محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها اسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فاذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسبا6 )

/ ( وابتلوا اليتامى ) أي اختبروا عقولهم ومعرفتهم بالتصرف ( حتى إذا بلغوا النكاح ) أي بأن يحتملوا أو يبلغوا خمس عشرة سنة . لما في ( الصحيحين ) {[1550]} عن ابن عمر قال : " ان رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ثم عرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني . قال نافع : فقدمت على عمر بن عبد العزيز وهو خليفة فحدثته هذا الحديث فقال : ان هذا لحد بين الصغير والكبير . وكتب إلى عماله أن يفرضوا لمن بلغ خمس عشرة " . وكذا نبات الشعر الخشن حول العورة ، لما رواه الإمام أحمد{[1551]} وأهل ( السنن ) عن عطية القرظي قال : " عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فكان من أنبت قتل . ومن لم ينبت خلي سبيله . فكنت فيمن لم ينبت . فخلي سبيلي " . قال الترمذي : حسن صحيح . ( فان آنستم ) أي شاهدتم وتبينتم ( منهم رشدا ) أي صلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم . قاله سيعد بن جبير ، وروي عن ابن عباس والحسن وغير واحد من الأئمة ( فادفعوا إليهم أموالهم ) أي من غير تأخير . وظاهر الآية الكريمة أن من بلغ غير رشيد اما بالتبذير أو بالعجز أو بالفسق ، لا يسلم إليه ماله لأنها مفسدة للمال ( ولا تأكلوها ) أيها الأولياء ( اسرافا وبدارا أن يكبروا ) أي مسرفين ومبادرين كبرهم . أو لاسرافكم ومبادرتكم كبرهم . تفرطون في انفاقها وتقولون : ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا ( ومن كان ) من الأولياء ( غنيا فليستعفف ) أي يتنزه عن أكل مال اليتيم . فانه عليه كالميتة والدم . وليقنع بما آتاه الله تعالى من الرزق ( ومن كان فقيرا ) يمنعه اشتغاله بمال اليتيم عن الكسب . واهماله يفضي إلى تلفه عليه ( فليأكل بالمعروف ) بقدر حاجته الضرورية وأجرة سعيه وخدمته . كما رواه ابن أبي حاتم عن عائشة / حيث قالت : " فليأكل بالمعروف بقدر قيامه عليه " . ورواه البخاري{[1552]} أيضا . قال ابن كثير : قال الفقهاء : له أن يأكل أقل الأمرين أجرة مثله . وقدر حاجته . وهل يرد إذا أيسر ؟ وجهان : أحدهما لا يرد لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا . وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي . لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل . وروى الإمام أحمد{[1553]} عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده " أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ليس لي مال ولي يتيم . فقال : كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا . ومن غير أن تقي مالك ، ( أو قال تفدي مالك بماله ) " ورواه ابن أبي حاتم ولفظه : " كل بالمعروف غير مسرف " . ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه . وروى ابن حبان في ( صحيحه ) وابن مردويه في ( تفسيره ) عن جابر : " أن رجلا قال : يا رسول الله ! مما أضرب يتيمي ؟ قال : مما كنت ضاربا منه ولدك . غير واق مالك بماله . ولا متأثل منه مالا " . وروى عبد الرزاق عن الثوري عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال : " جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال : ان في حجري أيتاما . وان لهم ابلا . ولي ابل وأنا أمنح من ابلي فقراء . فماذا يحل لي من ألبانها ؟ فقال : ان كنت تبغي ضالتها ، وتهنأ جرباها ، وتلوط حوضها ، وتسعى عليها ، فاشرب غير مضر بنسل ، ولا ناهك في الحلب " . ورواه مالك في موطأه{[1554]} . وبهذا القول ، وهو عدم أداء البدل ، / يقول عطاء بن أبي رباح وعكرمة وابراهيم النخعي وعطية العوفي والحسن البصري .

والوجه الثاني : يرد . لأن مال اليتيم على الحظر . وانما أبيح للحاجة . فيرد بدله . كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة . وقد روى ابن أبي الدنيا عن حارثة بن مضرب قال : قال عمر رضي الله عنه : إني أنزلت نفسي من هذا المال منزلة والى اليتيم . ان استغنيت استعففت . وان احتجت اسقرضت . فاذا أيسرت قضيت " . وروى سعيد بن منصور في ( سننه ) : حدثنا أبو الأحوص عن أبي اسحاق عن البراء قال قال لي عمر رضي الله عنه : " انما أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم ان احتجت أخذت منه . فاذا أيسرت رددته . وان استغنيت استعففت " . قال ابن كثير : اسناد صحيح .

وروى البيهقي عن ابن عباس نحو ذلك . وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، " في قوله : ( فليأكل بالمعروف ) يعني القرض " . قال وروى عن عبيدة وأبي العالية وأبي وائل ، وسعيد بن جبير ( في احدى الروايات ) ومجاهد والضحاك والشعبي والسدي نحو ذلك . قال الفخر الرازي : وبعض أهل العلم خص هذا الاقراض بأصول الأموال من الذهب والفضة وغيرها . وأما التناول من ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب فمباح له إذا كان غير مضر بالمال . وهذا قول أبي العالية وغيره . واحتجوا بأن الله تعالى قال : ( فإذا دفعتم إليهم أموالهم ) ، فحكم في الأموال بدفعها إليهم . انتهى .

أقول : الكل محتمل . إذ لا نص من الأصلين على واحد منها . ولا يخفى الورع . ( فإذا دفعتهم إليهم أموالهم ) أي بعد البلوغ والرشد ( فأشهدوا عليهم ) أي عند / الدفع بأنهم قبضوها . فانه أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة . قال السيوطي : فيه الأمر بالإشهاد ندبا . وقيل : وجوبا . ويستفاد منه أن القول في الدفع قول الصبي ، لا الولي . فلا يقبل قوله الا ببينة . ( وكفى بالله حسيبا ) أي كافيا في الشهادة عليكم بالدفع والقبض . أو محاسبا . فلا تخالفوا ما أمركم به . ولا يخفى موقع هذا التذييل هنا . فان الوصي يحاسب على ما في يده . وفيه وعيد لولي اليتيم وإعلام له أنه تعالى يعلم باطنه كما يعلم ظاهره . لئلا ينوي أو يعمل في ماله ما لا يحل ، ويقوم بالأمانة التامة في ذلك إلى أن يصل إليه ماله . وقد ثبت في ( صحيح مسلم ){[1555]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا أبا ذر إني أراك ضعيفا واني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم " .


[1550]:أخرجه البخاري في: 52 –كتاب الشهادات، 18 –باب بلوغ الصبيان وشهادتهم.
[1551]:أخرجه الامام أحمد في مسنده بالصفحة 310 من الجزء الرابع (طبعة الحلبي).
[1552]:أخرجه البخاري في: 65 –كتاب التفسير، 4 –سورة النساء، 2 –باب: (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف)، حديث 1109. ونصه: عن عائشة رضي اله عنها، في قوله تعالى: (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف)، انها نزلت في والي مال اليتيم اذا كان فقيرا أنه يأكل منه، مكان قيامه عليه، بمعروف.
[1553]:أخرجه الامام أحمد في مسنده بالصفحة 216 من الجزء الثاني (طبعة الحلبي).
[1554]:أخرجه الامام مالك في الموطأ في: 49 –كتاب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، حديث 33 (طبعتنا) وهذا نصه: عن القاسم بن محمد قال: جاء رجل الى عبد الله بن عباس فقال له: ان لي يتيما وله ابل، أفأشرب من لبن إبله؟ فقال ابن عباس: ان كنت تنبغي ضالة إبله، وتهنأ جرباها، وتلط حوضها، وتسقيها يوم وردها، فاشرب غير مضر بنسل، ولا ناهك في الحلب.
[1555]:أخرجه مسلم في: 33 –كتاب الامارة، حديث 17 (طبعتنا).