تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

الآية 6 : وقوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح } اختلف فيه : فقال ( بعضهم ) {[4837]} قوله : عز وجل : { حتى } صلة{[4838]} ، وتأويله : وابتلوا اليتامى إذا بلغوا النكاح وهو قول الشافعي رحمه الله : يجعل الابتلاء بعد البلوغ ، ويحتمل أن يكون المراد بالابتلاء قبل البلوغ لوجهين :

أحدهما : أن يبتلي الأيتام قبل البلوغ{[4839]} بأنواع العبادات ليعتادوا بها ويتأدبوا{[4840]} ليعرفوا حقوق الله وفرائضه ، إذ لا سبيل إلى القيام بها وقت{[4841]} البلوغ . فأمر الأولياء أن يبتلوهم قبل البلوغ حتى إذا بلغوا بلغوا عارفين لما عليهم من العبادات والحقوق حافظين لها .

ألا ترى إلى ما روي في الخبر أنه أمر الأب{[4842]} أن يأمر ولده بالصلاة إذا كان ابن سبع وأمره{[4843]} بالضرب والتأدب إذا كان ابن تسع والتفريق في المضاجع وهو من حقوق الخلق ؟ فهذا ليعتادوا ، ويأخذوا الآداب{[4844]} قبل البلوغ حتى إذا بلغوا عرفوا ما عليهم وهان القيام بها ، وإذا لم يعودوا قبل ذلك يشتد عليهم القيام بإقامة العبادات وأداء الحقوق فعلى ذلك الأول .

والثاني{[4845]} " أن تبتلى عقولهم بشيء من أموالهم يتجرون بها ويتقلبون{[4846]} فيها لينظروا هل يقدرون على حفظ أموالهم عند حدوث الحوادث والنوائب ؟ ففيه دليل جواز الإذن في التجارة حال الصغر لأنه لا يظهر ذلك إلا بالتجارة .

وإن كان المراد بالابتلاء بعد البلوغ والكبر فهو أيضا يحتمل وجهين : يحتمل العلم بها نفسه ، ويحتمل العلم بها والعمل ، فلا يضعونها{[4847]} في غير موضعها .

وقوله إن حرف { حتى } صلة أنه لو جاز له أن يجعل هذا صلة لجاز لغيره أن يجعل { رشدا } صلة فيه ، إذ لا فرق بين هذا وبين الأول أن يجعل صلة .

ثم اختلف في قوله تعالى : { فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } قال بعضهم : هو أن يصير هو من أهل الشهادة ، فحينئذ يدفع إليه المال فعلى قوله : يجيء أن تنتزع الأموال من أيدي الفساق لأنه لا شهادة لهم ومن قوله : إن اليتيم من أهل الكفر لا يدفع إليه المال إلا بعد استئناس الرشد منه ، فلو كان شرط الرشد هو شهادة لكان لا يدفع إليه لما لا يقبل الشهادة ما لزم الكفر على أحد . دل أن الرشد ليس ما ذكر ولكن ما قيل من العقل والحفظ لماله ( والإصلاح فيه ){[4848]} .

وروي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى : { فإن آنستم منهم رشدا } قال : إن أدرك بحلم وعقل ووقار . وهو يقول أيضا في قوله تعالى : { منهم رشدا } إن الله سبحانه وتعالى يقول : اختبروا اليتامى من عند الحلم ؛ فإن عرفتم منهم رشدا في حالهم والإصلاح في أموالهم فادفعوا{[4849]} إليهم أموالهم .

وفي حرف ابن مسعود رضي الله عنه فإن حسبتم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ، وفي حرف حفصة وابتلوا اليتامى في أموالهم حتى إذا بلغوا النكاح بعد كبرهم .

ثم لا يخلو منع الأموال منهم من أوجه ثلاثة ؛ إما أن تمنع لفرط البذل والإنفاق جودا وسخاوة وحسن الظن بالله أنه عز وجل يرزقهم ، ويعطيهم خلف نفقتهم . وهذا لا يحتمل لأن هذا من أخلاق الأنبياء ، صلوات الله عليهم ، وسيرتهم ، فلا يحتمل النهي عند ذلك . ( وإما أن ){[4850]} تمنع لغلبة ولقضاء وطرهم وحاجتهم ، ينفقون الأموال ليصلوا إلى ذلك ؛ فإنهم إن منعوا عن أموالهم يتناولوا{[4851]} من أموال غيرهم ويتعاطوا{[4852]} ما لا يحل ويحسن ، فلا يحتمل أن يمنعوا لذلك ، وإما{[4853]} أن تمنع عنهم الأموال لآفة في عقلهم ونقص في لبهم فإن كان لهذا{[4854]} تمنع أموالهم عنهم فيجب أن تمنع أبدا لا وقت في ذلك ولا مدة إلا بعد ارتفاع ذلك وزواله عنهم وهو الوجه ( الذي ) {[4855]} يمنع منه حتى يؤنس الرشد .

ثم جعل إدراكه وبلوغه بالاحتلام لأن كل جارحة من جوارح الإنسان يجوز استعمالها إلا الجارحتين منها ؛ فإنه لا يقدر على استعمالهما{[4856]} إلا صاحبهما فجعل الاحتلام علما لبلوغه وإدراكه لذلك ؛ ولهذا ما لم يعمل الإكراه عليهما نحو من أكره بالزنى فزنى فإن عليه الحد لأن الإكراه لا يعمل عليه فإنما كان يفعل منه إلا الوالي فإنه إذا أكره آخر بالزنى ففعل لم يقم عليه الحد لما جعلنا ذلك كالعلم بالسبب الذي يحل . وكذلك لو أكره حتى وطئ امرأة لزمه العفو ولا يرجع على المكرَه ، ولو أكره على إتلاف مال من أمواله ففعل لرجع{[4857]} على المكره للمعنى الذي وصفنا . ولهذا ما وقع طلاق المكرَه ونكاحه وعتاقه لأن{[4858]} هذه الأشياء إنما تقع باللسان ، واللسان مما لا يعمل عليه الإكراه ، لذلك جاز والله أعلم .

وأما البيوع والأشربة والعقود كلها سوى هؤلاء يكون التسليم والقبض ( بها ) {[4859]} دون النطق باللسان والتكلم بها فالإكراه مما يعمل عليها ما أمكن استعمالها غيره لذلك افتراقا .

ولهذا ما قلنا : إن الإيمان يكون بالقلب دون اللسان لأنه أكره حتى يكفر فأجرى كلمة الكفر على لسانه وكان قلبه مطمئنا{[4860]} بالإيمان لم يكفر ؛ فإذا اطمأن قلبه بالكفر كفر ؛ لأن لا يعمل على القلب ولا يصير المكرِه مستعملا له إنما المستعمل هو لا غير لذلك كان الجواب ما ذكرنا .

ومعنى الاحتلام بلوغا هو استعمال سائر الجوارح دونه يعني الفرج إلا بعد الكبر . وما كان المعروف من الآباء والأولاد ، وما كان يجري الأمر بابتغاء المكنون{[4861]} من الولد يكون بعد البلوغ ؛ وبعيد ذلك إلا في الوقت الذي لو ابتغى لوجد ولعذر عليه وكذلك ذلك إلا في خروج الماء للشهوة ثم يكون في المتعارف الاحتلام / 79- ب/ عن ذلك فجعل علما له ولذلك قيل : { حتى إذا بلغوا النكاح } ثم فرق في حق الكتاب بين اللسان وغيره من حيث لا يملك أحد قهر لسان آخر حتى ينطق دون صاحبه فيه ، يظهر سبب جري القلم من الأفراد بالبلوغ وهذا ما جعل سببه بما لا يعلمه غيره ليكون أول أحوال البلوغ وقوع قوله بحق{[4862]} البلوغ مع ما كان النطق فعل من يجري في جنسه الخطاب ، وكأنه اتصل أمره بالسبب الذي خص به الممتحن من العقل ؛ إذ العقل يعرف بالمحنة والاحتلام لا .

فأمرنا بالابتلاء من حيث المعقول ، ولم نؤمر من حيث الاحتلام ، بل يقبل قوله في ذلك .

ودل قبول قول من بلغ بالإخبار عن احتلامه ، وبه يجري القلم عليه وتلزم الحقوق أن يقبله يجوز في ذلك الوقت وبخاصة على قول من يرى الابتلاء بعد الإدراك أنه لو لم يقبل فيم يبتليه ؟

ثم إذ جاز قوله لزم كل أمر علق به وعلى ما ذكرت من أول ما علق به القول في حق البلوغ دليل اتصال حكم القول بالعقل وتمام العقل بالبلوغ إذ يجري من امتناع اللسان عن سلطان غير صاحبه عليه على لزوم كل حق متعلق به على الإكراه ؛ إذ لا يلزم بغيره ، وهو لا يجري عليه ثم كل أمر يكون لأنه يصير اللسان سببا فيه كالمعلم عنه ، وهو ما يجري عليه القلم ، وتعلم قوته به فيبطل ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ولا تأكلوها إسرافا و بدارا } الإسراف هو أكل ما نهى عنه ، وقيل : الإسراف هو أكل في غير حق وكان الإسراف هو المجاوزة عن الحد وهو كقوله : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا } ( الفرقان 67 ) وكان المقتر مذموما . فعلى ذلك الإسراف في النفقة في مال اليتيم .

وقوله تعالى : { إسرافا و بدارا } قيل : البدار هو المبادرة وكلاهما لغتان كالجدال والمجادلة وهو أن يبادر بأكل مال اليتيم خشية أن يتكبر ، فيحول بينه وبين ماله ، وهو قول ابن عابس رضي الله عنه وفي حرف ابن مسعود رضي الله عنه ولا تأكلوها إسرافا و بدارا خشية أن يكبروا .

وقوله تعالى : { ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } أطلق الله تعالى لولي اليتيم بظاهر الآية إذا كان فقيرا أن يأكل بالمعروف من غير إسراف ، وذلك هو الوسط منها ، وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا سأله فقال : ليس لي مال ولي يتيم فقال : ( كل مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل{[4863]} مالك بماله ) .

وفيه دليل أن الغني لا يجوز أن يأكل مال اليتيم ، وأن الفقير إذا أكل منه أنفق نفقة لا إسراف فيها . وعن عمر رضي الله عنه أنه قال : ( إني نزلت في نفسي مال{[4864]} الله منزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن احتجت أكلت بالمعروف فإذا أيسرت قضيت ) وروي عن ابن عباس رضي الله عنه انه قال : ( الوصي إن احتاج وضع يده مع أيديهم ولا يكتسي عمامته ) وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في قوله تعالى : { ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } ( يأكل ولي اليتيم من مال اليتيم إذا كان يقوم له على ماله ويصلح ، إذا كان محتاجا ) وقيل : يأكل قرضا ( ثم يرد عليه ) {[4865]} إذا أيسر ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه ، وقيل : يأكل بالمعروف أي من مال نفسه حتى لا يفضي{[4866]} إلى مال اليتيم ، وقيل : يأكل إذا كان يعمل له ويقوم عليه ، وقيل : يأكل قرضا ألا ترى إلى قوله تعالى : { فأشهدوا عليهم } أمر بالإشهاد عليهم عند الدفع ؟ ولو كان أمانة في يده لم يحتج إلى الإشهاد في الدفع ، ولكن يجوز أن يأمر بالإشهاد لمكان الوصي نفسه ، ولكن لا يجوز أن يحدث بينه وبين ورثة الوصي خصومه فيشهد ليدفع تلك الخصومة عنهم ، وقيل : الأكل بالمعروف هو ما يسد به جوعه ويواري عورته .

وقوله تعالى : { وكفى بالله حسيبا } قيل : شهيدا بما أخذ من ماله وأنفق ، ويحتمل قوله : { حسبيا } يحاسبه في الآخرة إذا لم يحاسبه اليتيم في الدنيا .


[4837]:من م ساقطة من الأصل.
[4838]:أدرجها قبلها في الأصل و م: إذا صرف.
[4839]:في الأصل و م: بلوغ.
[4840]:في الأصل و م: ويتأدبون.
[4841]:في الأصل و م: حتى.
[4842]:من م في الأصل: الأدب (أبو داوود: 495).
[4843]:في الأصل و م: وأمر.
[4844]:في الأدب.
[4845]:في الأصل و م: ووجه آخر.
[4846]:من م في الأصل يتقلبون.
[4847]:في الأصل ولا تضعوها في م: ولا تضعوها.
[4848]:في الأصل و م: والاصطلاح فيها.
[4849]:من م في الأصل: لي ادفعوا.
[4850]:في الأصل و م أو.
[4851]:في الأصل و م: يتناولون.
[4852]:في الأصل و م: يتعاطون.
[4853]:في الأصل: في أو.
[4854]:في م: لهذا ما.
[4855]:ساقطة من الأصل و م.
[4856]:في الأصل و م: استعمالها.
[4857]:في الأصل و م: ليرجع.
[4858]:في الأصل و م: لأنه.
[4859]:ساقطة من الأصل و م
[4860]:في الأصل و م: مطمئن.
[4861]:في الأصل و م: المكتوب
[4862]:في الأصل و م: بحيث
[4863]:أثل ماله: عظمه.
[4864]:في الأصل و م: من ماله.
[4865]:ساقطة من م.
[4866]:أفضى: اتسع.