التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{۞أَوَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَانُواْ هُمۡ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةٗ وَءَاثَارٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٖ} (21)

انتقال من إنذارهم بعذاب الآخرة على كفرهم إلى موعظتهم وتحذيرهم من أن يحل بهم عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة كما حلّ بأمم أمثالهم .

فالواو عاطفة جملة { ألم يسيروا في الأرض } على جملة { وأنذرهم يوم الأزِفَة } [ غافر : 18 ] الخ . والاستفهام تقريري على ما هو الشائع في مثله من الاستفهام الداخل على نفي في الماضي بحرف ( لْم ) ، والتقرير موجه للذين ساروا من قريش ونظروا آثار الأمم الذين أبادهم الله جزاء تكذيبهم رسلهم ، فهم شاهدوا ذلك في رحلتيهم رحلةِ الشتاء ورحلة الصيف وإنهم حدثوا بما شاهدوه مَن تضمهم نواديهم ومجالسهم فقد صار معلوماً للجميع ، فبهذا الاعتبار أسند الفعل المقرر به إلى ضمير الجمع على الجملة .

والمضارع الواقع بعد ( لَم ) والمضارعُ الواقع في جوابه منقلبان إلى المضي بواسطة ( لم ) . وتقدم شبيه هذه الآية في آخر سورة فاطر وفي سورة الروم .

والضمير المنفصل في قوله : { كانُوا هُم } ضمير فصل عائد إلى { الظالمين } [ غافر : 18 ] وهم كفار قريش الذين أريدوا بقوله : { وأنذرهم } [ غافر : 18 ] ، وضمير الفصل لمجرد توكيد الحكم وتقويته وليس مراداً به قصر المسند على المسند إليه ، أي قصر الأشدّية على ضمير : كانوا } إذ ليس للقصر معنى هنا كما تقدم في قوله تعالى : { إنني أنا الله } في سورة [ طه : 14 ] وهذا ضابط التفرقة بين ضمير الفصل الذي يفيد القصر وبين الذي يفيد مجرد التأكيد . واقتصار القزويني في « تلخيص المفتاح » على إفادة ضمير الفصل الاختصاص تقصير تبع فيه كلام « المفتاح » وقد نبه عليه سعد الدين في « شرحه على التلخيص » .

والمراد بالقوة القوةُ المعنوية وهي كثرة الأمة ووفرةُ وسائل الاستغناء عن الغير كما قال تعالى : { فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا مَن أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } [ فصلت : 15 ]

وجملة { كانوا هم أشد منهم قوَّة } الخ مستأنفة استئنافاً بيانياً لتفصيل الإِجمال الذي في قوله : { كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم } لأن العبرة بالتفريع بعدها بقوله : { فأخَذَهم الله بذنوبهم } .

وقرأ الجمهور { منهم } بضمير الغائب ، وقرأه ابن عامر { منكم بضمير خطاب الجماعة وكذلك رسمت في مصحف الشام ، وهذه الرواية جارية على طريقة الالتفات .

والآثار : جمع أثر ، وهو شيء أو شكل يرسمه فعل شيء آخر ، مثلُ أثر الماشي في الرمْل قال تعالى : { فقبضت قبضة من أثر الرسول } [ طه : 96 ] ومثلُ العشب أثر المطر في قوله تعالى : { فانظر إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها } [ الروم : 50 ] ، ويستعار الأثر لما يقع بعد شيء كقوله تعالى : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم } [ الكهف : 6 ] .

والمراد بالأرض : أرض أمتهم .

والفاء في { فأخَذَهُم الله } لتفريع الأخذ على كونهم أشدَّ قوة من قريش لأن القوة أريد بها هنا الكناية عن الإِباء من الحق والنفور من الدعوة ، فالتقدير : فأعرضوا ، أو فكفروا فأخذهم الله .

والآخذ : الاستئصال والإِهلاك كنّي عن العقاب بالأخذ ، أو استعمل الأخذ مجازاً في العقاب .

والذنوب : جمع ذنب وهو المعصية ، والمراد بها الإِشراك وتكذيب الرسل ، وذلك يستتبع ذنوباً جمة ، وسيأتي تفسيرها بقوله : { ذلك بأنَّهم كانت تأتِيهِم رُسُلُهم بالبينات } .

ومعنى : { وما كانَ لهُم مِنَ الله من وَاق } ما كان لهم من عقابه وقدرته عليهم ، فالواقي : هو المدافع الناصر .

و { مِن الأولى متعلقة بواقٍ ، } وقدم الجار والمجرور للاهتمام بالمجرور ، و { من } الثانية زائدة لتأكيد النفي بحرف ( ما ) وذلك إشارة إلى المذكور وهو أخذ الله إياهم بذنوبهم .

والباء للسببية ، أي ذلك الأخذ بسبب أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا بهم ، وفي هذا تفصيل للإجمال الذي في قوله : { فأخذهم الله بذنوبهم } . والجملة بعد ( أنَّ ) المفتوحة في تأويل مصدر . فالتقدير : ذلك بسبب تحقق مجيء الرسل إليهم فكفرهم بهم .