جُملتهم { نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبّهِمْ } من الحياءِ والخزيِ عند ظهورِ قبائحهم التي اقترفُوها في الدُّنيا { رَبَّنَا } أي يقولون ربَّنا { أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } أي صرنا ممَّن يُبصرُ ويسمعُ وحصل لنا الاستعدادُ لإدراك الآياتِ المُبصَرةِ والآياتِ المسمُوعةِ وكنَّا من قبلُ عُميا وصُمَّا لا ندركُ شيئاً { فارجعنا } إلى الدُّنيا { نَعْمَلْ } عملاً { صالحا } حسبما تقتضيهِ تلك الآياتُ وقولُه تعالى { إِنَّا مُوقِنُونَ } إدِّعاءٌ منهم لصحَّةِ الأفئدةِ والاقتدارِ على فهم معانِي الآياتِ والعملِ بموجبِها كما أنَّ ما قبله ادِّعاءٌ لصحَّةِ مشعري البصرِ والسَّمعِ كأنَّهم قالُوا وأيقنا وكنَّا من قبل لا نعقلُ شيئاً أصلاً وإنما عدلُوا إلى الجملة الاسميةِ المؤكدةِ إظهاراً لثباتِهم على الإيقانِ وكمالِ رغبتهم فيه ، وكلُّ ذلك للجدِّ في الاستدعاءِ طمعاً في الإجابةِ إلى ما سألُوه من الرَّجعةِ وأنَّى لهم ذلك ويجوز أنْ يقدَّر لكلَ من الفعلينِ مفعولٌ مناسبٌ له مَّما يُبصرونه ويسمعونَه فإنَّهم حينئذٍ يشاهدون الكفرَ والمعاصيَ على صورٍ منكرةٍ هائلةٍ ويخبرهم الملائكةُ بأنَّ مصيرَهم إلى النَّار لا محالَة فالمعنى أبصرْنا قبحَ أعمالِنا وكنَّا نَراها في الدُّنيا حَسنةً وسمعنا أنَّ مردَّنا إلى النَّارِ وهو الأنسبُ لما بعده من الوعدِ بالعملِ الصَّالحِ ، هذا وقد قيل المعنى وسمعنَا منك تصديقَ رُسلِك .

وأنت خبيرٌ بأنَّ تصديقَه تعالى لهم حينئذٍ يكون بإظهارِ مدلولِ ما أُخبروا به من الوعدِ والوعيدِ لا بالإخبارِ بأنَّهم صادقون حتَّى يسمعوه وقيل : وسمعنا قولَ الرُّسلِ أي سمعناه سمعَ طاعةٍ وإذعانٍ .

ولا يقدر لترى مفعولٌ إذ المعنى لو تكون منك رؤيةٌ في ذلك الوقتِ أو يقدر ما ينبئ عنه صلة إذ والمضيُّ فيها وفي لو باعتبارِ أنَّ الثَّابتَ في علمِ الله تعالى بمنزلةِ الواقعِ . وجوابُ لو محذوفٌ أي لرأيتَ أمراً فظيعاً لا يُقادر قدرُه . والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممَّن يصلحُ له كائناً من كانَ إذِ المرادُ بيانُ كمالِ سوءِ حالِهم وبلوغِها من الفظاعةِ إلى حيثُ لا يختصُّ استغرابُها واستفظاعُها براءٍ دونَ راءٍ ممَّن اعتادَ مشاهدةَ الأمورِ البديعةِ والدَّواهيِ الفظيعةِ بل كلُّ من يتأتّى منه الرؤيةُ يتعجَّبُ من هولِها وفظاعتِها .

هذا ومَنْ علّل عمومِ الخطابِ بالقصدِ إلى بيانِ أنَّ حالَهم قد بلغتْ من الظُّهورِ إلى حيثُ يُمنع خفاؤها البتةَ فلا تختصُّ رؤيةُ راءٍ دون راءٍ بل كلُّ من يتأتَّى منه الرُّؤيةُ فله مدخلٌ في هذا الخطابِ فقد نأى عن تحقيقِ الحقِّ لأنَّ المقصودَ بيانُ كمالِ فظاعةِ حالِهم كما يفصحُ عنه الجوابُ المحذوفُ لا بيانُ كمالِ ظهورِها فإنَّه مسوقٌ مساقَ المسلَّمات فتدبَّر .