لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

قوله عز وجل : { وابتلوا اليتامى } الآية نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه وذلك أن رفاعة مات وترك ابنه ثابتاً وهو صغير فجاء عمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية { وابتلوا اليتامى } يعني اختبروهم في عقولهم وأديانهم وحقوق أموالهم { حتى إذا بلغوا النكاح } أي مبلغ الرجال والنساء { فإن آنستم } أي أبصرتم وعرفتم { منهم رشداً } يعني عقلاً وصلاحاً في الدين وحفظاً للمال وعلماً بما يصلحه .

فصل في أحكام تتعلق بالحجر وفيه مسائل :

المسألة الأولى : الابتلاء يختلف باختلاف أحوال اليتامى فإن كان ممن يتصرف بالبيع والشراء في الأسواق يدفع إليه شيئاً يسيراً من المال ، وينظر في تصرفه وإن كان ممن لا يتصرف في الأسواق فيختبر بنفقته على أهله وعبيده وإجرائه وتصرفه في أموال داره ، وتختبر المرأة في أمر بيتها وحفظ متاعها وغزلها واستغزالها فإذا رأى حسن تدبير اليتيم وحسن تصرفه في الأمور مرار أو غلب على الظن رشده دفع إليه ماله بعد بلوغه ولا يدفع إليه ماله وإن كان شيخاً يغلب عليه السفه حتى يؤنس منه الرشد .

المسألة الثانية : قال الإمام أبو حنيفة : تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة . وقال الشافعي هي غير صحيحة . واحتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية وذلك لأن قوله تعالى وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح يقتضي أن هذا الابتلاء إنما يحصل قبل البلوغ والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في جميع تصرفاته فثبت أن قوله وابتلوا اليتامى أمر للأولياء بالإذن لهم في البيع والشراء قبل البلوغ أجاب الشافعي بأن قال ليس المراد وابتلوا اليتامى الإذن لهم في التصرف حال الصغر بدليل قوله فإن آنستم منهم رشداً { فادفعوا إليهم أموالهم } وإنما تدفع إليهم أموالهم بعد البلوغ وإيناس الرشد فثبت بموجب هذه الآية أنه لا يدفع إليه ماله حال الصغر فوجب أن لا يصح تصرفه حال الصغر وإنما المراد من الابتلاء هو اختبار عقله واستكشاف حاله في معرفة المصالح والمفاسد .

المسألة الثالثة : في بيان البلوغ وذلك بأربعة أشياء اثنان يشترك فيهما الرجال والنساء . واثنان يختصان بالنساء أما اللذان يشترك فيهما الرجال والنساء فأحدهما بالسن فإذا استكمل المولود خمس عشرة سنة . حكم ببلوغه غلاماً كان أو جارية . ويدل عليه ما روي عن ابن عمر قال : عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني . ثم عرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني . أخرجاه في الصحيحين وهذا قول أكثر أهل العلم . وقال أبو حنيفة بلوغ الجارية باستكمال سبع عشرة سنة وبلوغ الغلام باستكمال ثماني عشرة سنة والثاني الاحتلام وهو إنزال المني الدافق سواء أنزل باحتلام أو جماع فإذا وجد ذلك من الصبي أو الجارية حكم ببلوغه لقوله تعالى { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم } ولقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : خذ من كل حالم دينارا أما نبات الشعر الخشن حول الفرج فهو يدل على البلوغ في أولاد المشركين لما روي عن عطية القرظي قال : كنت من سبي قريظة فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل . فكنت ممن لم ينبت وهل يكون ذلك علامة عن البلوغ في أولاد المسلمين ؟ فيه قولان : أحدهما أنه يكون بلوغا كما في أولاد المشركين والثاني لا يكون ذلك بلوغا في حق أولاد المسلمين لأنه يمكن الوقوف على مواليد أولاد المسلمين والرجوع إلى قول آبائهم بخلاف الكفار فإنه لا يوقف على مواليدهم ولا يقبل في ذلك قول آبائهم لكفرهم فجعل الإنبات الذي هو أمارة البلوغ بلوغاً في حقهم . وأما الذي يختص بالنساء فهو الحيض والحبل فإذا حاضت الجارية بعد استكمال تسع سنين حكم ببلوغها وكذلك إذا ولدت حكم ببلوغها قبل الوضع بستة أشهر لأنها أقل مدة الحمل .

المسألة الرابعة : في بيان الرشد وهو أن يكون مصلحاً في دينه وماله فالصلاح في الدين هو اجتناب الفواحش والمعاصي التي تسقط بها العدالة والصلاح في المال هو أن لا يكون مبذراً والتبذير أن ينفق ماله فيما لا يكون فيه محمدة دنيوية ولا مثوبة أخروية أو لا يحسن التصرف فيغبن في البيع والشراء . فإذا بلغ الصبي وهو مفسد لماله ودينه لم ينفك عنه الحجر ولا ينفذ تصرفه في ماله . وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا كان مصلحاً لماله زال عنه الحجر وإن كان مفسدا لدينه وإذا كان لما له مفسداً لا يدفع إليه المال حتى يبلغ خمسة وعشرين سنة غير أنه ينفذ تصرفه قبله والقرآن حجة الشافعي في استدامة الحجر عليه لأن الله تعالى قال { فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } أمر بدفع المال بعد البلوغ وإيناس الرشد والفاسق لا يكون رشيداً وبعد بلوغه خمساً وعشرين سنة وهو مفسد لماله بالإنفاق غير رشيد فوجب أن لا يجوز دفع المال إليه كما قبل بلوغ هذا السن .

المسألة الخامسة : إذا بلغ الصبي أو الجارية وأونس منه الرشد زال عنه الحجر ودفع إليه ماله سواء تزوج أو لم يتزوج وقال مالك إن كانت امرأة لا يدفع إليها المال ما لم تتزوج فإذا تزوجت دفع إليها مالها ولا ينفذ تصرفها إلا بإذن الزوج ما لم تكبر وتجرب .

المسألة السادسة : إذا بلغ الصبي رشيداً زال عنه الحجر فلو عاد سفيها ينظر فإن كان مبذراً لماله حجر عليه وإن كان مفسداً في دينه فعلى وجهين : إحداهما أن يعاد عليه الحجر كما يستدام إذا بلغ وهو بهذه الصفة . والثاني لا يحجر عليه لأن حكم الدوام أقوى من حكم الابتداء . وعند أبي حنيفة لا حجر على الحر العاقل البالغ بحال والدليل على إثبات الحجر من اتفاق الصحابة ما روي عن هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر ابتاع أرضا سبخة بستين ألف درهم فقال علي : لآتين عثمان ولأحجرن عليك فأتى ابن جعفر الزبير فأعلمه بذلك فقال الزبير أنا شريكك في بيعك فأتى علي عثمان فقال أحجر على هذا فقال الزبير أنا شريكه فقال عثمان كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير فكان اتفاقا منهم على جواز الحجر حتى حتى احتال الزبير لدفعه وقوله تعالى : { ولا تأكلوها إسرافا } الخطاب للأولياء يعني يا معشر الأولياء لا تأكلوا أموال اليتامى بغير حق { وبداراً أن يكبروا } يعني لا تبادروا كبرهم ورشدهم فتفرطوا في إنفاقها وتقولون ننفق كما نشتهي قبل أن يكبروا فيلزمكم تسليمها إليهم . ثم بيّن تعالى حال الأولياء وقسمهم قسمين فقال تعالى : { ومن كان غنياً فليستعفف } أي فليمتنع من أكل مال اليتيم ولا يرزأه قليلاً ولا كثيراً { ومن كان فقيراً } يعني محتاجاً إلى مال اليتيم وهو يحفظه { فليأكل بالمعروف } روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني فقير وليس لي ولي يتيم فقال كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل . واختلف العلماء في حكم هذه الآية فروي عن عمر وابن عباس وابن جبير وأبي العالية وعبيدة السلماني وأبي وائل ومجاهد ومقاتل أنه يأخذ من مال اليتيم على وجه القرض . واختلفوا في أنه هل يلزمه القضاء فذهب قوم إلى أنه يلزمه القضاء إذا أيسر وهو المراد من قوله تعالى فليأكل بالمعروف والمعروف القرض أي يستقرض من مال اليتيم إذا احتاج إليه ، فإذا أيسر قضاه وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير قال عمر بن الخطاب : إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف فإذا أيسرت قضيت . وقال قوم لا ضمان عليه ولا قضاء بل يكون ما يأكله كالأجرة له على عمله وهو قول الحسن والشعبي والنخعي وقتادة قال الشعبي لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة ثم القائلون بجواز الأكل من مال اليتيم اختلفوا في قوله فليأكل بالمعروف . فقال عطاء وعكرمة يأكل بأطراف أصابعه ولا يسرف ولا يكتسي منه ولا يلبس الكتان ولا الحلل لكن يأكل ما يسد به الجوع ويلبس ما يستر به العورة . وقال الحسن يأكل من تمر نخله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه فأما الذهب والفضة فلا يأخذ منه شيئا فإن أخذ وجب عليه رده . وقال الكلبي المعروف هو ركوب الدابة وخدمة الخادم ، وليس له أن يأكل من ماله شيئا وروي أن رجلاً قال لابن عباس إن لي يتيما وإن له إبلا أفأشرب من لبن إبله فقال ابن عباس إن كنت تبغي ضالة إبل وتهنأ جرباها وتليط حوضها وتسقيها يوم ورودها فاشرب غير مضر نسل ولا ناهك في الحلب وقال قوم المعروف أن يأخذ من ماله بقدر قيامه وأجرة عمله ولا قضاء عليه وهو قول عائشة وجماعة من أهل العلم وقوله تعالى : { فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم } هذا أمر إرشاد وليس بواجب أمر الله تعالى الولي بالإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعد البلوغ لتزول عنه التهمة وتنقطع الخصومة لأنه إذا كانت عليه بينة كان أبعد من أن يدعي عدم القبض وتظهر بذلك أمانة الوصي وتسقط عنه اليمين عند إنكار اليتيم القبض { وكفى بالله حسيبا } يعني محاسباً ومجازياً وشاهداً به .