السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

{ وابتلوا } أي : اختبروا { اليتامى } في دينهم وتصرفهم بأن تختبروا ولد التاجر بالبيع والشراء والمماكسة فيهما ، وولد الزراع بالزراعة والنفقة على القوّام بها ، والمرأة فيما يتعلق بالغزل والقطن وصون الأطعمة عن الهرّة ونحوها وحفظ متاع البيت ، وولد الأمير ونحوه بالإنفاق مدّة في خبز وماء ولحم ونحوها ، كل ذلك على العادة في مثله ، ويشترط تكرار الاختبار مرّتين أو أكثر بحيث يفيد غلبة الظنّ برشده ، ووقت الاختبار قبل البلوغ ولا يصح عقده بل يمتحن في المماكسة فإذا أراد العقد عقد الوليّ { حتى إذا بلغوا النكاح } أي : صاروا أهلاً له إمّا بالسنّ وهو استكمال خمس عشرة سنة تحديدية لخبر ابن عمر رضي الله تعالى عنه : ( عرضت على النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ولم يرني بلغت وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ورآني بلغت ) ، رواه ابن حبان وأصله في الصحيحين وابتداؤها من انفصال جميع الولد ، قيل : عرض عليه صلى الله عليه وسلم سبعة عشر من الصحابة وهم أبناء أربع عشرة فلم يجزهم وعرضوا عليه وهم أبناء خمس عشرة فأجازهم .

وإما بخروج المنيّ في وقت إمكانه وأقله تسع سنين قمرية تحديدية سواء أخرج في نوم أم يقظة بجماع أو غيره وتزيد المرأة على هذين الأمرين الحيض لوقت إمكانه وأقله تسع سنين قمرية تقريبية فيغتفر فيها زمن لا يسع حيضاً وطهراً ، والولادة لأنها يسبقها الإنزال ويحكم بالبلوغ قبلها بستة أشهر وشيء وإنبات شعر العانة الخشن دليل للبلوغ في حق الكفار لا في حق المسلمين ولا عبرة بإنبات شعر الإبط واللحية .

{ فإن آنستم } أي : أبصرتم { منهم رشداً } وهو صلاح الدين والمال ، أما صلاح الدين فلا يرتكب محرّماً يسقط العدالة من كبيرة أو إصرار على صغيرة ويعتبر في رشد الكافر دينه ، وأما صلاح المال فلا يضيعه بإلقائه في بحر أو يصرفه في محرم ، أو باحتمال الغبن الفاحش في المعاملة ونحوها ، وليس صرفه في الخير بتبذير ولا صرفه في الثياب والأطعمة النفيسة وشراء الجواري والاستمتاع بهنّ ؛ لأنّ المال يتخذ لينتفع به ، نعم إن صرفه في ذلك بطريق الاقتراض له حرم عليه { فادفعوا إليهم أموالهم } من غير تأخير { ولا تأكلوها } أيها الأولياء وقوله تعالى : { إسرافاً } أي : بغير حق { وبداراً } حالان أي : مسرفين ومبادرين إلى إنفاقها مخافة { أن يكبروا } رشداء فيلزمكم تسليمها إليهم { ومن كان } من الأولياء { غنياً فليستعفف } أي : يعف عن مال اليتيم ويمتنع من أكله { ومن كان فقيراً فليأكل } منه { بالمعروف } أي : بقدر الأقلّ من حاجته وأجرة سعيه كما مرّ ، ولفظ الاستعفاف والأكل بالمعروف مشعر بأن الوليّ له حق في مال الصبي .

وروى النسائيّ وغيره أنّ رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إنّ في حجري يتيماً أفآكل من ماله ؟ قال : «بالمعروف ) .

تنبيه : إيراد هذا التقسيم بعد قوله : { ولا تأكلوها } يدل على أنه نهي للأغنياء منهم أن لا يأخذوا لأنفسهم من أموال اليتامى شيئاً ، وللفقراء منهم أن لا يأخذوا منها شيئاً بغير المعروف ، كما أنّ قوله : { ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا } يدل على أنه نهي للفريقين عن أكلها إسرافاً ومبادرة لكبرهم { فإذا دفعتم إليهم } أي : اليتامى { أموالهم فأشهدوا } ندباً { عليهم } بأنهم قبضوها ، فإنّ الإشهاد أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة فتحتاجون إلى البينة وهذا يدلّ على أنّ القيم لا يصدّق في دعواه الدفع ولو أبى إلا ببينة وهو مذهب الشافعيّ ومالك خلافاً لأبي حنيفة { وكفى بالله حسيباً } أي : حافظاً الأعمال خلقه ومحاسبتهم .