النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

قوله تعالى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى } أي اختبروهم في عقولهم وتمييزهم وأديانهم{[596]} .

{ حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ } يعني الحُلُم{[597]} في قول الجميع .

{ فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً } فيه أربع تأويلات :

أحدها : أن الرشد العقل ، وهو قول مجاهد ، والشعبي .

والثاني : أنه العقل والصلاح في الدين ، وهو قول السدي .

والثالث : أنه صلاح في{[598]} الدين وإصلاح في المال ، وهو قول ابن عباس ، والحسن ، والشافعي .

والرابع : أنه الصلاح والعلم بما يصلحه ، وهو قول ابن جريج .

{ فَادْفَعُواْ إِلَيْهِم أَمْوَالَهُمْ } يعني التي تحت أيديكم أيها الأولياء عليهم .

{ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وبِدَاراً أَن يَكْبَرُوا } يعني لا تأخذوها إسرافاً على غير ما أباح الله لكم ، وأصل الإسراف تجاوز الحد المباح إلى ما ليس بمباح ، فربما كان في الإفراط ، وربما كان في التقصير ، غير أنه إذا كان في الإفراط فاللغة المستعملة فيه أن يقال أسرف إسرافاً ، وإذا كان في التقصير قيل سرف يسرف .

قوله تعالى : { وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُوا } قال ابن عباس : وهو أن تأكل مال اليتيم تبادر أن يكبر ، فيحول بينك وبين ماله .

{ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِف } يعني بماله عن مال اليتيم .

{ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } فيه أربعة أقاويل :

أحدها : أنه القرض يستقرض إذا احتاج ثم يرده إذا وجد ، وهو قول عمر ، وابن عباس ، وجمهور التابعين .

والثاني : أنه يأكل ما يسد الجوعة ، ويلبس ما يواري العورة ، ولا قضاء ، وهو قول الحسن ، وإبراهيم ، ومكحول ، وقتادة .

روى شعبة عن قتادة أن عم ثابت بن رفاعة_ وثابت يومئذ يتيم في حجره ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يحل لي من ماله ؟ قال : " أَنْ تَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيرِ أن تقِيَ مَالَكَ بِمَالِهِ وَلاَ تَتَّخِذْ مِنْ مَالِهِ وَقْراً " {[599]} .

والثالث : أن يأكل من ثمره ، ويشرب من رِسْلِ ماشيته من غير تعرض لِمَا سوى ذلك من فضة أو ذهب ، وهو قول أبي العالية ، والشعبي .

روى القاسم بن محمد قال : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أيتاماً ، وإن لهم إبلاً ، فماذا يحل لي منها ؟ فقال : إن كنت تبغي ضالتها{[600]} ، وتهنأ جرباءَها ، وتلوط حوضها ، وتفرط عليها يوم وِرْدِهَا ، فاشرب من ألبانها غير مُضِرِّ بنسل ، ولا بأهل في الحلب .

والرابع : أن يأخذ إذا كان محتاجاً أجرةً معلومة على قدر خدمته ، وهو قول عطاء .

وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ليس لي مال ولي يتيم ، فقال : " كُلْ مِنْ مَالِ يَتيمِكَ غَيرَ مُسْرِفٍ وَلاَ وَاقٍ مَالَكَ بِمَالِهِ " {[601]} .

{ فَإِذَا دَفَعْتُم إِلَيْهِم أَمْوَالَهُم فَأَشْهِدُوا عَلَيهِم } ليكون بيِّنةَ في دفع أموالهم إليهم .

{ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً } فيه قولان :

أحدهما : يعني شهيداً .

والثاني : كافياً من الشهود .


[596]:- في ك: وآدابهم.
[597]:- في ك: الحكم وهو تحريف.
[598]:- في ق: في الدنيا.
[599]:- ابن ماجة ومسند أحمد 2/ 216.
[600]:- إذا كنت تعني بهذه الإبل فتبحث عما يضل منها وتطلي الأجرب منها بالقطران وتصلح حوض الماء تشرب منه. وتفرط عليها: أي تسبق بها وتسرع إلى الماء كي توردها قبل غيرها، ومنه قوله عليه السلام: "أنا فرطكم على الحوض" أي سابقكم إليه.
[601]:- أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد في المسند 2/ 182، 215.