غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

1

ثم بيّن أن السفهاء متى يؤتون أموالهم فشرط في ذلك شرطين : أحدهما بلوغ النكاح والثاني إيناس الرشد منهم . فبلوغ النكاح أن يحتمل لأنه يصلح للنكاح عنده ، ولطلب ما هو مقصود به وهو التوالد ومناط الاحتلام خروج المني ، ويدخل وقت إمكانه باستكمال تسع سنين قمرية أو يبلغ خمس عشرة سنة تامة قمرية عند الشافعي ، وثماني عشرة عند أبي حنيفة . وهذان مشتركان بين الغلام والجارية ولها أمارتان أخريان : الحيض أو الحبل ، ولطفل الكفار أمارة زائدة هي إنبات الشعر الخشن على العانة . وأما الإيناس ففي اللغة الإبصار . والمراد في الآية التبين والعرفان . والرشد خلاف الغيّ . ومعنى قوله : { وابتلوا اليتامى } اختبروا عقولهم وذوقوا أحوالهم ومعرفتهم بالتصرف قبل البلوغ ، ومن هنا قال أبو حنيفة : تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة لأن الابتلاء المأمور به قبل بلوغهم إنما يحصل إذا إذن له في البيع والشراء .

وقال الشافعي : الابتلاء قبل البلوغ لا يقتضي الإذن في التصرف لأن الإذن يتوقف على دفع المال إليهم ، ولكن لا يصح دفع المال إليهم لأنه موقوف على الشرطين . بل المراد بالابتلاء اختبار عقله واستبراء حاله حسبما يليق بكل طائفة . فولد التاجر يختبر في البيع والشراء بحضوره ، ثم باستكشاف ذلك البيع والشراء منه وما فيهما من المصالح والمفاسد . وقد يدفع إليه شيئاً ليبيع أو يشتري فيعرف بذلك مقدار فهمه وعقله ، ثم الولي بعد ذلك يتم العقد لو أراد . وولد الزارع يختبر في أمر المزارعة والإنفاق على القوّام بها ، وولد المحترف فيما يتعلق بحرفته ، والمرأة في أمر القطن والغزل وحفظ الأقمشة وصون الأطعمة عن الهرة والفأرة وما أشبهها . ولا يكفي المرة الواحدة في الاختبار بل لا بد من مرتين وأكثر على ما يليق بالحال ويفيد غلبة الظن أنه رشد نوعاً من الرشد يختص بحاله ، لا الرشد من جميع الوجوه وعلى أكمل ما يمكن ولهذا ورد منكراً . وقد ظهر مما ذكرنا أنه لا بد بعد البلوغ من الرشد فيما يتعلق بصلاح ماله بحيث لا يقدر الغير على خديعته . ثم إن أبا حنيفة قال : إذا بلغ مهتدياً إلى وجوه مصالح الدنيا فهو رشيد يدفع إليه ماله . وقال الشافعي : لا بد مع ذلك من الاهتداء لمصالح الدين ، فإن الفاسق لا يخلو من إتلاف المال في الوجوه الفاسدة المحرمة ، وقد نفى الله تعالى الرشد عن فرعون في قوله { وما أمر فرعون برشيد }[ هود :97 ] مع أنه كان يراعي مصالح الدنيا . ويتفرع على القولين أن الشافعي يرى الحجر على الفاسق وأبا حنيفة لا يراه . ثم إنه إذا بلغ غير رشيد واستمر على ذلك لم يدفع إليه ماله بالاتفاق إلى خمس وعشرين سنة ، وفيما وراء ذلك خلاف . فعند أصحاب أبي حنيفة وعند الشافعي لا يدفع إليه أبداً إلا بإيناس الرشد كما هو مقتضى الآية . وعند أبي حنيفة يدفع لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسن ثماني عشرة سنة ، فإذا زادت عليها سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير أحوال الإنسان لقوله صلى الله عليه وسلم : " مروهم بالصلاة لسبع " دفع إليه ماله ، أونس منه رشد أو لم يؤنس . ثم قال : { ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا } مصدران في موضع الحال أي مسرفين ومبادرين كبرهم ، أو مفعول لهما أي لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم . والإسراف التبذير ضد القصد والإمساك . والكبر في السن وقد كبر الرجل بالكسر يكبر بالفتح كبراً أي أسن ، وكبر بالضم يكبر كبراً وكبارة أي عظم . نهاهم عن الإفراط في الإنفاق كما يشتهون قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيديهم { ومن كان غنياً فليستعفف } فليمتنع منه وليتركه . وفي السين زيادة مبالغة كأنه طلب مزيد العفة { ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف } وللعلماء خلاف في أن الوصي هل له أن ينتفع بمال اليتيم ؟ قال الشافعي : له أن يأخذ قدر ما يحتاج إليه وبقدر أجره عمله ، لأن النهي في الآية عن الإسراف مشعر بأن له أن يأكل بقدر الحاجة ، ولا سيما إذا كان فقيراً ، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال له : إن في حجري يتيماً أفآكل من ماله ؟ قال : بالمعروف غير متأثل مالاً ولا وافق مالك بماله .

قال : أفأضربه ؟ قال : مما كنت ضارباً منه ولدك . وروي أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمار وابن مسعود وعثمان بن حنيف : سلام عليكم . أما بعد فإني قد رزقتكم كل يوم شاة شطرها لعمار ، وربعها لعبد الله بن مسعود ، وربعها لعثمان ألا وإني قد أنزلت نفسي وإياكم من مال الله منزلة والي مال اليتيم ، { من كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف } . وأيضاً قياساً على الساعي في أخذ الصدقات وجمعها فإنه يضرب له في تلك الصدقات بسهم ، فكذا هنا . وعن سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه قرضاً ، ثم إذا أيسر قضاه ، وإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه . وأكثر العلماء على أن هذا الافتراض إنما جاء في أصول الأموال من الذهب والفضة وغيرهما . وأما التناول من ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب فمباح له إذا كان غير مضر بالمال . وقال أبو بكر الرازي : الذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذه لا على سبيل القرض ولا على سبيل الابتداء ، سواء كان غنياً أو فقيراً ، واحتج بقوله تعالى { وآتوا اليتامى أموالهم } وأجيب بأنها عامة . وقوله : { فليأكل بالمعروف } خاص والخاص مقدم على العام . قال : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } وأجيب بأن محل النزاع هو أن أكل الوصي مال اليتيم ظلم أو لا ؟ قال : { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } وهو أيضاً عين النزاع . ثم اعلم أن الأئمة اتفقوا على أن الوصي إذا دفع المال إلى اليتيم بعد بلوغه رشيداً فالأولى والأحوط أن يشهد عليه إظهاراً للأمانة وبراءة من التهمة . ولكن اختلفوا في أن الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع المال إليه فهل هو مصدق ؟ فقال أبو حنيفة وأصحابه : يصدق بيمينه كسائر الأمناء . وقال مالك والشافعي : لا يصدق إلا بالبينة لأنه تعالى نص على الإشهاد فقال : { فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم } وظاهر الأمر للوجوب ، ولأنه أمين من جهة الشرع لا من جهة اليتيم ، وليس له نيابة عامة كالقاضي ، ولا كمال الشفقة كالأب . نعم يصدق في قدر النفقة وفي عدم التقتير والإسراف لعسر إقامة البينة على ذلك وتنفيره الناس عن قبول الوصاية { وكفى بالله حسيباً } أي كافياً في الشهادة عليكم بالدفع والقبض ، أو محاسباَ كالشريب بمعنى المشارب ، وفيه تهديد للولي ولليتيم أن يتصادقوا ولا يتكاذبوا .

والباء في { بالله } زائدة نظراً إلى أصل المعنى وهي كفى الله . و{ حسيباً } نصب على التمييز ، ويحتمل الحال .

/خ10