بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

ثم قال : { وابتلوا اليتامى } يعني اختبروا اليتامى وجربوا عقولهم ، { حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ } يعني الحلم ويقال : مبلغ الرجال { فإن آنستم منهم رشدا } يقول : إذا رأيتم منهم رشداً ، وصلاحاً في دينهم ، وحفظاً لأموالهم { فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم } التي معكم { وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً } في غير حق { وَبِدَاراً } يعني مبادرة في أكله { أَن يَكْبَرُواْ } يعني مخافة أن يكبروا فيأخذوا أموالهم منكم .

ثم قال : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } أي ليحفظ نفسه عن مال اليتيم { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } وقد اختلف الناس في تأويل هذه الآية ، وقالوا فيها ثلاثة أقوال . قال بعضهم : يجوز للمعسر أن يأكل على قدر قيامه عليه . وقال بعضهم : لا يجوز أن يأكل إلا على وجه القرض ، ويرد عليه إذا كبر . وقال بعضهم : لا يجوز في الأحوال كلها . فأما من قال إنه يجوز أكله على قدر قيامه فإنه احتج بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : إني أنزلت مال الله مني بمنزلة مال اليتيم المراد منه بيت المال { فمن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف } . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلاً سأله فقال : يا ابن عباس أتي إليّ بمواشي أيتام فهل عليَّ جناح إن أصبت من رسل مواشيهم ؟ قال ابن عباس : إن كنت تبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حياضها ولا تفرط لها يوم وردها ، فلا جناح عليك إن أصبت من رسلها . وقال مجاهد : كان يقول من أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن للوصي أن يأكل بالمعروف مع اليتيم ، فإنه يحلب غنمه ويقوم على ماله ويحفظه ، وأما من قال إنه يجوز أكله على وجه القرض احتج بما روي عن محمد بن سيرين أنه قال : سألت عبيدة السلماني عن قوله تعالى { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } قال : هو قرض ثم يرد عليه إذا كبر . فقال : ألا ترى أنه قال في سياق الآية { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } ؟ وقال أبو العالية : ما أكل فهو دين عليه . وقال الشعبي : مثله . وأما من قال إنه لا يجوز أكله ، فلأن الله تعالى قال { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [ النساء : 10 ] وتلك الآية محكمة وهذه من المتشابهة ، لأنه يحتمل التأويل أنهم يأكلون على وجه القرض أو على وجه الإباحة ، فيرد حكم المتشابه إلى المحكم . وقد قيل إن هذه الآية منسوخة بتلك الآية . قال الفقيه رحمه الله : إذا كان الوصي فقيراً ، فأكل من مال اليتيم مقدار قيامه عليه ، أرجو أن لا بأس به ، لأن كثيراً من العلماء أجازوا ذلك والاحتراز عنه أفضل .

قرأ نافع وابن عامر { التي جَعَلَ الله لَكُمْ قَيِّماً } بكسر القاف ونصب الياء بغير ألف ، والباقون بالألف ومعناهما قريب .

وقال أهل اللغة : قياماً وقواماً وقيماً بمعنى واحد . وقوله تعالى { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم } يعني إذا أدرك اليتامى ودفعتم إليهم أموالهم { فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } على ذلك ، وإنما الإشهاد على معنى الاستحباب لنفي التهمة عن نفسه ، ولو لم يشهد على ذلك لجاز كقوله تعالى { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } ثم قال : { وكفى بالله حَسِيباً } أي شهيداً في أمر الآخرة ، وأما في أمر الدنيا ينبغي أن يشهد العدول على ذلك لدفع القال عن نفسه ، لأن الله تعالى لا يشهد له في الدنيا .