{ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى } الآية ، نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه ، وذلك أن رفاعة توفى وترك ابنه ثابتاً وهو صغير ، فأتى عمُ ثابت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله ، ومتى أدفع إليه ماله ، فأنزل الله تعالى { وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى } أي اختبروهم في عقولهم وأبدانهم وحفظهم أموالهم { فَإِنْ آنَسْتُمْ } أبصرتم ، قال الله :
{ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً } [ القصص : 1 ] .
آنست نبأة وأفزعها القناص *** عصراً وقد دنا الإمساء
وفي مصحف عبد الله : فإن أحسنتم بمعنى أحسستم ، فحذف إحدى السينين كقولهم :
{ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } [ الواقعة : 65 ] .
خلا إن العتاق من المطايا *** أحسن به فهنّ إليه شوس
{ مِّنْهُمْ رُشْداً } . قرأه العامة : بضم الراء وجزم الشين . وقرأ السلمي وعيسى : بفتح الراء والشين ، وهما لغتان .
قال المفسرون : يعني عقلا وصلاحاً وحفظاً للمال وعلماً بما يصلحه .
قال سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي : إن الرجل يأخذ بلحيته وما بلغ رشده فلا يدفع إلى اليتيم ماله وإن كان شيخاً ، حتى يؤنس منه رشده .
قال الضحاك : لا يُعطى اليتيم وإن بلغ مائة سنة حتى يعلم منه إصلاح ماله .
اعلم أن الله تعالى علق زوال الحجر عن اليتيم الصغير وجواز دفع ماله إليه بشيئين : البلوغ والرشد ، بعد أن أمر الأولياء بالابتلاء .
ومعنى الابتلاء على ما ذكره جماعة من الفقهاء : الصغير لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يكون غلاماً أو جارية ، فإن كان غلاماً رُدَّ النظر في نفقة الدار إليه شهراً أو إعطائه شيئاً نزراً يتصرف فيه ليعرف كيف تدبيره وتصرفه فيه ، وإن كان جارية رُدَّ إليها ما يُرد إلى ربّة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه ، وفي الاستغزال والاستقصاء على الغزالات في دفع القطن وأجرته واستيفاء الغزل وجودته ، فإن رشدا وإلاّ بقيا تحت الحجر حتى يؤنس رشدهما ، فأما البلوغ فإنه يكون بأحد خمسة أسباب ، ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء واثنان يختص بهما النساء ، والتي يشترك فيها الرجال والنساء : فالاحتلام وهو إنزال المني ، فمتى أنزل واحد منهما فقد بلغ ، سواء كان من جُماع أو احتلام أو غيرهما ، والدليل عليه قوله :
{ وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ } [ النور : 59 ] وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : " خذ من كل حالم ديناراً أوعدله من المعافر " .
واختلف العلماء فيه ، فقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد : إذا استكمل الصبي خمس عشرة سنة أو أنبت حكمنا ببلوغه .
وقال أبو حنيفة : إن كانت جارية فبلوغها سبع عشرة سنة ، وعنه في الغلام روايتان :
أحدهما : تسع عشرة سنة ، وهي الأشهر وعليها النظر .
وروى اللؤلؤي عنه : ثمان عشرة سنة . وقال مالك وداود : لا يبلغ بالسن ثم اختلفا ، فقال داود : لا يبلغ بالسن مالم يحتلم ولو بلغ أربعين سنة ، وقال مالك : بلوغه بأن يغلظ صوته أو تنشق أرنبته .
والدليل على أن حدّ البلوغ بالسن خمس عشرة سنة حديث عبد الله بن عمر قال : " عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أُحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني فلم يرني بلغت أي ، وعرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني الله في المقاتلة " .
والإنبات وهو أن ينبت : في الغلام أو الجارية الشعر الخشن حول الفرج .
أحدهما : أنه بلوغ ، والثاني : دلالة البلوغ .
وقال أبو حنيفة : لا يتعلق بالإنبات حكم ، وليس هو ببلوغ ولا دلالة عليه .
والدليل على أن البلوغ بالإنبات متعلق بما روى عطية القرظي عن سعد بن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم حكّمه في بني قريظة قال : فمكثت أكشف عنهم فكل من أنبت قتلته ، ومن لم ينبت جعلته في الذرّية .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " .
قال عطية : فكنت ممّن لم ينبت فجعلني في الذرّية .
وأما ما يختص به النساء : فالحيض والحبل ، يدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يقبل صلاة حائض إلاّ بخمار " فجعلها مكلفة بالحيض ، وهذا القول في حدّ البلوغ .
فأما الرشد : فقد اختلف الفقهاء فيه ، فقال الشافعي : هو أن يكون صالحاً في دينه مُصلحاً في ماله ، والصلاح في الدين أن يكون متجنباً للفواحش التي يفسق بها ، وتسقط عدالته كالزنا واللواط والقذف وشرب الخمر ونحوها .
وإصلاح المال : أن لا يضيّعه ولا يبذّره ولا يغبن في التصرف غبناً فاحشاً ، فالرشد شيئان : جواز الشهادة وإصلاح ، المال وهذا قول الحسن وربيعة ومالك .
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : إذا بلغ عاقلا مصلحاً لماله ، زال الحجر عنه بكل حال ، سواء كان فاسداً في دينه أو صالحاً فيه . فاعتبروا صلاح المال ولم يعتبروا صلاح الدين .
ثم اختلفوا فيه إذا بلغ عاقلا مفسداً لماله :
فقال أبو يوسف ومحمد : لا يزول الحجر عنه ويكون تصرفه باطلا إلاّ النكاح والعتق ، ويبقى تحت الحجر أبداً إلى أن يظهر رشده .
وقال أبو حنيفة : إذا بلغ عاقلا زال الحجر عنه ، فإن كان مفسداً لماله منع من تسليم ماله إليه حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة ، فإذا بلغها يسلّم المال إليه بكل حال ، سواء كان مفسداً له أو غير مفسد . وقيل : إنّ في مدة المنع من المال إذا بلغ مفسداً ينفذ تصرفه على الإطلاق ، وإنما منع من تسليم المال إليه احتياطاً لماله ، فقال : وجه تحديده بخمس وعشرين سنة أنه قد يُحبل منه لاثني عشرة سنة ثم يولد له لستة أشهر ثم يُحمل لولده بأثني عشر سنة ثم يولد له لستة أشهر فيصير جداً .
قال : وأستحي أن أحجر على من يصلح أن يكون جدّاً ، وإذا حصل البلوغ والرشد دفع المال إليه سواء تزوج أو لم يتزوج .
وقال مالك : إن كان صاحب المال جارية وتبلغ رشيدة ، فالحجر باق عليها ، وتمنع من مالها حتى تتزوج ، وإذا تزوجت يسلّم مالها ، إليها ولا يجوز لها أن تتصرف في مالها بغير إذن زوجها حتى تكبر وتجرّب ثم حينئذ يبعد تصرفها بغير إذنه ، واطلاق في الغلام . والذي يدل على فساد هذا المذهب ما " روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم العيد ثم نزل فذهب إلى النساء فوعظهن فقال : " تصدقن ولو من حليكنَّ " فكنَّ تتصدقنَّ فجعلت المرأة تلقي حرصها وسخائها ، فأمرهنَّ عليه السلام بالصدقة وقبلها منهنَّ ، ولم يفصل بين متزوجة وغير متزوجة ولا بين من تصدقت بإذن زوجها أو بغير إذنه ، فهذا القول في الحجر على الصغير ، وبيان حكم قوله : { وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى } ، فأما قوله : { وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ } الآية .
حكم الكلام في الحجر على السفيه
فقال أبو حنيفة ونفر : لا حجر على حر بالغ عاقل بوجه ، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيراً . وهو مذهب النخعي ، واحتجوا في ذلك بما روى قتادة عن أنس : " أن حيان بن منقذ كان يخدع في البيع فأتى أهله النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن حيان بن منقذ يعقد وفي عقده ضعف فأحجر عليه .
فاستدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : " لا تبع " فقال : لا أصبر عن البيع ، فقال له : " إذا بايعت فقل لا خلابه ولك الخيار ثلاثاً " " .
فلما سأله القوم الحجر عليه على ما كان في تصرفه من الغبن ولم يفعل ، ثبت أنه لا يجوز .
قال الشافعي : إن كان مفسداً لماله ودينه أو كان مفسداً لماله دون دينه حجر عليه ، وإن كان مفسداً لدينه مصلحاً لماله فعلى وجهين :
أحدهما : يحجر عليه ، وهو اختيار أبي العباس بن شُريح .
والثاني : لا يحجر عليه ، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي ، والأظهر من مذهب الشافعي ، وهو الذي ذكرناه من الحجر على السفيه ، قول عثمان وعلي والزبير وعائشة وابن عباس وعبد الله بن جعفر ، ومن التابعين شُريح وبه قال من الفقهاء : مالك وأهل المدينة والأوزاعي وأهل الشام وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وادّعى أصحابنا الإجماع في هذه المسألة ، ما روى هشام بن عروة عن أبيه : أنّ عبد الله بن جعفر ابتاع أرضاً سبخة بستين ألف درهم ، فغبن فيها فأراد عليّ أن يحجر عليه ، فأتى ابن جعفر إلى الزبير فقال : إني اشتريت وأن علياً يريد أن يأتي حبر المؤمنين فيسأله أن يحجر عليَّ .
فقال الزبير : أنا شريكك في البيع ، فقال : عليَّ عثمان .
وقال علي : إن ابن جعفر اشترى كذا وكذا أحجر عليه . وقال الزبير : أنا شريكه في البيع ، فقال عثمان : كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير . فثبت من هذه القصة إجماع الصحابة على جواز الحجر ، لأن عبد الله بن جعفر خاف من الحجر ، والزبير احتال له فيما يمنعه منه ، وعليّ سأل ذلك عثمان ، وعثمان اعتذر إليه في الامتناع منه .
{ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ } يا معشر الأوصياء والأولياء بغير حقها { إِسْرَافاً } والإسراف مجاوزة الحد والإفراط والخطأ ووضع الشيء في غير موضعه ، يقال : مررت بكم فسرقتكم ، أي فسهوت عنكم وأخطأتكم .
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية *** ما في عطائهم منَ ولا سرف
أي خطأ ، يعني أنهم يصيبون مواضع العطاء { وَبِدَاراً } مبادرة { أَن يَكْبَرُواْ } أن في محل النصب يعني لا تبادروا كبرهم ورشدهم حذراً أن يبلغوا فيلزمكم تسليمها إليهم ، ثم بيّن ما يحل لهم من مالهم ، فقال عز من قائل : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً } عن مال اليتيم { فَلْيَسْتَعْفِفْ } عن مال اليتيم ، فلا يجوز له قليلا ولا كثيراً ، والعفة الامتناع ممّا لا يحل ولا يجد فعله ، قال الله تعالى :
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } [ النور : 33 ] .
{ وَمَن كَانَ فَقِيراً } محتاجاً إلى مال اليتيم وهو يحفظه ويتعهده { فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } واختلف العلماء فيه :
فقال بعضهم : المعروف القرض ، نظيره قوله :
{ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ } [ النساء : 114 ] يعني القرض ، ومعنى الآية : تستقرض من مال اليتيم فإذا أيسر قضاه ، فإن لم يقدر على قضائه فلا شيء عليه .
وقال به سعيد بن جبير وعبيدة السلماني وأبي العالية ، وأكثر الروايات عن ابن عباس .
قال مجاهد : ليستسلف منه فيتجر فيه فإذا أيسر أدى ، ودليل هذا التأويل ما روى إسرائيل وسفيان عن إسحاق عن حارثة بن مصرف قال : قال عمر بن الخطاب : ألا إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت فإن افتقرت أكلت بالمعروف وإن أيسرت قضيت .
وقال الشعبي : لا تأكله إلاّ أن تضطر إليه كما تضطر إلى الميتة .
وقال آخرون : ( بالمعروف ) هو أن يأكله من غير إسراف ولا قضاء عليه فيما يأكل ، ثم اختلفوا في كيفية هذا الأكل بالمعروف :
فقال عطاء وعكرمة والسدي : يأكل بأطراف أصابعه ولا يسرف في الأكل ، ولا يكتسي منه .
وقال النخعي : لا يلبس الحلل ولا الكتان ، ولكن ما سدَّ الجوعة ووارى العورة .
وقال بعضهم : هو أن يأكل من ثمر نخيله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه ، فأما الذهب والفضة فلا ، فإن أكله فلابد من أن يرده ، وهذا قول الحسن وجماعة .
قال قتادة : كان اليتيم يكون له الحائط من النخل فيقوم وليّه على صلاحه وسقيه فيصيب من ثمرته ويكون له الماشية ، فيقوم وليه على صلاحها وعلاجها فيصيب من جزازها وعوارضها ، فأما رقاب المال وأصولها فليس له أن يستهلكها .
وقال الضحاك : المعروف ركوب الدابة وخدمة الخادم وليس له أن يأكل من ماله شيئاً .
وروى بكر بن عبد الله بن الأشج عن القاسم بن محمد قال : حضرت ابن عباس ، فجاءه رجل فقال : يابن عباس إن لي أيتاماً ولهم ماشية ، فهل عليَّ جُناح في رسلها وما يحل لي منها ؟ فقال : إن كنت ترد نادتها وتبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حوضها وتفرط لها يوم وردها ، فاشرب من فضل ألبانها عنهم غير مضر بأولادها ولا تنهكها في الحلب .
قال بعضهم : المعروف هو أن يأخذ من جميع ماله ، إذا كان يلي ذلك بقدر قيامه ( وخدمته ) وعمله وأُجرته ، وإن أتى على جميع المال ولا قضاء عليه ، وهذا طعمة من الله تعالى له وبه .
قالت به عائشة وجماعة من العلماء ، وقال محمد بن كعب القرظي { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } : عن مال اليتيم ولا تأكل منه شيئاً وأجره على الله { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } يتقرم بتقرم البهيمة ، وينزل نفسه بمنزلة الأجير فيما لابد له منه والتقرم : الالتقاط من نبات الأرض وبقلها ، ودليل هذا التأويل ما روى ابن أبي نجيح عن المحسن العوفي عن ابن عباس قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن في حجري يتيماً أفأضربه ؟ فقال : " ممّا كنت ضارباً منه ولدك " قال : يا رسول الله أفآكل من ماله ؟ قال : " بالمعروف غير متأثل من ماله ولا واقياً مالك بماله " " .
وأصل المعروف ما تيسر على الإنسان فطابت نفسه به ، قال الله تعالى :
{ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } [ البقرة : 241 ] .
{ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } هذا أدب من الله تعالى ، ليعلم أن الولي قد أدى الأمانة وينقطع عنه الظنّة وتزول عنه الخصومة وليس بفريضة { وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً } محاسباً ومجازياً وشاهداً .