الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

قوله : ( وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ ) الآية [ 6 ] .

والمعنى اختبروهم في عقولهم وصلاحهم ، وتثمير( {[11619]} ) أموالهم وذلك بعد الاحتلام ( فَإِنَ_اَنَسْتُم مِّنْهُمْ ) الرشد ( فَادْفَعُوا إِلَيْهِمُ أَمْوَالَهُمْ ) . وقد قال أبو حنيفة : لا حجر على بالغ( {[11620]} ) . وعامة الفقهاء على خلافه( {[11621]} ) .

ومعنى ( إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ ) أي الحلم ، قاله ابن عباس ومجاهد( {[11622]} ) والسدي وابن زيد( {[11623]} ) ، ومعنى ( _انَسْتُم ) وجدتم وعلمتم وأحسستم منهم الرشد ، وأصل آنست في قول القتبي : أبصرت( {[11624]} ) ، والرشد هنا العقل والصلاح في الدين .

وقيل( {[11625]} ) : الرشد : الصلاح( {[11626]} ) في الدين والمال ، وقال مجاهد : الرشد هنا العقل( {[11627]} ) . ( فَادْفَعُوا إِلَيْهِمُ أَمْوَالَهُمْ ) هذا كلام يدل [ على( {[11628]} ) ] أن الآية في المُولى عليهم من يتامى الصبيان الإناث والذكور ، وقال الحسن : رشداً في أموالهم وصلاحاً في دينهم( {[11629]} ) .

قال زيد بن أسلم : وذلك بعد الاحتلام( {[11630]} ) .

قوله : ( وَلاَ تَاكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً ) أي : لا تأكلوا أموال اليتامى بغير ما أباح الله عز وجل .

وقيل( {[11631]} ) : لا تسرفوا في أكلها ، والإسراف في كلام العرب تجاوز الحد المباح إلى غيره بنقص أو زيادة ، وهي في الزيادة أكثر إسرافاً( {[11632]} ) . يقال سَرِفَ يَسْرَفُ ، ويقال مررت بكم فَسَرَفْتُكم أي : فسهوت عنكم وأخطأتكم .

وقوله : ( بِدَاراً ) أي : مبادرة أن يكبروا ، وهو مصدر بادرت( {[11633]} ) . أي : لا تأكلوها مبادرة منكم ( بلوغهم وإيناس( {[11634]} ) الرشد منهم فيأكلوها لئلاّ يرشدوا فيأخذوها منكم )( {[11635]} ) .

قوله : ( وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ( {[11636]} ) ) أي : عن أموال اليتامى بماله .

( وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَاكُلْ بِالْمَعْرُوفِ( {[11637]} ) ) أي : يستقرض من مال يتيمه ، ثم يؤديه إذا أيسر ، قاله عمر رضي الله عنه وابن جبير وعبيدة( {[11638]} ) وأبو العالية( {[11639]} ) .

وروي أن ابن عباس والشعبي وغيرهم : أن له أن يأكل منه إذا احتاج قرضاً ويؤديه إذا أيسر مثلما أكل( {[11640]} ) .

وقال السدي : إذا كان الولي فقيراً أكل مع يتيمه بأطراف أصابعه( {[11641]} ) ، ولا قضاء عليه ، وقاله الشعبي ، وروي مثله عن ابن عباس بأنه لا قضاء عليه( {[11642]} ) .

وعن عائشة( {[11643]} ) : إنّ الوصي يأكل من مال اليتيم مكان قيامه عليه إذا كان فقيراً ( أكل بالمعروف( {[11644]} ) ، ولم يذكر( {[11645]} ) قرضاً ولا رداً وقال النخعي إذا كان الولي فقيراً )( {[11646]} ) أخذ من مال يتيمه ما يسدّ به جوعته ويستر عورته ، ولم( {[11647]} ) تذكر قضاء .

وقال عطاء : يأكل إذا افتقر ولا قضاء( {[11648]} ) .

وقال ابن زيد : يأكل إذا احتاج لقيامه عليهم وحفظه لأموالهم ولا قضاء عليه( {[11649]} ) .

وقيل( {[11650]} ) : المعنى أكلا لولي مع اليتيم هو التمر وشرب( {[11651]} ) رسل( {[11652]} ) الماشية خاصة دون غيره ، ولا قضاء عليه ، وقد توقف بعض أهل العلم فيها( {[11653]} ) وقال : لا أدري لعلها منسوخة بقوله : ( اِنَّ الذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ) الآية [ 10 ] .

قال أبو حنيفة : لا يأكل معه شيئاً إلاّ أن يسافر من أجله فيأخذ( {[11654]} ) القوت( {[11655]} ) .

وقد روي عن ابن عباس أنه قال ( فَلْيَاكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) : يقوت نفسه يعني من مال نفسه حتى لا يحتاج إلى مال يتيمه( {[11656]} ) . وهذا مختار عند العلماء ، و( {[11657]} )حكى معناه الشافعي( {[11658]} ) .

وقال نافع بن أبي نعيم : سألت يحيى بن سعيد وربيعة( {[11659]} ) عن قول الله عز وجل : ( وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَليَسْتَعْفِفْ ) فقال( {[11660]} ) : أنفق عليه بقدر فقره ، وإن كان غنياً أنفق عليه بقدر غناه ، ولم يكن للولي منه شيء( {[11661]} ) .

ثم أمر الله تعالى الأولياء( {[11662]} ) بالإشهاد على اليتامى إذا رشدوا ودفعوا إليهم أموالهم فقال : ( فَإِذَا دَفَعْتُمُ إِلَيْهِمُ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ) الآية [ 6 ] .

أي : كافياً من الشهود الذين يشهدون على القبض ، ونصب ( حسيباً ) على الحال( {[11663]} ) .


[11619]:- (ج): وتثمر (د): وتتميز.
[11620]:- يذهب أبو حنيفة إلى وجوب دفع المال لليتيم إذا بلغ خمساً وعشرين سنة، وإن لم يؤنس منه الرشد، انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/56/59 وأحكام القرآن للشافعي 2/22.
[11621]:- انظر: الجامع للأحكام 5/36-39.
[11622]:- انظر: تفسير مجاهد 1/145.
[11623]:- انظر: جامع البيان 4/251.
[11624]:- انظر: تفسير الغريب 120.
[11625]:- عزاه الطبري إلى الحسن 4/251.
[11626]:- (أ): إصلاح.
[11627]:- انظر: جامع البيان 4/253.
[11628]:- ساقط من (أ).
[11629]:- انظر: جامع البيان 4/251.
[11630]:- انظر: المصدر السابق.
[11631]:- عزاه الطبري لقتادة، انظر: المصدر السابق.
[11632]:- يقال أسرف إذا زاد عن الحد، وسرف سرفاً إذا قصر ونقص، انظر: اللسان، سرف 9/148.
[11633]:- يقال بادرت الشيء مبادرة وبداراً عاجلته وعجلت إليه، انظر: مجاز القرآن 1/117 والمفردات 36 واللسان بدر 4/48.
[11634]:- (أ) (د): وأناس.
[11635]:- ساقط من (ج).
[11636]:- يقال: عفّ الرجل واستعفّ إذا أمسك، والعفة: حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة، وأصل العفّة الاقتصار على تناول الشيء القليل الجاري مجرى العفافة، والآية أمر للغني بالإمساك عن مال اليتيم، انظر: تفسير الغريب 121 والمفردات 331، واللسان عفّ 9/253.
[11637]:- المعروف: اسم جامع لكل قول حسن يعرف بالشرع، أو العقل، انظر: تفسير الغريب 121 والمفردات 343 واللسان عرف 9/239 واختلف العلماء في معنى قوله (فَلْيَاكُلْ بِالمَعْرُوفِ) قيل: هو أن يأكل قرضاً من مال اليتيمة ولا يأخذ منه شيئاً إذا احتاج أخذ وإذا أيسر ردّ، قال بذلك عمر بن الخطاب وابن العباس وأبو العالية والشعبي وابن جبير وعبيدة ومجاهد. انظر: معاني الفراء 1/257 ومعاني الزجاج 2/14، وجامع البيان 4/255-257. وقيل يأخذ من مال يتيمه على قدر حاجته أو عمله، قال بذلك ابن عباس والسدي وعكرمة والنخعي، انظر: جامع البيان 4/257.
[11638]:- هو عبيد بن عمرو السلماني توفي 72 هـ، تابعي أسلم باليمن أيام فتح مكة وهاجر إلى المدينة أيام عمر وتفقه وروى عن الجماعة، ثقة، انظر: تاريخ الثقات 325 وطبقات ابن سعد 6/95، والتهذيب 7/84.
[11639]:- انظر: جامع البيان 4/255-256.
[11640]:- انظر: المصدر السابق.
[11641]:- أكل بأطراف أصابعه بمعنى ألاّ يسرف في الأكل.
[11642]:- انظر: جامع البيان 4/257.
[11643]:- عائشة رضي الله عنها.
[11644]:- انظر: جامع البيان 4/260، والدر المنثور 2/435.
[11645]:- كذا... وهو تحريف صوابه تذكر.
[11646]:- ساقط من (ج).
[11647]:- انظر: جامع البيان 4/258.
[11648]:- انظر: المصدر السابق.
[11649]:- انظر: المصدر السابق.
[11650]:- عزاه الطبري لابن عباس، انظر: المصدر السابق 4/259.
[11651]:- (ج): الشرب.
[11652]:- رسل الماشية: لبنها، ويقال ما بها رسل أي: لبن، انظر: أساس البلاغة 231، واللسان رسل 11/282.
[11653]:- منهم يعقوب بن إبراهيم صاحب أبي حنيفة، انظر: أحكام الجصاص 1/65 والجامع للأحكام 5/42.
[11654]:- (د): ليأخذ. وذهب ابن عباس إلى أنها منسوخة، وذهب العلماء إلى أنها محكمة، وينبني على مذهب ابن عباس أن المعروف هنا في هذه الآية يراد به القرض، وهذا رأي يستبعده مكي في الإيضاح في الناسخ 175، وانظر: نواسخ القرآن 111.
[11655]:- ويقوم رأي أبي حنيفة على أن الأكل بالمعروف معناه أن يأخذ الوصي بقدر أجرته إذا عمل لليتيم عملاً لأن الوصي في هذه الحال كالضارب في جواز النفقة له، انظر: أحكام الجصاص 1/56، وفتح الباري 8/241، وانظر: المصدر السابق.
[11656]:- انظر: جامع البيان 4/255 والدر المنثور 2/336.
[11657]:- انظر: توجيه هذا الاختيار في جامع البيان 4/261.
[11658]:- انظر: أحكام القرآن للشافعي 2/22.
[11659]:- هو أبو عثمان ربيعة التميمي توفي 136 هـ إمام حافظ مجتهد كان بصيراً بالرأي وعليه تفقه مالك. انظر: تاريخ بغداد 8/420 وميزان الاعتدال 2/44، والتهذيب 3/258.
[11660]:- (ج): فقال لا.
[11661]:- شيئاً وهو خطأ.
[11662]:- (د): لأولياء، وانظر: المحرر 4/25 والدر المنثور 2/438.
[11663]:- وقيل على التمييز، والتقدير في الحال والتمييز وكفاك الله حسيباً، انظر: إعراب القرآن المنسوب للزجاج 2/669 والبيان في غريب الإعراب 1/243 والبحر 3/174.