فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

قوله : { وابتلوا اليتامى } الابتلاء : الاختبار . وقد تقدّم تحقيقه . وقد اختلفوا في معنى الاختبار ، فقيل : هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه ، ليعلم بنجابته ، وحسن تصرفه ، فيدفع إليه ماله إذا بلغ النكاح ، وآنس منه الرشد ، وقيل : معنى الاختبار : أن يدفع إليه شيئاً من ماله ، ويأمره بالتصرف فيه حتى يعلم حقيقة حاله ، وقيل : معنى الاختبار : أن يرد النظر إليه في نفقة الدار ليعرف كيف تدبيره ، وإن كانت جارية ردّ إليها ما يردّ إلى ربة البيت من تدبير بيتها . والمراد ببلوغ النكاح بلوغ الحلم كقوله تعالى : { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم } [ النور : 59 ] ومن علامات البلوغ الإنبات ، وبلوغ خمس عشرة سنة . وقال مالك ، وأبو حنيفة ، وغيرهما : لا يحكم لمن لم يحتلم بالبلوغ إلا بعد مضي سبع عشرة سنة ، وهذه العلامات تعم الذكر ، والأنثى ، وتختص الأنثى بالحبل ، والحيض .

قوله : { فإن آنستم } أي : أبصرتم ، ورأيتم ، ومنه قوله : { مِن جَانِبِ الطور نَاراً } [ القصص : 29 ] . قال الأزهري : تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحداً ، معناه : تبصر . وقيل : هو هنا بمعنى : وجد وعلم ، أي : فإن وجدتم ، وعلمتم منهم رشداً . وقراءة الجمهور : { رشدا } بضم الراء وسكون الشين . وقرأ ابن مسعود ، والسلمي ، وعيسى الثقفي بفتح الراء ، والشين ، قيل : هما لغتان ، وقيل : هو بالضم مصدر رشد ، وبالفتح مصدر رشد .

واختلف أهل العلم في معنى الرشد هاهنا ، فقيل : الصلاح في العقل والدين ، وقيل : في العقل خاصة . قال سعيد بن جبير ، والشعبي : إنه لا يدفع إلى اليتيم ماله إذا لم يؤنس رشده ، وإن كان شيخاً . قال الضحاك : وإن بلغ مائة سنة . وجمهور العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم لا يزول عنه الحجر . وقال أبو حنيفة ، لا يحجر على الحرّ البالغ ، وإن كان أفسق الناس ، وأشدهم تبذيراً ، وبه قال النخعي ، وزفر ، وظاهر النظم القرآني أنها لا تدفع إليهم أموالهم إلا بعد بلوغ غاية هي : بلوغ النكاح مقيدة هذه الغاية بإيناس الرشد ، فلا بد من مجموع الأمرين ، فلا تدفع إلى اليتامى أموالهم قبل البلوغ ، وإن كانوا معروفين بالرشد ، ولا بعد البلوغ إلا بعد إيناس الرشد منهم .

والمراد بالرشد : نوعه ، وهو المتعلق بحسن التصرف في أمواله ، وعدم التبذير بها ، ووضعها في مواضعها .

قوله : { وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُوا } الإسراف في اللغة : الإفراط ، ومجاوزة الحدّ . وقال النضر بن شميل : السرف التبذير ، والبدار المبادرة { أَن يَكْبَرُوا } في موضع نصب بقوله : { بداراً } أي : لا تأكلوا أموال اليتامى أكل إسراف ، وأكل مبادرة لكبرهم ، أو لا تأكلوا لأجل السرف ، ولأجل المبادرة أو لا تأكلوها مسرفين ، ومبادرين لكبرهم ، وتقولوا ننفق أموال اليتامى . فيما نشتهي قبل أن يبلغوا ، فينتزعوها من أيدينا . قوله : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } بين سبحانه ما يحل لهم من أموال اليتامى ، فأمر الغنيّ بالاستعفاف وتوفير مال الصبي عليه ، وعدم تناوله منه ، وسوّغ للفقير أن يأكل بالمعروف .

واختلف أهل العلم في الأكل بالمعروف ما هو ؟ فقال قوم : هو القرض إذا احتاج إليه ، ويقضي متى أيسر الله عليه ، وبه قال عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وعبيدة السلماني ، وابن جبير ، والشعبي ، ومجاهد ، وأبو العالية ، والأوزاعي ، وقال النخعي ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة : لا قضاء على الفقير فيما يأكل بالمعروف ، وبه قال جمهور الفقهاء . وهذا بالنظم القرآني ألصق ، فإن إباحة الأكل للفقير مشعرة بجواز ذلك له من غير قرض . والمراد بالمعروف : المتعارف به بين الناس ، فلا يترفه بأموال اليتامى ، ويبالغ في التنعم بالمأكول ، والمشروب ، والملبوس ، ولا يدع نفسه عن سدّ الفاقة ، وستر العورة . والخطاب في هذه الآية لأولياء الأيتام القائمين بما يصلحهم كالأب ، والجدّ ، ووصيهما . وقال بعض أهل العلم : المراد بالآية : اليتيم إن كان غنياً ، وسع عليه ، وعفّ من ماله ، وإن كان فقيراً كان الإنفاق عليه بقدر ما يحصل له ، وهذا القول في غاية السقوط .

قوله : { فإذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } أي : إذا حصل مقتضى الدفع ، فدفعتم إليهم أموالهم ، فأشهدوا عليهم أنهم قد قبضوها منكم لتندفع عنكم التهم ، وتأمنوا عاقبة الدعاوى الصادرة منهم ، وقيل : إن الإشهاد المشروع هو ما أنفقه عليهم الأولياء قبل رشدهم ، وقيل : هو على ردّ ما استقرضه إلى أموالهم ، وظاهر النظم القرآني مشروعية الإشهاد على ما دفع إليهم من أموالهم ، وهو يعمّ الإنفاق قبل الرشد ، والدفع للجميع إليهم بعد الرشد : { وكفى بالله حَسِيباً } أي : حاسباً لأعمالكم شاهداً عليكم في كل شيء تعملونه ، ومن جملة ذلك معاملتكم لليتامى في أموالهم ، وفيه وعيد عظيم ، والباء زائدة ، أي : كفى الله .

/خ6