التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

{ وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } .

يجوز أن يكون جملة { وابتلوا } معطوفة على جملة { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } [ النساء : 5 ] لتنزيلها منها منزلة الغاية للنهي . فإن كان المراد من السفهاء هنالك خصوص اليتامى فيتّجه أن يقال : لماذا عدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر وعن الاسم الظاهر المساوي للأوّل إلى التعبير بآخر أخصّ وهو اليتامى ، ويجاب بأنّ العدول عن الإضمار لزيادة الإيضاح والاهتمام بالحكم ، وأنّ العدول عن إعادة لفظ السفهاء إيذان بأنّهم في حالة الابتلاء مرجو كمال عقولهم ، ومتفاءل بزوال السفاهة عنهم ، لئلاّ يلوح شبه تناقض بين وصفهم بالسفه وإيناس الرشد منهم ، وإن كان المراد من السفهاء هنالك أعمّ من اليتامى ، وهو الأظهر ، فيتّجه أن يقال : ما وجه تخصيص حكم الابتلاء والاستيناس باليتامى دون السفهاء ؟ ويجاب بأنّ الإخبار لا يكون إلاّ عند الوقت الذي يرجى فيه تغيّر الحال ، وهو مراهقة البلوغ ، حين يرجى كمال العقل والتنقّل من حال الضعف إلى حال الرشد ، أمّا من كان سفهه في حين الكبر فلا يعرف وقت هو مظنّة لانتقال حاله وابتلائه .

ويجوز أن تكون جملة { وابتلوا } معطوفة على جملة { وآتوا اليتامى أموالهم } [ النساء : 2 ] لبيان كيفية الإيتاء ومقدّماته ، وعليه فالإظهار في قوله : { اليتامى } لبعد ما بين المعاد والضمير ، لو عبّر بالضمير .

والابتلاء : الاختبار ، وحتّى ابتدائية ، وهي مفيدة للغاية ، لأنّ إفادتها الغاية بالوضع ، وكونَها ابتدائية أو جارّة استعمالاتٌ بحسب مدخولها ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { حتى إذا فشلتم } في سورة [ آل عمران : 152 ] . و ( إذا ) ظرف مضمّن معنى الشرط ، وجمهور النحاة على أنّ ( حتّى ) الداخلة على ( إذا ) ابتدائية لا جارّة .

والمعنى : ابتلوا اليتامى حتّى وقت إن بلغوا النكاح فادفعوا إليهم أموالهم وما بعد ذلك ينتهي عنده الابتلاء ، وحيث علم أنّ الابتلاء لأجل تسليم المال فقد تقرّر أنّ مفهوم الغاية مراد منه لازمه وأثره ، وهو تسليم الأموال . وسيصرّح بذلك في جواب الشرط الثاني .

والابتلاء هنا : هو اختبار تصرّف اليتيم في المال باتّفاق العلماء ، قال المالكية : يدفع لليتيم شيء من المال يمكنه التصرّف فيه من غير إجحاف ، ويردّ النظر إليه في نفقة الدار شهراً كاملاً ، وإن كانت بنتاً يفوّض إليها ما يفوّض لربّة المنزل ، وضبط أموره ، ومعرفة الجيّد من الرديء ، ونحو ذلك ، بحسب أحوال الأزمان والبيوت . وزاد بعض العلماء الاختبار في الدين ، قاله الحسن ، وقتادة ، والشافعي . وينبغي أن يكون ذلك غير شرط إذ مقصد الشريعة هنا حفظ المال ، وليس هذا الحكم من آثار كليّة حفظ الدين .

وبلوغ النكاح على حذف مضاف ، أي بلوغ وقت النكاح أي التزوّج ، وهو كناية عن الخروج من حالة الصبا للذكر والأنثى ، وللبلوغ علامات معروفة ، عبّر عنها في الآية ببلوغ النكاح بناء على المتعارف عند العرب من التبكير بتزويج البنت عن البلوغ .

ومن طلب الرجل الزواج عند بلوغه ، وبلوغ صلاحية الزواج تختلف باختلاف البلاد في الحرارة والبرودة ، وباختلاف أمزجة أهل البلد الواحد في القوّة والضعف ، والمزاج الدموي والمزاج الصفراوي ، فلذلك أحاله القرآن على بلوغ أمد النكاح ، والغالب في بلوغ البنت أنّه أسبق من بلوغ الذكر ، فإن تخلّفت عن وقت مظنّتها فقال الجمهور : يستدلّ بالسنّ الذي لا يتخلّف عنه أقصى البلوغ عادة ، فقال مالك ، في رواية ابن القاسم عنه : هو ثمان عشرة سنة للذكور والإناث ، وروي مثله عن أبي حنيفة في الذكور ، وقال : في الجاري سَبْع عشرة سنة ، وروى غيْر ابن القاسم عن مالك أنّه سبع عشرة سنة . والمشهور عن أبي حنيفة : أنّه تسع عشرة سنة للذكور وسبع عشرة للبنات ، وقال الجمهور : خمس عشرة سنة . قاله القاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله بننِ عُمر ، وإسحاق ، والشافعي ، وأحمد ، والأوزاعي ، وابن الماجشون ، وبه قال أصبغ ، وابن وهب ، من أصحاب مالك ، واختاره الأبهري من المالكية ، وتمسّكوا بحديث ابن عمر أنّه عرضَه رسولُ الله يوم بدر وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يُجزه ، وعرضه يوم أحُد وهو ابن خمس عشرة فأجازه . ولا حجّة فيه إذ ليس يلزم أن يكون بلوغ عبد الله بن عمر هو معيار بلوغ عموم المسلمين ، فصادف أن رآه النبي وعليه ملامح الرجال ، فأجازه ، وليس ذكر السنّ في كلام ابن عمر إيماء إلى ضبط الإجازة . وقد غفل عن هذا ابن العربي في أحكام القرآن ، فتعجّب من ترك هؤلاء الأيمّة تحديد سنّ البلوغ بخمس عشرة سنة ، والعجبُ منه أشدّ من عجبه منهم ، فإنّ قضية ابن عمر قضية عَين ، وخلاف العلماء في قضايا الأعيان مَعلوم ، واستدلّ الشافعية بما روى أنّ النبي قال : إذا استكمل الولد خمس عشرة سنة كتب ما لَه وما عليه ، وأقيمت عليه الحدود . وهو حديث ضعيف لا ينبغي الاستدلال به .

ووقت الابتلاء يكون بعد التمييز لا محالة ، وقبل البلوغ : قاله ابن الموّاز عن مالك ، ولعلّ وجهه أنّ الابتلاء قبل البلوغ فيه تعريض بالمال للإضاعة لأنّ عقل اليتيم غير كامل ، وقال البغداديون من المالكية : الابتلاء قبل البلوغ . وعبّر عن استكمال قوّة النماء الطبيعي بـ{ بلغوا النكاح } ، فأسند البلوغ إلى ذواتهم لأنّ ذلك الوقت يدعو الرجل للتزوّج ويدعو أولياء البنت لتزويجها ، فهو البلوغ المتعارف الذي لا متأخّر بعده ، فلا يشكل بأنّ الناس قد يزوّجون بناتهم قبل سنّ البلوغ ، وأبناءهم أيضاً في بعض الأحوال ، لأنّ ذلك تعجّل من الأولياء لأغراض عارضة ، وليس بلوغاً من الأبناء أو البنات .

وقوله : { فإن آنستم منهم رشداً } شرط ثان مقيّد للشرط الأول المستفاد من { إذا بَلغوا } . وهو وجوابه جواب ( إذا ) ، ولذلك قرن بالفاء ليكون نصّاً في الجواب ، وتكون ( إذا ) نصّاً في الشرط ، فإنّ جواب ( إذا ) مستغن عن الربط بالفاء لولا قصد التنصيص على الشرطية .

وجاءت الآية على هذا التركيب لتدلّ على أنّ انتهاء الحجر إلى البلوغ بالأصالة ، ولكن بشرط أن يُعرف من المحجور الرشد ، وكلّ ذلك قطع لمعاذير الأوصياء من أن يمسكوا أموال محاجيرهم عندهم مدّة لزيادة التمتّع بها .

ويتحصّل من معنى اجتماع الشرطين في الكلام هنا ، إذ كان بدون عطف ظاهر أو مقدّر بالقرينة ، أنّ مجموعهما سبب لتسليم المال إلى المحجور ، فلا يكفي حصول أحدهما ولا نظر إلى الذي يحصل منهما ابتداء ، وهي القاعدة العامّة في كلّ جملة شرط بنيت على جملة شرط آخر ، فلا دلالة لهما إلاّ على لزوم حصول الأمرين في مشروط واحد ، وعلى هذا جرى قول المالكية ، وإمامِ الحرمين . ومن العلماء من زعم أنّ ترتيب الشرطين يفيد كون الثاني منهما في الذكر هو الأوّل في الحصول . ونسبه الزجّاجي في كتاب « الأذكار » إلى ثعلب ، واختاره ابن مالك وقال به من الشافعية : البغوي ، والغزالي في الوسيط ، ومن العلماء من زعم أنّ ترتيب الشرطين في الحصول يكون على نحو ترتيبهما في اللفظ ، ونسبه الشافعية إلى القفّال ، والقاضي الحسين ، والغزالي في « الوجيز » ، والإمام الرازي في « النهاية » ، وبنوا على ذلك فروعاً في تعليق الشرط على الشرط في الإيمان ، وتعليق الطلاق والعتاق ، وقال إمام الحرمين : لا معنى لاعتبار الترتيب ، وهو الحقّ ، فإنّ المقصود حصولها بقطع النظر عن التقدّم والتأخّر ، ولا يظهر أثر للخلاف في الإخبار وإنشاء الأحكام ، كما هنا ، وإنّما قد يظهر له أثر في إنشاء التعاليق في الأيمان ، وأيمان الطلاق والعتاق ، وقد علمت أنّ المالكية لا يرون لذلك تأثيراً . وهو الصواب .

واعلم أنّ هذا إذا قامت القرينة على أنّ المراد جعل الشرطين شرطاً في الجواب ، وذلك إذا تجرّد عن العطف بالواو ولو تقديراً ، فلذلك يتعيّن جعل جملة الشرط الثاني وجوابه جواباً للشرط الأول ، سواء ارتبطت بالفاء كما في هذه الآية أم لم ترتبط ، كما في قوله : { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم } [ هود : 34 ] . وأمّا إذا كان الشرطان على اعتبار الترتيب فلكلّ منهما جواب مستقلّ نحو قوله تعالى : { يأيّها النبي إنا أحللنا لك أزواجك } إلى قوله : { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيء إن أراد النبي أن يستنكحها } [ الأحزاب : 50 ] . فقوله : { إن وهبت } شرط في إحلال امرأة مؤمنة له ، وقوله : { إنْ أرَادَ النَّبِىُّ } شرط في انعقاد النكاح ، لئلاّ يتوهّم أنّ هبة المرأة نفسها للنبي تعيِّن عليه تزوّجها ، فتقدير جوابه : إن أراد فله ذلك ، وليسا شرطين للإحلال لظهور أنّ إحلال المرأة لا سبب له في هذه الحالة إلاّ أنّها وهبت نفسها .

وفي كلتا حالتي الشرط الوارد على شرط يجعل جواب أحدهما محذوفاً دلّ عليه المذكور ، أو جواب أحدهما جواباً للآخر : على الخلاف بين الجمهور والأخفش ، إذ ليس ذلك من تعدّد الشروط وإنَّما يتأتَّى ذلك في نحو قولك : « إن دخلت دار أبي سفيان ، وإن دخلت المسجد الحرام ، فأنت آمن » وفي نحو قولك : « إن صليت إن صمت أُثْبِت » من كلّ تركيب لا تظهر فيه ملازمة بين الشرطين ، حتَّى يصير أحدهما شرطاً في الآخر .

هذا تحقيق هذه المسألة الذي أطال فيه كثير وخصّها تقيّ الدين السبكي برسالة وهي مسألة سأل عنها القاضي ابنُ خلكان الشيخ ابن الحاجب كما أشار إليه في ترجمته من كتاب « الوفيات » ، ولم يفصّلها ، وفصّلها ، الدماميني في « حاشية مغني اللبيب » .

وإيناس الرشد هنا علمه ، وأصل الإيناس رؤية الإنسي أي الإنسان ، ثمّ أطلق على أوّل ما يتبادر من العلم ، سواء في المبصرات ، نحو : { آنس من جانب الطُّور ناراً } [ القصص : 29 ] أم في المسموعات ، نحو قول الحارث بن حلزة في بقرة وحشية :

ءانَسَتْ نَبْأةً وأفْزَعَهَا القُن *** اصُ عَصْراً وقد دَنا الإمْساء

وكأنّ اختيار { آنستم } هنا دون علمتم للإشارة إلى أنّه إن حصل أوّل العلم برشدهم يدفع إليهم مالهم دون تراخ ولا مطل .

والرشد بضم الراء وسكون الشين ، وتفتح الراء فيفتح الشين ، وهما مترادفان وهو انتظام تصرّف العقل ، وصدور الأفعال عن ذلك بانتظام ، وأريد به هنا حفظ المال وحسن التدبير فيه كما تقدّم في { ابتلوا اليتامى } .

والمخاطب في الآية الأوصياء ، فيكون مقتضى الآية أنّ الأوصياء هم الذين يتولَّون ذلك ، وقد جعله الفقهاء حكماً ، فقالوا : يتولّى الوصيّ دفع مال محجوره عندما يأنس منه الرشد ، فهو الذي يتولّى ترشيد محجوره بتسليم ماله إليه .

وقال اللخمي : من أقامه الأب والقاضي لا يقبل قوله بترشيد المحجور إلاّ بعد الكشف لفساد الناس اليوم وعدم أمنهم أن يتواطئوا مع المحاجير ليرشِّدوهم فيسمحوا لهم بما قبلَ ذلك . وقال ابن عطية : والصواب في أوصياء زماننا أن لا يستغنى عن رفعهم إلى السلطان وثبوت الرشد عنده لما عرف من تواطؤ الأوصياء على أن يرشّد الوصيّ محجوره ويبرىء المحجور الوصيّ لسفهه وقلّة تحصيله في ذلك الوقت . إلاّ أنّ هذا لم يجر عليه عمل ، ولكن استحسن الموثّقون الإشهاد بثبوت رشد المحجور الموصى عليه من أبيه للاحتياط ، أمّا وصيّ القاضي فاختلفت فيه أقوال الفقهاء ، والأصحّ أنّه لا يرشّد محجوره إلاّ بعد ثبوت ذلك لدى القاضي ، وبه جرى العمل .

وعندي أنّ الخطاب في مثله لعموم الأمّة ، ويتولّى تنفيذه مَن إليه تنفيذ ذلك الباب من الولاة ، كشأن خطابات القرآن الواردة لجماعة غير معيّنين ، ولا شك أنّ الذي إليه تنفيذ أمور المحاجير والأوصياء هو القاضي ، ويحصل المطلوب بلا كلفة .

والآية ظاهرة في تقدّم الابتلاء والاستيناس على البلوغ لمكان ( حتّى ) المؤذنة بالانتهاء ، وهو المعروف من المذهب ، وفيه قول أنّه لا يُدفع للمحجور شيء من المال للابتلاء إلا بعد البلوغ .

والآية أيضاً صريحة في أنّه إذا لم يحصل الشرطان معاً : البلوغ والرشد ، لا يدفع المال للمحجور . واتّفق على ذلك عامّة علماء الإسلام ، فمن لم يكن رشيداً بعد بلوغه يستمرّ عليه الحجر ، ولم يخالف في ذلك إلاّ أبو حنيفة . قال : ينتظر سبعَ سنين بعد البلوغ فإن لم يؤنس منه الرشد أطلق من الحجر . وهذا يخالف مقتضى الشرط من قوله تعالى : { فإن آنستم منهم رشداً } لأنّ أبا حنيفة لا يعتبر مفهوم الشرط ، وهو أيضاً يخالف القياس إذ ليس الحجر إلاّ لأجل السفه وسوء التصرّف فأي أثر للبلوغ لولا أنّه مظنّة الرشد ، وإذا لم يحصل مع البلوغ فما أثر سبع السنين في تمام رشده .

ودلّت الآية بحكم القياس على أنّ من طرأَ عليه السفه وهو بالغ أو اختلّ عقله لأجل مرض في فكره ، أو لأجل خرف من شدّة الكبر ، أنّه يحجّر عليه إذ علّة التحجير ثابتة ، وخالف في ذلك أيضاً أبو حنيفة . وقال : لا حجر على بالغ .

وحكم الآية شامل للذكور والإناث بطريق التغليب : فالأنثى اليتيمة إذا بلغت رشيدة دُفع مالها إليها .

والتنكير في قوله : { رشداً } تنكير النوعية ، ومعناه إرادة نوع الماهية لأنّ المواهي العقلية متّحدة لا أفراد لها ، وإنّما أفرادها اعتبارية باعتبار تعدد المحَال أو تعدّد المتعلّقات ، فرشد زيد غير رشد عمرو ، والرشد في المال غير الرشد في سياسة الأمّة ، وفي الدعوة إلى الحقّ ، قال تعالى : { وما أمر فرعون برشيد } [ هود : 97 ] ، وقال عن قوم شعيب { إنك لأنت الحليم الرشيد } [ هود : 87 ] . وماهية الرشد هي انتظام الفكر وصدور الأفعال على نحوه بانتظام ، وقد علم السامعون أنّ المراد هنا الرشد في التصرّف المالي ، فالمراد من النوعية نحو المراد من الجنس ، ولذلك ساوى المعرّف بلام الجنس النكرةَ ، فمن العجائب توهّم الجصّاص أنّ في تنكير ( رشداً ) دليلاً لأبي حنيفة في عدم اشتراط حسن التصرّف واكتفائه بالبلوغ ، بدعوى أنّ الله شرط رشداً مَّا وهو صادق بالعقل إذ العقل رشد في الجملة ، ولم يشترط الرشّد كلّه . وهذا ضعف في العربية ، وكيف يمكن العموم في المواهي العقلية المحضة مع أنّها لا أفراد لها . وقد أُضيفت الأموال هنا إلى ضمير اليتامى : لأنّها قَوي اختصاصها بهم عندما صاروا رشداء فصار تصرّفهم فيها لا يخاف منه إضاعة ما للقرابة ولعموم الأمّة من الحقّ في الأموال .

وقوله : { ولا تأكلوها إسرافاً } عطف على { وابتلوا اليتامى } باعتبار ما اتّصل به من الكلام في قوله : { فإن آنستم منهم رشداً } إلخ وهو تأكيد للنهي عن أكل أموال اليتامى الذي تقدّم في قوله : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] وتفضيح لحيلة كانوا يحتالونها قبل بلوغ اليتامى أشُدّهم : وهي أن يتعجّل الأولياء استهلاك أموال اليتامى قبل أن يتهّيئوا لمطالبتهم ومحاسبتهم ، فيأكلوها بالإسراف في الإنفاق ، وذلك أنّ أكثر أموالهم في وقت النزول كانت أعياناً من أنعام وتمر وحبّ وأصواف فلم يكن شأنها ممّا يكتم ويختزن ، ولا ممّا يعسر نقل الملك فيه كالعقار ، فكان أكلها هو استهلاكها في منافع الأولياء وأهليهم ، فإذا وجد الوليّ مال محجوره جَشِع إلى أكله بالتوسّعِ في نفقاته ولباسه ومراكبه وإكرام سمرائه ممّا لم يكن ينفق فيه مال نفسه ، وهذا هو المعنى الذي عبّر عنه بالإسراف ، فإنّ الإسراف الإفراط في الإنفاق والتوسّع في شؤون اللذات .

وانتصب ( إسرافاً ) على الحال : أو على النيابة عن المفعول المطلق ، وأيّا ما كان ، فليس القصد تقييد النهي عن الأكل بذلك ، بل المقصود تشويه حالة الأكل .

والبدار مصدر بادره ، وهو مفاعلة من البَدْر ، وهو العجلة إلى الشيء ، بَدَره عجله ، وبادره عاجله ، والمفاعلة هنا قصد منها تمثيل هيئة الأولياء في إسرافهم في أكل أموال محاجيرهم عند مشارفتهم البلوغ ، وتوقّع الأولياء سرعة إبَّانه ، بحال من يبدر غيره إلى غاية والآخر يبدر إليها فهما يتبادرانها ، كأنّ المحجور يسرع إلى البلوغ ليأخذ ماله ، والوصي يسرع إلى أكله لكيلا يجد اليتيم ما يأخذ منه ، فيذهب يدّعي عليه ، ويقيم البيّنات حتّى يعجز عن إثبات حقوقه ، فقوله : { أن يكبروا } في موضع المفعول لمصدر المفاعلة . ويكبر بفتح الموحدة مضارع كبر كعَلِم إذا زاد في السنّ ، وأمّا كبُر بضم الموحدة فهو إذا عظم في القدر ، ويقال : كبر عليه الأمر بضم الموحدة شَقّ .

{ ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف }

عطف على { ولا تأكلوها إسرافاً } الخ المقرّر به قوله : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] ليتقرّر النهي عن أكل أموالهم . وهو تخصيص لعموم النهي عن أكل أموال اليتامى في الآيتين السابقتين للترخيص في ضرب من ضروب الأكل ، وهو أن يأكل الوصيّ الفقير من مال محجوره بالمعروف ، وهو راجع إلى إنفاق بعض مال اليتيم في مصلحته ، لأنّه إذا لم يُعْط وصيّه الفقير بالمعروف ألهاه التدبير لقوته عن تدبير مال محجوره .

وفي لفظ المعروف ( حوالة على ما يناسب حال الوصيّ ويتيمه بحسب الأزمان والأماكن وقد أرشد إلى ذلك حديث أبي داوود : أنّ رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « إني فقير وليس لي شيء » قال : " كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متاثل " . وفي « صحيح مسلم » عن عائشة : نزلت الآية في ولي اليتيم إذا كان محتاجاً أن يأكل منه بقدر ماله بالمعروف ، ولذلك قال المالكية : يأخذ الوصي بقدر أجرة مثله ، وقال عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وأبو عبيدة ، وابن جبير ، والشعبي ، ومجاهد : إنّ الله أذن في القرض لا غير . قال عمر : « إني نزّلت نفسي من مال الله منزلة الوصيّ من مال اليتيم ، إن استغنيت استعففت وإن احتجت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت » وقال عطاء ، وإبراهيم : لا قضاء على الوصيّ إن أيسر .

وقال الحسن ، والشعبي ، وابن عباس ، في رواية : إنّ معناه أن يشرب اللبن ويأكل من الثمر ويهنأ الجربي من إبله ويلوط الحوض . وقيل : إنّما ذلك عند الاضطرار كأكل الميتة والخنزير : روي عن عكرمة ، وابن عباس ، والشعبي ، وهو أضعف الأقوال لأنّ الله ناط الحكم بالفقر لا بالاضطرار ، وناطه بمال اليتيم ، والاضطرار لا يختصّ بالتسليط على مال اليتيم بل على كلّ مال . وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يأخذ إلاّ إذا سافر من أجل اليتيم يأخذ قوته في السفر . واختلف في وصيّ الحاكم هل هو مثل وصيّ الأب . فقال الجمهور : هما سواء ، وهو الحقّ ، وليس في الآية تخصيص .

ثم اختلفوا في الوصيّ الغنيّ هل يأخذ أجر مثله على عمله بناء على الخلاف في أنّ الأمر في قوله : { فليستعفف } للوجوب أو للندب ، فمن قال للوجوب قال : لا يأكل الغني شيئاً ، وهذا قول كلّ من منعه الانتفاع بأكثر من السلف والشيء القليل ، وهم جمهور تقدّمت أسماءهم . وقيل : الأمر للندب فإذا أراد أن يأخذ أجر مثله جاز له إذا كان له عمل وخدمة ، أمّا إذا كان عمله مجرّد التفقّد لليتيم والإشراف عليه فلا أجر له .

وهذا كله بناء على أنّ الآية محكمة . ومن العلماء من قال : هي منسوخة بقوله تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } [ النساء : 10 ] الآية ، وقوله : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ البقرة : 188 ] وإليه مال أبو يوسف ، وهو قول مجاهد ، وزيد بن أسلم .

ومن العلماء من سلك بالآية مسلك التأويل فقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن : المراد فمن كان غنياً أي من اليتامى ، ومن كان فقيراً كذلك ، وهي بيان لكيفية الإنفاق على اليتامى فالغنيّ يعطى كفايته ، والفقير يعطى بالمعروف ، وهو بعيد ، فإنّ فعل ( استعفف ) : يدلّ على الاقتصاد والتعفّف عن المسألة .

وقال النخعي ، وروي عن ابن عباس : من كان من الأوصياء غنيّا فليستعفف بماله ولا يتوسّع بمال محجوره ومن كان فقيراً فإنّه يقتّر على نفسه لئلا يمدّ يده إلى مال يتيمه . واستحسنه النحاس والكِيَا الطبري{[214]} في أحكام القرآن .

{ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وكفى بالله حَسِيباً }

وهو أمر بالإشهاد عند الدفع ، ليظهر جليّا ما يسلمه الأوصياء لمحاجيرهم ، حتى يمكن الرجوع عليهم يوماً ما بما يطّلع عليه ممّا تخلّف عند الأوصياء ، وفيه براءة للأوصياء أيضاً من دعاوي المحاجير من بعدُ . وحسبك بهذا التشريع قعطا للخصومات .

والأمر هنا يحتمل الوجوب ويحتمل الندب ، وبكلّ قالت طائفة من العلماء لم يسمّ أصحابها : فإن لوحظ ما فيه من الاحتياط لحقّ الوصيّ كان الإشهاد مندوباً لأنّه حقّه فله أن لا يفعله ، وإن لوحظ ما فيه من تحقيق مقصد الشريعة من رفع التهارج وقع الخصومات ، كان الإشهاد واجباً نظير ما تقدّم في قوله تعالى : { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } [ البقرة : 282 ] وللشريعة اهتمام بتوثيق الحقوق لأنّ ذلك أقوم لنظام المعاملات . وأياما كان فقد جعل الله الوصيّ غير مصدّق في الدفع إلاّ ببينة عند مالك قال ابن الفرس : لولا أنّه يَضمن إذا أنكره المحجور لم يكن للأمر بالتوثّق فائدة ، ونقل الفخر عن الشافعي موافقة قول مالك ، إلاّ أنّ الفخر احتجّ بأنّ ظاهر الأمر للوجوب وهو احتجاج واه لأنّه لا أثر لكون الأمر للوجوب أو للندب في ترتّب حكم الضمان ، إذ الضمان من آثار خطاب الوضع ، وسببه هو انتفاء الإشهاد ، وأمّا الوجوب والندب فمن خطاب التكليف وأثرهما العقاب والثواب . وقال أبو حنيفة : هو مصدّق بيمينه لأنّه عدّه أمينا ، وقيل : لأنّه رأى الأمر للندب . وقد علمت أنّ محمل الأمر بالإشهاد لا يؤثّر في حكم الضمان . وجاء بقوله : { وكفى بالله حسيباً } تذييلا لهذه الأحكام كلها ، لأنّها وصيّات وتحريضات فوكل الأمر فيها إلى مراقبة الله تعالى . والحسيب : المحاسب . والباء زائدة للتوكيد .


[214]: - هو علي ابن علي الطبري – نسبة إلى طبرستان كورة قرب الري – الملقب الكيا الطبري ويقال الكيا الهراسي – والكيا بهمزة مكسورة في أوله فكاف مكسورة، معنه الكبير بلغة الفرس. والهراسي بفتح الهاء وتشديد الراء نسبة إلى الهريسة إما إلى يعها أو صنعها. الشافعي ولد سنة 450 وتوفي في بغداد سنة 504.