لما أمر بدفع مال اليتيم{[6628]} إليه ، بيَّن{[6629]} هنا متى يؤتيهم أموالهم ، وشرَطَ في دفع أموالهم إليهم شرطين :
في " حتى " هذه وما أشبهها أعني الداخلة على " إذا " قولان :
أشهرهما : أنَّها حرف غاية ، دخلت على الجملة الشَّرطيَّة وجوابها ، والمعنى : وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم ، واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم ، بشرط إيناس الرُّشد ، فهي حرف ابتداء كالدَّاخلة على سائِرِ الجمل كقوله : [ الطويل ]
فَمَا زَالَتِ القَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا *** بِدجْلَةَ حَتَّى مَاءُ دَجْلَةَ أشْكَلُ{[6630]}
سَرَيْتُ بِهِمْ حَتَّى تَكِلَّ مَطِيُّهُمْ *** وَحَتَّى الْجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بأرْسَانِ{[6631]}
والثاني : وهو قول جماعة منهم الزَّجَّاجُ وابن درُسْتَويه : أنَّها حرف جر ، وما بعدها مجرور بها ، وعلى هذا ف " إذا " تتمحَّضَ للظَّرْفِيَّةِ ، ولا يكون فيه معنى الشَّرط ، وعلى القول الأوَّلِ يكون العامل في " إذَا " ما تَخَلَّص{[6632]} من معنى جوابها تقديره : إذا بلغوا النِّكاح راشدين فادفعوا . وظاهرُ العبارة لبعضهم أنَّ " إذا " ليست بشرطيَّة ، لحُصُولِ ما بعدها ، وأجاز سيبويه أن يجازي بها في الشِّعر ، وقال : " فعلوا ذلك مضطرين " ، وإنما جُوزي بها لأنَّها تحتاج إلى جواب ، وبأنَّه يليها الفعلُ ظاهراً ، أو مضمراً ، واحتجَّ الخليلُ على عدم شَرطيَّتِها بحصولِ ما بعدِها ، ألا ترى أنك تقول : أجيئك إذا احمر البُسر ، ولا تقول : إن احمر .
قال أبُو حيان : وكلامُه يُدلُّ على أنها تكون ظرفاً مجرداً ، ليس فيها معنى الشَّرط ، وهو مخالف للنَّحويين ، فإنَّهم كالمجمعين على أنها [ ظرف ]{[6633]} فيها معنى الشِّرط غالباً ، وإن وُجِدَ في عبارةِ بعضهم ما يَنْفَى كونها أداة شرطٍ ، فإنَّما أنها لا يجزم بها ، إلاَّ أنها لا تكون شرطاً ، وقَدَّرَ بعضهم مضافاً قال : تقديره يبلغوا حَدَّ النكاحِ أو وقته ، والظَّاهرُ أنها لا تحتاج إليه ، والمعنى : صَلَحوا للنكاح .
والابتلاءُ : الاختيارُ ، أي اختبروهم في عقولهم وإدراكهم ، وحفظهم أموالهم . نزلت في ثابت بن رفاعة ، مات أبُوهُ رفاعةُ وتركه صغيراً عند عمه ، فجاء عمُّه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال : إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يَحِلُّ لي مِنْ ماله ، ومتى أدفع إليه ماله ؟ فنزلت هذه الآية{[6634]} .
قال سعيد بن جبير ومجاهد والشَّعبيُّ : " لا يدفع إليه ماله ، وإنْ كان شيخاً حتى يؤنس رشده " {[6635]} ، فالابتلاءُ يختلف باختلاف أحوالهم ، فإن كان مِمَّنْ يتصرف في السوق فيدفع الولي إليه شيئاً كبيراً من المال ، وينظر في تَصَرُّفه ، وإن كان ممَّن لا يتصرف فيختبره في نفقة داره ، والإنفاق على عبيده وأجرائه وتُخْتبر المرأة{[6636]} في أمر بيتها وحفظ متاعها وغزلها واستغزالها فإذَا رأى حسن تصرُّفه وتدبيره مراراً حيث يغلب على الظن رشده دفع إليه المال .
فصل فيما إذا عاد إلى السَّفه بعد أخذ المال
قال القرطبيُّ{[6637]} : " إذا سُلِّم إليه المال لوجود الرشد ، ثم عاد إلى السَّفه عاد الحجرُ عليه " .
وقال أبو حنيفة : لا يعود عليه الحجر ؛ لأنَّه بالغ عاقل ، يجوز إقراره في الحدود والقصاص . دليلنا قوله تعالى : { وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ } .
ويجوز للوصيّ أن يصنع في مال اليتيم ما كان للأب أن يصنعه من تجارةٍ وإبضاع وشراء وبيع ، وعليه أنْ يؤدّى الزَّكاة من سائر أمواله عينٍ وحرث{[6638]} وماشية وفطرة ، ويؤدّي عنه أرُوش الجنايات ، وقيم المُتْلَفَاتِ ، ونفقةِ الوالدين ، وسائر الحقوق اللازمة ، ويجوز أن يزوجه ، ويؤدّي عنه الصداق ، ويشتري له جارية يتسرّى بها ، ويصالح له وعليه على وجه النَّظر .
والمراد من بلوغ النِّكاح هو الاحتلام ، لقوله تعالى : { وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ }
[ النور : 59 ] وعند هذا الحدّ يجري على صاحبه قلم التَّكليف ، وإنَّما سمي الاحتلام بلوغ النَّكاح ، لأنَّه إنزال الماء الدَّافق الذي يكون في الجماع ، وهذه الآية دالّة على ورود لفظ النِّكاح بمعنى الجماع .
واعلم أن للبلوغ خمس علامات ثَلاثَةٌ منها مُشْتَرَكةٌ بين الذكور والإناث وهي : الاحتلامُ ، والسنُّ المخصوص ، ونَبَاتُ الشّعر الخشن على العانَةِ .
وقيل : إنبات الشَّعر{[6639]} الخشن{[6640]} بلوغ في أولاد المشركين ، ولا يكون لأولاد المسلمين ؛ لأن أولاد المسلمين يمكن الوقوف على مواليدهم بالرُّجوع إلى آبائهم ، وأولاد الكفار لا يوقف على مواليدهم ، ولا يُقْبَلُ قول آبائهم فيه لكفرهم ، فجعل الإنبات الذي هو أمَارَةُ البلوغ بلوغاً في حقِّهم .
واثنان منها تختّص بالنّساء وهما : الْحَيْضُ والْحَبَلُ .
قال أبُو حنيفةَ : " تصرفات [ الصَّبي ]{[6641]} العاقل المميز بإذن الوليّ صحيحة لهذه الآية ، ولأنه يصحّ الاستثناء فيه فيقال : ابتلوا اليتامى إلاَّ في البَيْع والشِّراء " .
قال الشَّافعيُّ : لا تصحُّ تصرفاته ؛ لأنه إنَّما أمر بدفع ماله إليه بعد البلوغ وإيناس الرُّشْدِ ، وإذا كان لا يجوز دفع المال حال الصغر ، فلا يجوز تصرفه حال الصغر ؛ لأنه لا قائل بالفرق .
والمرادُ بالابتلاء : اختبار عقله في أنه هل له فَهْم وعَقْلٌ في معرفة المصالح والمفاسد ؟ بأن يبيع الوليُّ ويشتري له بحضوره ، ثم يستكشفُ من الصبيِّ أحوال ذلك البيع والشِّراء ، وما فيها من المصالح والمفاسد ، وبهذا{[6642]} القَدْر يحصل الابتلاء والاختبار ، وأيضاً هَبْ أنَّا سَلَّمْنَا أنه يدفع إليه شيئاً ليبيع أو يشتري ، فَلِمَ قلتَ : إنَّ هذا القدر يدل على صحَّةِ ذلك البيع والشِّراء ؟ بل إذا باع{[6643]} واشترى ، وحصَلَ به اختبار عقله فالوليُّ بعد ذلك يتمم{[6644]} ذلك البيع والشراء .
والفاءُ جواب " إذا " وفي قوله : { فَادْفَعُواْ } جواب " إن " {[6645]} .
وقرأ{[6646]} ابن مسعود " فإن أحستم " والأصْلُ أحسسْتُم فحذف إحدى السِّينين ، ويحتمل أن تكون العينَ أو اللام ، ومثله قول أبي زبيد{[6647]} : [ الوافر ]
سِوَى أنَّ الْعِتَاقَ مِنَ الْمَطَايَا *** حَسِينَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْهِ شُوسُ{[6648]}
وهذا خلاف لا ينقاسُ ، ونقل بعضهم أنَّها لغةُ سُلَيم ، وَأنَّها مُطَّردة{[6649]} في عين كل فعلٍ مضاعفه اتصل به تاءُ الضَّمير أو نونه ونَكَّر " رُشْداً " دلالةً على التنويعِ ، والمعنى أيّ نوعٍ حَصَلَ من الرُّشدِ كان كافياً .
وقرأ الجمهور " رُشْداً " بضمة وسكون ، وابن مسعود{[6650]} والسُّلميُّ بفتحتين ، وبعضهم بضمتين ، وسيأتي الكلامُ على ذلك في الأعراف إن شاء الله تعالى . وآنس كذا أحسَّ به وشَعَرَ ، قال : [ الخفيف ]
آنسَنْ نَبْأةً وَأفْزَعَهَا القُنْ *** نَاصُ عَصْراً وَقَدْ دَنَا الإمْسَاءُ{[6651]}
وقيل : آنست وأحسست ووجدت بمعنى واحدٍ .
وقال القرطبي{[6652]} : وأصْلُ الإيناس في اللُّغة الإبصار{[6653]} ، ومنه قوله { آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً } [ القصص : 29 ] .
قال أهل اللُّغة : هو إصابة الخير ، قال تعالى : { قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } [ البقرة : 256 ] ، والغيُّ : هو العصيان : قال تعالى : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } [ طه : 121 ] فيكون نقضيه هو الرشد ، وقال تعالى : { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [ هود : 97 ] .
وقال أبو حنيفة : " لا يعتبر هنا الصَّلاح في المال فقط " {[6654]} ، وينبني على هذا أن أبا حنيفة لا يرى الحجر على الفاسق ، والشافعي يراه .
إذا بلغ الرُّشْد زال عنه الحجر ، ودفع إليه ، رجلاً كان أو امرأة ، تزوج أو لم يتزوج .
وعند مالك إن كانت امرأة لا يدفع المال إليها ما لم تتزوج ، فإذا تزوّجتْ دفع المال إليها ، ولكن لا ينفذ تصرفها إلاَّ بإذن الزَّوج ما لم تكبر وَتُجَرَّبْ ، فإذا بلغ الصبي رشيداً وزال الحجر عنه ثم عاد سفيهاً [ نُظِرَ ]{[6655]} إنْ عاد مبذراً لماله حُجِرَ عليه ، وإن عاد مفسداً في دينه فقيل : يُعاد الحجْرُ عليه ، كما يستدام الحجر عَلَيْهِ إذا بلغ بهذه الصفة ، وقيل : لا يُعَادُ ؛ لأن حكم الدوام أقْوَى من حكم الابتداء ، وعند أبي حنيفة لا حَجْرَ على البَالِغِ العاقِلِ بحال{[6656]} .
قوله : { وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً } .
أحدهما : أنهما منصوبان على المفعولِ من أجْلِهِ أي : لأجل الإسراف والبِدَارِ .
ونقل عن ابن عباس أنه قال : " كان الأولياء يستغنمون أكل مال اليتيم ، لئلا يكبر{[6657]} فينزع المال منهم " .
والثَّاني : أنَّهما مصدران في موضع الحالِ أي : مُسْرِفينَ وَمُبادِرِينَ .
وبداراً مصدرُ بادرَ والمفاعلة هنا يجوز أن تكون من اثنين على بابها ، بمعنى أن الوليَّ يبادرُ اليتيم إلى أخْذِ مالهِ ، واليتيمُ يُبَادِرُ إلى الكبر ، ويجوز أن يكون من واحد بمعنى : أنَّ فاعل بمعنى فعل نحو : سافر وطارق{[6658]} .
قوله : " أن تكبروا " . فيه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول بالمصدر أي : وبداراً كبرهم ، كقوله : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ، 15 ] وفي إعمال المصدر المُنَوِّنِ الخلاف المشهور .
والثَّاني : أنَّه مفعول من أجله على حذف أي : مخافة أن يكبروا ، وعلى هذا فمفعولُ " بِدَاراً " محذوف ، وهذه الجملة النَّهْييَّةُ فيها وجهان :
أصحهما : أنها استئنافية ، وليست معطوفةً على ما قبلها .
والثَّاني : أنَّها عطف على ما قبلها ، وهو جوابُ الشرط ب " إن " أي : فادفعوا ولا تأكلوها ، وهذا فاسدٌ ؛ لأن الشّرط وجوابه ، مترتِّبان على بلوغ النِّكاح وهو معارضٌ لقوله : { وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } فَيَلزَمُ منه سَبْقُه على ما ترتَّب{[6659]} عَلَيْهِ ، وذلك ممتنع .
والمعنى : ولا تأكلوها يا معشرَ الأولياءِ " إسْرافاً " أي : بغير حقٍّ ، " وبداراً " أي : ومبادرة ، ثم بَيَّنَ مَا يَحِلُّ لهم من مالهم فقال : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } أي : فليمتنع من مال اليتيم فلا يرزؤه قليلاً ولا كثيراً ، والعفة الامتناع مما لا يحل .
قال الواحديُّ{[6660]} : استعفف عن الشيءِ وعَفَّ : إذا امتنعَ منه وتَرَكَهُ .
قال الزمخشريُّ : " استعفف أبلغ مِنْ عَفَّ كأنَّه طالب زيادة العفَّةِ " .
قوله : { وَمَن كَانَ فَقِيراً } .
محتاجاً إلى مال اليتيم ، وهو يحفظه ويتعمَّده { فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } .
رُوِيَ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه أن رجلاً أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال : " إنِّي فَقِيرٌ وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ وَلِي يَتيمٌ ، فقال : كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمكَ عَيْرَ مُسْرِفٍ وَلا مُبَذِّرٍ وَلاَ مُتَأثِّل " {[6661]} .
واختلفوا ، هل يلزمهُ القضاءُ ؟ فقال مجاهدٌ وسعيدُ بن جبير : يقضي إذا أيسر لقوله : { فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ }{[6662]} والمعروف : هو أن يقترض من مال اليتيم إذا احتاج إليه ، فإذا أيْسَرَ قَضَاهُ .
قال عمرُ بن الخطّاب : " إنِّي أنْزَلْتُ نفسي من مال اللَّه بمنزلة مال اليتيم ، إن استغنيتُ استعففتُ ، وإنْ افترقتُ أكَلْتُ بالمعروفِ ، فَإذا أيْسَرْتُ قضيتُ " {[6663]} .
وأكثر الروايات عن ابن عباس ، وبعض العلماء أنّ القرض مخصوص بأصول الأموال من الذَّهب والفضَّة وغيرهما ، فأمَّا التَّناول من ألبان المواشي ، واستخدام العبيد ، وركوب الدَّواب ، فمباح له إذا لم يضرَّ بالمال ، وهذا قول أبي العالية{[6664]} ؛ لأنه أمر بدفع أموالهم إليهم .
قال الشَّعْبيُّ : " لا يأكله إلا أن يضطر كما يضطر إلى الميتة " .
وقال قوم : لا قضاء عليه لقوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً } وهذا يُشْعِرُ بأن له أن يأكل بقدر{[6665]} الحاجة ، وقوله { فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } أن للوصي أن ينتفع بمقدار الحاجة ، وقوله { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً } [ النساء : 10 ] يدل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلماً وغير ظلم ، وإلاَّ لم يكن لقوله { ظُلْماً } معنى .
وأيضاً الحديث المتقدم ، وأيضاً فيقاسُ على السَّاعي فإنَّهُ يُضْرَبُ له من الصَّدقات على قدر عمله ، فكذا ها هنا .
وقال أبُو بكرٍ الرازيُّ{[6666]} : الَّذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذ على سبيل القرض ، ولا على سبيل الابتداء سواء كان غنياً أو فقيراً ، لقوله تعالى :
{ وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : 2 ] إلى قوله { حُوباً كَبِيراً } ، وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً } إلى قوله { سَعِيراً } [ النساء : 10 ] وقوله : { وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ } [ النساء : 127 ] .
قال القرطبيُّ : كما على الوصي والكفيل حفظ مال يتيمه كذلك عليه{[6667]} حفظ الصبيِّ في بدنه وتأديبه ، " رُوِيَ أنَّ رجلاً قال لِلنبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّ في حجري يتيماً أآكل من ماله ؟ قال : " نعم " غير متأثل مالاً ولا واقٍ مالك بماله " قال : يا رسول اللَّه أفأضربه ، قال : " مَا كُنْت ضَارِباً منه وَلَدَكَ " {[6668]} .
{ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } .
وهذا أمر رشاد ، وليس بواجب ، أمر الولي بالإشهاد{[6669]} على دفع المال إلى اليتيم بعد البلوغ ليزول عنه التهمة وتنقطع الخصومة .
واختلفوا فيما إذا ادَّعى الوصيُّ بعد بلوغ اليتيم{[6670]} أنَّه دفع المال إليه هل يصدَّقُ ؟
أو قال أنْفَقْتُ عليه المالَ في صغره ؟ فقال مالكٌ والشَّافعيُّ : لا يصدَّقُ .
وقال أبو حنيفة : " يصدَّقُ " .
قوله : { وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً } .
والثاني - وهو الصَّحيح - أنها فعلٌ ، وفي فاعلها قولان :
الأول : وهو الصَّحيح أنَّهُ المجرور بالباء ، والباء زائدة فيه وفي فاعل مضارعه نحو :
{ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ } [ فصلت : 53 ] باطِّراد فقال أبُو البقاء{[6671]} : زيدت لتدلَّ على معنى الأمر إذ التقدير : اكتف باللَّه ، وهذا القول سبقه إليه مَكِي والزَّجاجُ فإنه قال : دَخَلَتْ الباءُ في الفاعل ؛ لأن معنى الكلام الأمرُ أي : الباء ليست بزائدة ، وهو كلامٌ غيرُ صحيح ؛ لأنه من حيث المعنى الذي قدَّره يكون الفاعل هم{[6672]} المخاطبين ، و " بالله " متعلّق به ، ومن حيث كون " الباء " دخلت في الفاعل يكون الفاعل هو اللَّهُ تعالى ، فيتناقض . وفي كلام ابن عطية نحو من قوله أيضاً فإنه قال : " باللَّه " في موضع رفع بتقدير{[6673]} زيادة الخافض ، وفائدة زيادته تبيَّن معنى الأمر في صورة الخَبَرِ أي : اكتفوا باللَّه ، " فالباء " تدل على المراد من ذلك ، وفي هذا ما رُدَّ به على الزَّجَّاجِ ، وزيادة جَعْلِ الحرف زائداً وغير زائدٍ .
والثاني : أنَّه مضمر والتَّقديرُ : كفى الاكتفاء و " بالله " على هذا في موضع نصب ؛ لأنه مفعول به في المعنى ، وهذا رأي ابن السَّراج ، وَرُدَّ هذا بأن إعمال المصدر المحذوف لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة كقوله : [ البسيط ]
هَلْ تَذْكُرُونَ إلَى الدَّيْرَينِ هجْرَتَكُمْ *** وَمَسْحَكُمْ صُلْبَكُمْ رَحْمَانُ قُرْبَانَا{[6674]}
أي قولكم : يا رحمان قرباناً ، وقَالَ أبو حيان : وقيل : الفاعِلُ مضمر ، وهو ضمير الاكتفاء أي : كفى هو أيْ : الاكتفاء ، و " الباء " ليست زائدة ، فيكون في موضع نصب ويتعلق آنذاك بالفاعل ، وهذا الوجه لا يسوغ على مذهب البصريين ، لأنه لا يجوز عندهم إعْمَالُ المصدر مضمراً ، وإن عني بالإضمار الحذف امتنع عندهم أيضاً لوجهين : حذف الفاعل ، وإعمال المصدر محذوفاً وإبقاء معموله ، وفيه نظرٌ ؛ إذْ لقائل أن يقول : إذا قلنا بأن فاعل " كفى " مضمر لا نعلق " باللَّه " بالفاعل حتّى يلزم ما ذكر بل نعلقه بنفس الفعل كما تقدَّمَ .
وقال ابْن عيسى : إنَّما دخلت الباء في " كفى باللَّه " ؛ لأنَّهُ كان يتصل اتِّصال الفاعل [ وبدخول الباء اتصل ]{[6675]} اتصالَ المضافِ ، واتِّصال الفاعل ، لأنَّ الكفاية منه ليست كالكفاية من غيره فضوعِفَ لفظها لمضاعفة معناها ، ويحتاج إلى فكر .
قوله : { حَسِيباً } فيه وجهان :
أصحهما : أنه تمييز يدلُّ على ذلك صلاحيَّة دخول " مِنْ " عليه ، وهي علامة التمييز .
و " كفى " هاهنا متعدِّية لواحد ، وهو محذوف تقديره : " وكفاكم الله " .
وقال أبُو البَقَاءِ{[6676]} : " وكفى " يتعدَّى إلى مفعولين حُذِفا هنا تقديره : كفاك اللَّهُ شرَّهم بدليل قوله : { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ } [ البقرة : 137 ] والظاهر أن معناها غيرُ معنى هذه .
قال أبو حيّان بعد أن ذكر أنها متعدية لواحد : وتأتي بغير هذا المعنى متعدية إلى اثنين كقوله : { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ } [ البقرة : 137 ] وهو محل نظر .
قال ابن الأنباري والأزهري{[6677]} : يحتمل أن يكون الحَسِيبُ بمعنى المحاسب ، وأن يكون بمعنى الكافي ، فمن الأول قولهم للرَّجل تهديداً : حَسْبُهُ اللَّهُ ، [ ومعناه : يحاسبه ] الله على ما يفعل من الظُّلم ، ومن الثَّاني قولهم : حسبك الله ، أي : كافيك الله وهذا وعيد سواء فسَّرنا الحسيب بالمحاسب ، أو بالكافي .