التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ يَعۡرُجُ إِلَيۡهِ فِي يَوۡمٖ كَانَ مِقۡدَارُهُۥٓ أَلۡفَ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (5)

جملة { يدبر الأمر } في موضع الحال من اسم الجلالة في قوله تعالى { الله الذي خلق السماوات والأرض } [ السجدة : 4 ] ، أي : خلق تلك الخلائق مدبِّراً أمرها . ويجوز أن تكون الجملة استئنافاً ، وقوله { من السماء } متعلق ب { يدبر } أو صفة للأمر أو حال منه ، و { من } ابتدائية . والمقصود من حرفي الابتداء والانتهاء شمول تدبير الله تعالى الأمور كلها في العالمين العلوي والسفلي تدبيراً شاملاً لها من السماء إلى الأرض ، فأفاد حرف الانتهاء شمول التدبير لأمورِ كل ما في السماوات والأرض وفيما بينهما .

والتدبير : حقيقته التفكير في إصدار فعل متقن أوله وآخره وهو مشتق من دُبُر الأمر ، أي : آخره لأن التدبير النظر في استقامة الفعل ابتداء ونهاية . وهو إذا وصف به الله تعالى كنايةٌ عن لازم حقيقته وهو تمام الإتقان ، وتقدم شيء من هذا في أول سورة يونس وأول سورة الرعد .

و { الأمر } : الشأن للأشياء ونظامُها وما به تقوُّمها . والتعريف فيه للجنس وهو مفيد لاستغراق الأمور كلها لا يخرج عن تصرفه شيء منها ، فجميع ما نقل عن سلف المفسرين في تفسير الأمر يرجع إلى بعض هذا العموم .

والعروج : الصعود . وضمير { يَعْرُجُ } عائد على { الأَمْرَ } ، وتعديته بحرف الانتهاء مفيدة أن تلك الأمور المدبَّرة تصعد إلى الله تعالى ؛ فالعروج هنا مستعار للمصير إلى تصرف الخالق دون شائبة تأثير من غيره ولو في الصورة كما في أحوال الدنيا من تأثير الأسباب . ولما كان الجلال يشبَّه بالرفعة في مستعمل الكلام شبه المصير إلى ذي الجلال بانتقال الذوات إلى المكان المرتفع وهو المعبر عنه في اللغة بالعُروج ، كما قال تعالى : { إليه يصعَد الكَلِم الطّيب والعملُ الصالحُ يرفعُه } [ فاطر : 10 ] ، أي : يرفعه إليه .

و { ثم } للتراخي الرتبي لأن مرجع الأشياء إلى تصرفه بعد صدورها من لدنه أعظم وأعجب .

وقد أفاد التركيب أن تدبير الأمور من السماء إلى الأرض من وقت خلقهما وخلق ما بينهما يستقر على ما دبر عليه كلٌّ بحسب ما يقتضيه حال تدبيره من استقراره ، ويزول بعضه ويبقى بعضه ما دامت السماوات والأرض ، ثم يجمع ذلك كله فيصير إلى الله مصيراً مناسباً لحقائقه ؛ فالذوات تصير مصير الذوات والأعراض والأعمال تصير مصير أمثالها ، أي : يصير وصفها ووصف أصحابها إلى علم الله وتقدير الجزاء ، فذلك المصير هو المعبر عنه بالعروج إلى الله فيكون الحساب على جميع المخلوقات يومئذ .

واليوم من قوله { في يوم كان مقداره ألف سنة } هو اليوم الذي جاء ذكره في آية سورة الحج ( 47 ) بقوله : { وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون } ومعنى تقديره بألف سنة : أنه تحصل فيه من تصرفات الله في كائنات السماء والأرض ما لو كان من عمل الناس لكان حصول مثله في ألف سنة ، فلك أن تقدر ذلك بكثرة التصرفات ، أو بقطع المسافات ، وقد فُرضت في ذلك عدة احتمالات .

والمقصود : التنبيه على عظم القدرة وسعة ملكوت الله وتدبيره . ويظهر أن هذا اليوم هو يوم الساعة ، أي ساعة اضمحلال العالم الدنيوي ، وليس اليوم المذكور هنا هو يوم القيامة المذكور في سورة المعارج قاله ابن عباس . ولم يُعيِّن واحداً منهما ، وليس من غرض القرّاء تعيين أحد اليومين ولكن حصول العبرة بأهوالهما .

وقوله { في يوم } يتنازعه كل من فعلي { يُدبر } و { يعرج } أي يحصل الأمران في يوم .

و { ألف } عند العرب منتهى أسماءِ العدد وما زاد على ذلك من المعدودات يعبر عنه بأعداد أخرى مع عدد الألف كما يقولون خمسة آلاف ، ومائة ألف ، وألف ألف .

وألف يجوز أن يستعمل كناية عن الكثرة الشديدة كما يقال : زرتُك ألفَ مرة ، وقوله تعالى : { يود أحدهم لو يُعَمَّر ألف سنة } [ البقرة : 96 ] ، وهو هنا بتقدير كاف التشبيه أو كلمة نَحْوَ ، أي كان مقداره كألف سنة أو نحو ألف سنة كما في قوله : { وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تَعُدُّون } [ الحج : 47 ] . ويجوز أن يكون { ألف } مستعملاً في صريح معناه . وقوله : { مما تعدون } ، أي : مما تحسبُون في أعدادكم ، و { ما } مصدرية أو موصولية وهو وصف ل { ألف سنة . وهذا الوصف لا يقتضي كون اسم ألف مستعملاً في صريح معناه لأنه يجوز أن يكون إيضاحاً للتشبيه فهو قريب من ذكر وجه الشبه مع التشبيه ، وقد يترجح أن هذا الوصف لما كان في معنى الموصوف صار بمنزلة التأكيد اللفظي لمدلوله فكان رافعاً لاحتمال المجاز في العدد .